( دفاع عن البلاغة والبلاغيين)
1ـ هل النقد مجرد "أكل عيش" ودعاية "أيديولوجية"!
(جريدة الرياض 5/5/96)
2 ـ ضرورة مناسبة النتائج للمقدمات
جريدة
الرياض 22/08/96)
1ـ هل النقد مجرد "أكل عيش" ودعاية
"أيديولوجية"!
(تعقيب على مقال السيد إبراهيم بن منصور التركي)
كتب السيد إبراهيـم بـن منصـور الـتـركي في جريدة
الرياض ليوم الأربعــاء 14/1/1417 مقـالا
بعنوان :
" كتابات النقاد والأدباء كذبة بيضاء"
.
قد لا
يعترض القارئ ، منذ البداية ، على مثل هذا العنوان ، وهذا ما فعلناه حين شرعنا في
قراءته. فقد يشفع له أن يكون تعبيرا عن توجه مذهبي يعترف صراحة أو ضمنا بوجود
الآخر، ولا ينازعه شرعيته ؛ ففي هذه الحالة لكُلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها. وقد يشفع له
أن يحلق في عوالم من التجريد الفلسفي الباعث على التأمل في الظاهرة ككل . غير أن
المقال لم يسر لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك . بل سلك طريقا تطبيقيا انتقائيا
معتمدا شذرات وشوا رد من الأمثلة غير ممثَّلة ذات طابع محلي في الغالب ليصدر من خلالها
حكما على ظاهرة كونية ( الأدب والنقد) كان الأجدر التعامل بشأنها مع المشاريع
التاريخية الكبرى التي تشكل مرجعية النقد والبلاغة لدى الأمم كلها أو أكثرها أو
بعضها ، ولكل رتبـته .
لا نستطيع أن
نصدر حكما بالوجود و العدم على النقد والبلاغة دون استحضار أرسطو وعبد القاهر
الجرجاني وحازم القرطاجني ومجموعة الشكلانيين الروس أو من على شاكلة هؤلاء من
أصحاب الاقتراحات الكرى في تحديد مفهوم الأدب والنقد الأدبي. وفي غير هذا نكون كمن
يغير على الدار في غياب أصحابها فيخرج منتصرا ، سعيدا بانتصاره !
ليس مما يهمني
هنا مناقشة محتوى الأمثلة التي ساقها الباحث : هل هي سليمة في ذاتها أو غير سليمة
؛ الذي يهمني هو النتيجة التي رتبها عنها. ولذلك سأقف عند بعض القضايا الكبرى
المستهدفة بالتمثيل لا عند المثال نفسه.
1 ـ إن حضور
الخلفيات أو المرجعيات مسألة قديمة حديثة يعرفها ويناضلها القدماء والمحدثون على
السواء خاصة حين تصير عائقا للأدبية . فهي ليست من الخفاء بحيث نثبتها من خلال
مثال أو مثالين لفلان أو فلان بل تعالج من خلال المدارس والنزعات ( الواقعية
الاشتراكية والنقد الجدلي مثلا). يمكن ، خلافا لما ذهب إليه ، القول بأن انحسار
الواقعية الاشتراكية على يد نزعات
مضادة تعمل لصالح البنية اللغوية أو الفن للفن ، دليل على أن النقد الأدبي موجود
وليس العكس.
ولذلك فتحامل
صبري حافظ على نجيب محفوظ وترحيبه بشكري لا يضيف جديدا إلى ما هو معلوم عند نقاد
النقد ، ومثله في ذلك كتابة الدكتور
الهويمل عن الأدب الإسلامي حيث تحل الكتابة النقدية محل نص غير موجود . فأما الزبد
فيذهب جفاء ، ولكن النقد يبقى موجودا .
والأدب والنقد ،
بما هما ممارسه اجتماعية ، لا يخلوان من مقصدية وخلفيات ترجع إلى القيم المشتركة
المهيمنة في سياق تاريخي معين وهي تعمل في صراع وظيفي منتج مع العناصر البنائية
الأخرى في الشعر: الموسيقى والتصوير ..الخ وهذه قضية من كيمياء الشعر التي تعالجها
البلاغة . ( كنا عرضنا لجانب منها تحت عنوان : المقام الشعري والمقام الخطابي .
نشر في مجلة دراسات سم يائية .)
2 ـ الاحتجاجُ ضد
الأدب بلغة الحياة اليومية بحيث يفهم أن ما يستعمل في لغة الحياة اليومية ليس أدبا
، ثم ذكر أمثلة من الحياة اليومية تقوم على الكناية والاستعارة تمهيدا لإنكار وجود
الأدب مسلكٌ ينطوي على تبسيط يجافى الروح العلمية . إن الأمر ليس بهذه البساطة
خاصة بعد التفريق بين الشعر والشعرية وبعد أن أصبح للشعرية مجالات واسعة للتحقق
غير الشعرِ ( انظر بنية اللغة الشعرية ، لجان كوهن ، ترجمة محمد العمري ومحمد
الولي).
ويرتِّب عن عدم
وجود الأدب عدم وجود النقد قائلا:" القول بأنه ليس ثمة أدب سيعني بالضرورة
أنه ليس ثمة نقد كذلك . إذن ما ذا يمكن أن نسمي ما يملأ أرفف (كذا) المكتبات وبطون
الصحف من الكتابات النقدية ؟؟!!. وهو سؤال وجيه بلا شك. لكن الإجابة عليه (كذا)
يسيرة ". والإجابة اليسيرة لا تخرج عند الكاتب عن أمرين :
1) "أكل
عيش" ( " ومن ذلك ما يكتبه كثيرـ وليس جميع ـ أرباب البلاغة")
(كلامه).
2) ترويج لشيء
غير الجمال : الكتابة الأيديولوجية .
في هذه الفقرة
أشياء كثيرة من عيوب الكتابة مثل ادعاء وجاهة السؤال ، وسهولة الجواب ؛ إن حال
الكاتب في هذه الحال كحال من يصفق لنفسه قبل أن يصفق له أحد. فنحن ، من جهتنا ،
نصرح لهذا الأخ الكريـم مخلصـين غير مزايدين أننا لم نجد سؤاله وجيها ، ولا جوابه
مقنعا ، والله على ما نقول وكيل .
3) تعتبر الخاتمة
التي أنهى بها الكاتب مقاله تخريبا للمقال وجناية عليه ، إنها خاتمة غير محسوبة
العواقب ؛ كيف ذلك؟
في الوقت الذي
يَعتبر فيه النقد " أكل عيش " ودعاية " أيديولوجية" ، أي
تعوزه الموضوعية العلمية يورد لائحة طويلة من النقاد والبلاغيين والبلاغيين
الإعجازيين والبلاغيين الشرعيين ( " وآخرين لا يتسع المقام لذكرهم"). (
كلامه) . يتواطؤون كلهم على أن للحذف في قوله تعالى : " حتى إذا جاءوها وفتحت
أبوابها . الخ" غرضا فنيا" واحدا : " يقولون إن الغرض هو أن جواب
الشرط المحذوف شيء لايحيط به الوصف
، فالمبالغة في تصوير ثواب أهل الجنة استدعى الحذف ، أي كأن المنطوق اللغوي لا
يقدر على حمل الشحنة الدلالية والشعورية التي يتضمنها الكلام المحذوف .."
لم يفكر الكاتب
في أن اللائحة التي يقدمها ـ فضلا عن التي يشير إليها ـ من البلاغيين تحتوي نزعات ثقافية مختلفة إلى حدود التباين .
(كالاختلاف الذي يمكن أن نجده بين حازم وهو متأثر كثيرا بالثقافة اليونانية وبين
ابن تيمية وابن القيم وهما خصمان لهذه الثقافة . وكذا الاختلاف بين الانتماءات
المذهبية لهؤلاء العلماء ( معتزلة وأشاعرة)) وهم مع اختلاف مرجعياتهم الثقافية
والمذهبية مجمعون على حكم واحد في تفسير فاعلية الحذف في الآية الكريمة الأنفة
الذكر: إن في ذلك لعبرة .... وإن في ذلك لدليلا على أن النقد ، خاصة حين يستند إلى
الوصف اللساني (أي اللاغي) للنصوص يكون على درجة عالية من الإقناع مهما اختلفت الأيديولوجيات
. والحذف في الآية المذكورة مثل الحذف في قوله تعالى :" ولو أن قرلآنا سيرت
به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا". فمن
التفسيرات الواردة : لكان هذا القرآن ، أو لما آمنوا .. والله أعلم. وقد تحدث
الرماني عن مزية الحذف في هذه الآية الكريمة حديثا لا مزيد عليه.( انظر النكت).
والحذف أحد الأسس
البلاغية إلى جانب التقديم والتأخير والإلحاق والنقل الدلالي والتكرار والتوازن ..
وذلك عند القدماء والمحدثين على السواء. (قد نعود لهذا الموضوع إذا تطلب الأمر ذلك
).
نقول في الختام :
إن تاريخ العلوم يسير ويتطور من خلال الأعمال الكبرى المبدعة لعلماء كبار كثيرا ما
تجرعوا السم المادي والمعنوي ( تذكَّر أرسطو وسيبويه وابن رشد ..) من أجل مبادئهم
واختياراتهم . وإن إرجاع ما تحتويه المكتبات من جهود هؤلاء إلى مجرد "أكل
العيش " بما تحمله هذه العبارة من تهوين لدليل على غياب هذا الأفق الإنساني
أو الشرود عنه تحت ضغط حسابات ظرفية .
2 ـ ضرورة مناسبة النتائج للمقدمات
(تعقيب
على رد السيد إبراهيم التركي)
نشر بجريدة الرياض الخميس 22/8/1996
يعطي رد السيد إبراهيم
التركي الهادئ الأكثر تأدبا انطباعا بأن الاختلاف بيننا راجع إلى سوء الفهم (
"الفهم بالمقلوب") أو إعطاء الأمور أكثر من حجمها الطبيعي (حيث يطلب من
مقال صحفي أن يتحول إلى بحث أكاديمي يكون "ملزما بالنهج البيروقراطي")!
وهذا سيكفي ـ لو كان الأمر كذلك ـ لسد باب النقاش في الموضوع . والواقع ، من زاوية
نظري، أن هناك شيئا جوهريا نتفق فيه ( يتعلق بالباعث على الكتابة في الموضوع وما
يحمله من غيرة على الأدب والنقد) وأشياء أخرى ما تزال موضع خلاف ، بل عمق الخلاف
حولها بالعنوان الذي اختير للرد (" الآن صار الأدب نخبويا..") سأقوم بتعليق موجز على بعض جوانب القضية
حسب ما يسمح به المقام.
1) لا أختلف مع
الكاتب في أن تحويل النقد إلى مجاملات إخوانية ودعاية أيديولوجية آفة يجب التصدي
لها. سميت ذلك في مناسبات سابقة "صناعة التماثيل وعبادة الأصنام ".
فهناك أدباء كبار معروفون ـ سامحهم الله ـ صنعوا جوقات من الأدعياء في الشعر
والقصة والمسرح لتكثير الأصوات الإنتاجية، الضامنة لمركز قيادةٍ في جمعية أو اتحاد
للكتاب أو المثقفين أو الأدباء. وهناك من انطلق من حسن نية (التشجيع) فوقع في
الخطأ نفسه لأن حسن النية وحده لا يكفي في مجال العلم والإبداع بل إن دفع الشيكات
النقدية بدون رصيد في هذا المجال يبلط الطريق إلى الغرور والفشل وتكثير المعوقين
والببغوات . إن التشجيع الممكن في المجال العلمي هو العطاء على قدر العطاء لا أكثر
ولا أقل. أما المهرجون الأيديولوجيان فإنهم يعلمون ما يفعلون ، ومع ذلك فإن الزبد
يذهب جفاء، ولا يحتفظ الناس إلا بما ينفعهم.
2) وبعد ذلك فإني
لا أرتب على هذا القدر المتفق عليه حكماً تعميميا على البلغاء والنقاد بل أفضل أن
تسمي الأشياء بأسمائها. فلو تحدث الباحث عن تجار النقد والبلاغة لما كان لدي
اعتراض ، وإن كنت لا أصادر حق مؤلفاتهم في الوجود على الرفوف ولو للعبرة . وأنا
هنا أتحدث عن المبدأ ولا أدخل في حسابي الأمثلة التي أوردها، أي لا أؤيد حكمه
عليها ولا أنفيه وقد أفعل ذلك في عمل تطبيقي يستحضر رؤيتهم وإنجازاتهم. ولست ممن
يتصيد الهفوات ، فأخطاء العلماء مشهورة وقد ألف الصفدي في أمثلة منها كتاب "
درة الغواص في أوهام الخواص" ، وفي
الخصائص لابن جني حديث من هذا القبيل ، وقد رأيت العاجزين في كل عصر يشنعون
على العلماء ويفسدون حياتهم بالتشهير بالهفوات الملازمة لإنسانية الإنسان. الذي
يهمني هو مدى انسجام الرؤية أو وجود خلل بنيوي لا ينجبر فيها.
إن المشكلة ليست
في الواقع الموصوف بل في النتائج المترتبة عنه. من حق الباحث أن يقف عند نماذج
محلية معاصرة منتقاة حسب اشتراكها ـ في نظره ـ في سلوك أو موقف ما. ولكن هل يجوز
من الناحية المنهاجية ترتيب نتائج كونية على نموذج محلي أو قومي منتقى (أي غير ممثِّل). فأن يكون زيد أو عمرو
أو(َس) منحرفا بالنقد عن الموضوعية فهذا ليس مُقدَّمة كافية للنتيجة المتوخاة وهي
إنكار وجود النقد. بل لابد من مقدمة أخرى تثبت تمثيليته للأدب بكل معانيه ، وهذا
ما لم يبرهن عنه في المقال .
3) فوجئت في مقال
الزميل المحترم بالعبارة التالية :"حاول د.العمري أن يـحـدد لي المنهج الذي
أتناول به موضوعي فكان يجب على ـ على حد قوله أن أراجع أرسطو وعبد القاهر
والقرطاجني... وكان على مرة أخرى أن أعالج أثر المرجعيات على الأدب."
أحسست منذ
البداية أن عبارتي : " يجب
على" و"كان على"
بعيدة عني .. ولست أجد في نفسي
نزوعاً لفرض منهج على أحد . ثم رجعت إلى ما نشرته في جريدة الرياض فلم أجد
"في حد قولي" عبارة من هذا القبيل .
ولكن قرأت ، فيما قرأت يوم كنت أبحث عن
منهج لا يقيد حريتي ، أن هناك ضوابط منطقية وابستمولوجية يؤدي إغفالها إلى الخلل
وعدم الإقناع وهي تتعلق بالتمثيلية في المتن والتماسك في العرض وقابلية الاختبار
(تأييدا وتفنيداً) ..إلخ.
بل إن عبارتي
التي أُوِّلَتْ إلى صيغة إصدار الأوامر للآخرين تحرص على جعلي شريكا في المسؤولية
، فالذي قلته هو :" لا نستطيع أن نصدر حكما بالوجود و العدم على النقد
والبلاغة دون استعضار أرسطو وعبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني والشكلانيين
الروس أو من على شاكلة هؤلاء من أصحاب الاقتراحات في تحديد مفهوم الأدب والنقد
الأدبي."
فهل نستطيع؟
أنا لا أستطيع.
فإذا كان هناك من يعتقد بإمكان ذلك فلا
يبقى إلا أن نعلن الاختلاف ، والاختلاف رحمة لأنه لا يفسد للود قضية. نحن نتبادل الرأي على فرض الاشتراك في
هذه المبادئ .
أما أن المقالة
"صحفية " غير بيروقراطية. موجهة لجمهور عام، فهذا جدير بأن يمنعنا في
مثل هذه المقامات من إصدار الأحكام الكبرى من هذا الحجم، إن موضع طرح مثل هذه
الأمثلة والمواقف " الطليعية " المغامرة هو حلقات المتخصصين المطعمين ( بالمعنى الطبي). فهم
المؤهلون، وحدهم، لإعطاء عبارة الكاتب المبرزة في النص التالي حجما مناسباً : "هذا يؤكد أن التفرقة
بين الصيخان وعامل المطبعة ـ أو بين الأدب واللا أدب ـ هي تفرقة مدعاة غير حقيقة.
هناك شيء خارج النص هو المهماز الذي يحرك الناقد إلى تمجيد النص. النقد في حقيقته
هو محاولة للإقناع بالجدل، أي أنه سفسطة بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة، وهذه هي
الحقيقة التي لا يجرؤ كل الأدباء والنقاد على قولها.."
الحقيقة أنه يجب
الحذر من السفسطة..إلخ
فما هو الشيء
الذي يسميه الكاتب المحترم "اللا أدب" ويرفض التفريق بينه وبين الأدب؟
إذ فهمنا من نص كلامه أن "اللا أدب" هو الكلام العادي الذي منه كلام
عامل المطبعة نكون قد فهمنا كلام الكاتب بالحرف . ألم يُقم الباحث بحثه على نفي
أدبية الأدب بحجة أن ما اعتبر ميزة له موجود في الكلام العادي كذلك.
فكيف يكون الكلام
العادي أدباً وهو حجة على عدم آدبية الأدب؟ على هذا الأساس بنيت فهمي حين قلت:
" الاحتجاج
ضد الأدب بلغة الحياة اليومية بحيث يُفهَم أن ما يستعمل في لغة الحياة اليومية ليس
أدبا... مسلك ينطوي على تبسيط."
ألم يقدم الباحث
مجموعة من الأمثلة المجازية من لغة الحياة اليومية ليرتب عنها النتيجة التي أنازعه
فيها ، وهي: إنكار وجود شيء اسمه الأدب؟ قد يكون هناك فرق بين ما يريده الكاتب وما
تنطق به عبارته ، وأنا لست مسؤولا إلا عن الذي تنطق به العبارة. ولذلك قلت يُفهم
ولم أقل يقصد .
أتمنى أن يعود
الكاتب إلى مناقشة جان كوهن لقضيته المعيار في كتابه بنية اللغة الشعرية كما يعود
إلى مفهوم الأسلوبية عند شارل بالي ويتأمل ما انتهت إليه عند نقادها ليرى إلى أي
حد يمكن قيام أسلوبية من النوع الذي يستهويه في هذا المقال.
بقيت قضية أخيرة
، لعلها القضية الأولى ؛ قضية نخبوية الأدب التي استأثرت بعنوان رد الكاتب ("
الآن صار الأدب احتكارا نخبويا ..)
وأنا أتساءل :
متىكان الأدب والفنون الرفيعة عامة غير ذلك؟ وهل يمكن أن تكون غير ذلك؟
هناك على الدوام
ثقافة عالمة وثقافة شعبية. المشكل هو مشكل القنوات الموصلة بين الثقافتين . هذه القنوات
التي تقوم بدور الوسيط ، أو بالدور البيداغوجي هناك دائما عمليات بيع بالتقسيط
تتخذ أشكالا مختلفة حسب العصور.
وأعتقد أن
الاستشهاد ضد النخبوية لصالح الفاعلية الجماهيرية بأبي العلاء المعري وتشبيه عمله
وعمل أمثاله بعمل القنوات الفضائية لايخدم القضية ( " في الماضي ـ هناك حيث
امرؤ القيس ..و..حتى المعري ـ كان الأدب ترجمانا ناطقا بلسان الأمة ، صوتها
الإعلامي ، قنواتها الفضائية ") .
أتساءل هل تتسع الصفة التي أعطيت للأدب
القديم لشعر التكسب وأدب الكدية وأدب الهجاء والمفاخرات ( دعك من الغزل بالمذكر
وما شكله ) و النقد المبني على الأهواء والتحالفات والانتصار للقديم على كل جديد
مما تجده عند خصوم آبى تمام والمتنبي
على وجه خاص ؟ أم إن المسألة نسبية ، وحال العصر الحديث أحسن من الذي قبله
من هذه الزاوية ! هذا ما أراه ، والله أعلم. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ؛ لا
أعتقد أن في الأدب القديم ( باستثناء الشطحات الصوفية) أدبا أكثر نخبوية في بنائه اللغوي والفكري من
أدب أبي العلاء المعري. ليس في المغازي التخييلية الملبسة في الغفران حيث يدفع
بالتجسيد الظاهري إلى المأزق عن طريق المجاراة الساخرة ، بل في البناء اللغوي
لشعره ؛ فهاك الإلغاز والتورية والغريب مما حير أكابر العلماء. ثم هناك الأسئلة
الوجودية المحيرة التي لايستوعبها ، ولا يخرج منها سالما ، غير النخبة المستنيرة.
أعتقد أنه سيبقى
هناك التباس ما دمنا لم نفرق بين واقع أدبي أو نقدي لا نراه على ما يرام ونريد أن
نمارس الحق الطبيعي في نقده وبين الأدب والنقد كظاهرة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة
من معنى ، تُوهي كل ناطح . فإذا اتضحت الأمور حول المبادئ العامة فستبقى لكلٍّ
وجهةٌ هو مولّيها ، وعلى الله قصدُ السبيل.