الضحالة الثقافية وانعدام الحرية في

تلفزة العمالقة!

نشر هذا المقال بصحيفة "الحياة الجديدة" المغربية. ع55 . 17-23 أبريل 2009

 

محمد العمري

www.medelomari.net

من حوالي عشر سنوات كتبت ف شيمبورسكا ـ شاعرة نوبل لعام 1996 ـ مقالا خفيفا لطيفا عن أجهزة الإعلام في بلادها بولندا ساخرة من الثقافة التي تنشرها هذه الأجهزة الحساسة، ثقافة الأدمغة النائمة التي تردد كلمة "رائع" بدون حساب. هذه فقرات من كلامها الذي يصف حالة أشبه بحالنا:

"لأن التلفزيون "كتابٌ بديل"، لأن نسبة مشاهديه لا تقل عن خمسين في المائة من البولنديين البالغين، وهم لا يقرؤون أي شيء مطبوع، يشاهدون برامج التلفزيون. فاسمحوا لي إذن أن أوجه ملاحظاتي لهذا الجهاز الخطير باعتباره دار نشر لها كيانها المستقل، تصدر كتابا يهمني أن أتحاور معه:

"ما الذي يوجد لدينا؟....لدينا مقدمو برامج رائعون، يهيئون لنا جوا رائعا..لدينا ألعاب رائعة، ولدينا مسابقات رائعة [...]

"لا يختلف اثنان في أن ما يحدث في الحفلات الموسيقية شيء رائع حيث تشترك فرق رائعة مع عازفين رائعين، يؤدون بطريقة رائعة أغنياتهم الرائعة [...]

"وأخيرا لدينا إمكانية "البحلقة" في التلفزيون، لمشاهدة الاحتفالات الرائعة، والمناسبات الرائعة، والأعياد الرائعة، والجنازات الرائعة. نحن نشاهد في أوقات محددة فقط كل هذه الأشياء الرائعة، كالصنبور، فيتوقف كل شيء بشكل رائع".

عندما انتهيت من قراءة هذا المقال قلت في نفسي: سبحان الله! انظرْ ماذا قالت هذه الشاعرة عن التلفزيون دون أن تكون قد سمعت شيئا من طرائفنا ونوادرنا وديناصوراتنا المتحجرة! ماذا كانت ستقول لو سمعت الخُطَبَ العَصماء للسيد مصطفى العلوي ومن في حكمه وصفته من تحف ذلك الزمان، تلك الخطب الرثة التي "تنطح" العقل والذوق السليم الساعاتِ الطوالَ. نَفِرُّ منها شرقا وغربا مشتتين في أرجاء المعمور: فَمِن "لاجئ" في الفضائيات الفرانكوفونية ومن معتصم بـِ"المنار" و"إقرأ"، ومن نائم في مخمل "روتانا"، ومن معبأ في "الجزيرة" و"العالم" و"العربية" و"المستقلة" وغيرها من المنابر المتاحة في فضاء الله الواسع.

لقد كررت الشاعرة في مقالها كلمة "رائع" مرات عديدة معبرة بذلك عن مدى الضجر الذي يسببه ذلك الجهاز الغبي للمستمعين. وكلمة رائع هذه جزاء ساخر لمجموعة من الكلمات والعبارات والسلوكات الغبية التي تصدر عن جهاز فقد القدرة النقدية والمرونة التعبيرية نتيجة عاملين متناوبين حينا ومتعاونين حينا آخر، هما الضحالة الثقافية وانعدام الحرية.

مَنْ يتتبعْ سهراتِنا الفنية يلاحظ أن كل الفنانين صاروا في السنوات الأخيرة "عمالقةً" و"أهراماً"! وأقلهم شأنا صار نجما مرموقا. ناموا وهم في أحجامهم الطبيعية: فيهم الطويل نسبيا والقصير نسبيا، بل فيهم قصيرُ القصيرِ والقزم، واستيقظوا وقد طالت قاماتهم جميعا بشكل خارق، لا يكادون يتعرفون على أنفسهم. والسبب الوحيد في هذا النمو المتسارع هو ضحالة ثقافة مقدمات البرامج ومقدميها الذين لا يجدون غير هذين اللفظين وما في حكمهما من النعوت المطلقة التي لا تعكس الواقع. فلو كانت لهؤلاء المقدِّمين ثقافةٌ نقدية عامة في مجال تخصصهم لأمكنهم أن يُعْطوا كل فنانٍ أو مُبدع الصفةَ، أو الصفاتِ التي تلائمه، ولَحكموا على كل جزءٍ من عمله أومرحلةٍ من إنتاجه بما يستحقه. لماذا تعج وسائل إعلامنا بالأميين سُمُّوا فنانين أو صحفيين؟! هل "هذا ما أعطى الله والسوق"؟ غير صحيح. هناك عطب في التوجيه والاختيار.

 كم تعجبني جملةٌ تتردد عند لجنة تحكيم إحدى المسابقات الجارية حاليا: "ما عندي ما نقول!" إنها جملة صادقة. لا تدل على الإعجاب، كما يتبادر إلى الذهن، بل تدل على العجز. كما أتذكر دائما جوابَ نجيب محفوظ عندما نعته أحد محاوريه بصفة عملاق. قال نجيب محفوظ: رفع يده اليمنى، مقربا طرف سبابته من طرف إبهامه حتى لم يبق بينهما أكثرُ من نصف سنتيم. ثم قال بتواضع: آآآدِّي كِدَا (أي بهذا القدر). وكم كنت أتمنى أن أرى ردا مماثلا من أحد "عمالقتنا" و"أهرامنا". غنى واحد من هؤلاء النجوم منذ أسابيع أغنية وقحة في منتهى الرداءة احتفظت ذاكرتي بجملة منها: "بَايْتَ قَصَّارَ عَلْ ِبيصَارَا"! وهكذا صارت حريرتنا بصارة.

في تلفزتنا لا ينمو الفن وحده بشكل غريب مريب بل ينمو المغرب كلُّه بشكل لا مثيل له إلا في بعض البلاد "الشقيقة". مع كل خطوة "مباركة" أو حركة "ميمونة" "يعم الخير والنماء". المغرب يزحف كلما أمسك الصحفي المعلوم بالميكروفون. ولذلك فحتى لا تنتكس هذه "الحركة المباركة الميمونة" سنمدد خدمة السيد مصطفى العلوي الذي تجاوز تاريخ صلاحيته منذ أمدٍ. الأعمار بيد الله، ولذلك لزم التفكير في استنساخه، كما يلزم استنساخ بعض مدراء السجون الناجحين حتى لا يهرب السجناء مرة أخرى. فهو أيضا "عملاقُ"، لولاه ما انتبهنا إلى هذا "النماء" الذي لم يرصده ولا تَغَنَّى به أحدٌ من أعلام الصحفيين في تلفزات الأمم المتقدم التي تتمسك بالأرقام والحسابات. كم كانت ستَبكيه "رشيدة" و"نزيهة" و"أصيلة" و"عريقة" و"ميمونة" و"مْباركة" وغيرهن من المعشوقات، ولكن الله سلم. لقد انتبهت الدولة بعد عشر سنوات من التجريب أن ليس في الإمكان أبدعُ مما كان. إن الخضر والفواكة ما تزال ـ كما كان عليه الحال في أيام "العام زين" ـ أرخصَ ثمنا، وأحسنَ جودة، في التلفزة المغربية مما عليه الحال في الأسواق الشعبية. فلماذا التغيير؟