المغرب في لحظة الحسم

تحية لشباب 20 فبراير

 

نشر هذا المقال بجريدة الحياة الجديدية . المغرب. العدد 134

31 مارس ــــ 6أبريل 2011

 

محمد العمري

 

سنتحدث في هذا المقال عن فرصتين: فرصةٍ أضعناها، وفرصة بين أيدين، يتمنون أن نُضيعها.

1ــــــ الفرصة الضائعة

كنا سنكون الآن متفرجين فأصبحنا بدورنا على الخشبة. من سوء حظ المغرب أن عملية الإصلاح التي دارت عجلتها بعد موت الحسن الثاني، منذ عقد من الزمن، صادفت قمةَ مسلسل التقهقر السياسي في الوطن العربي. فبعد انهيار المعسكر الاشتراكي وإجهاض الثورة الفلسطينية لاحظ الحكامُ "الثوريون" العرب، ورثة حركات التحرير ودعوات الاشتراكية والقومية، من بعثيين وناصريين وغيرهم أن مهمتهم النضالية قد انتهت، وأن عليهم أن يتربعوا هم وأبناؤهم على عروش الملوك الذين انقلبوا عليهم منذ عقود قليلة. فلأن عجلة التغيير الفكري والسياسي بقيت في مكانها فقد أصبحوا يغارون من حياة الملوك والشيوخ والأمراء الذين أفلتوا من الثورة القومية الاشتراكية.

 وهكذا بدأوا في تغيير الدساتير التي وضعوها منذ عهد قريب ليضمنوا لأنفسهم الحكم مدى الحياة، ولآبنائهم الخلافة من بعدهم، في نظام جديد سمي سخرية الجملوكيات العربية: مظهر جمهوري ومحتوى ملكي. اكتمل هذا المسلسل في سوريا، "قلعة الصمود العربي"، وقطع أشواطا في العراق قبل النكبة، وقطع نصف الطريق في مصر والجزائر، واليمن، وكان القذافي قد أدخل سيف الإسلام في دورات تدريبية على نمط حُكمه السريالي البعيد عن التصنيف. وقد قال في زحمة الأزمة الحالية: "أنا أديت ثمن بقائي هنا"، (كلهم أدوا ثمن بقائهم وما على الشعوب إلا أن ترحل أوتعيش من صدقاتهم وتلعق أحذيتهم). وكان الملك حسين قد عاد على عجل من أمريكا في مرضه الأخير لغرض واحد ووحيد وهو عزل أخيه الذي كان ولي عهده ونائبه في غيابه، وتولية ابنه الذي لم يكن له حضور سياسي...الخ، قضى هذه الفريضة وأسلم الروح. حتى من لم يرزقه الله ولدا فكر في تولية أخيه، قيل هذا عن الرئيس الجزائري، ولا أستغرب ذلك، فقد سبقه إليه القائد الأبدي للاشتراكية فيديل كسترو.

في هذا الظرف أحسَّ مدبرو شؤون المخزن أن المغرب بدأ يخرج من الركب ويتقدم القافلة في أفق مجهول لم تطأه قدم عربي، أفق المواطنة الكريمة، وجدوا أنهم يُقدمون تنازلات بدون مناسبة، تنازلات في غير وقتها، وهذا سلوك غير سياسي. المغاربة يقولون: "العقرب هو الوحيد الذي يعطي مجانا". لقد جعلتهم لحظة التردي العربي ينسون الثمنَ الذي قدمه المغاربة دون بلاد العرب الأخرى، وينسون التفاهمات والعهود. كان الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي يطرق حديدا باردا، ويحارب الأشباح. كان المخزن يتعامل مع اليوسفي وهو ينشد قول المتنبي:

ومن نكد الدنيا على المرء أن يَرى    عــــدوا له مــــــــا من صداقتــــه بــــــد

 وقد خلقت الأعمالُ الإرهابية التي ضربت المغرب فجأة ابتداء من أوائل العقد الماضي جوا مواتيا لنشاط أعداء التغيير، إن لم يكن لهم ضلعٌ فيها...؟  هذا التساؤل مستخلص من كلام من يطالبون بإعادة التحقيق في أحداث 16 ماي، ومن يستكثرون عدد الخلايا المكتشفة، وكل من لم يقتنعوا بأسس محاكمة السياسيين في قضية بلعيرج، وأنا منهم...الخ. المهم أن هذا الجو الإرهابي كان مناسبا، بل ضروريا، لكبح أي تململ يساري بعد توديع عبد الرحمن اليوسفي وأحلام المنهجية الديمقراطية.

وجد المخزن، إذن، الجوَّ مواتيا فتخلى عن التناوب وطوى مُقررات هيئة الإنصاف والمصالحة التي بدت له في مستوى من الجرأة غير مقبول، فبقيت حبرا على ورق.. بل لعله ندم على السماح بإدانة زمن الرصاص وتهميش الأحزاب الإدارية المصنوعة التي فقدت بريقها، ولذلك بادر بإجراءين:

 الإجراء الأول الشروع في تبييض سنوات الرصاص تأنيس حكم الحسن الثاني وأنسنته، وقد وُكلت هذه المهمة للمرحوم عبد الهادي بوطالب، وعب الكريم الخطيب وأحمد عصمان، وغيرهم من الشهود الذين ادعوا أنهم لم يروا شيئا.

والإجراء الثاني إعادة صياغة الأحزاب الإدارية في صيغة جديدة: عجنها وإعادة خبزها. وهذه هي المهمة التي وكلت للسيد عالي الهمة، كاتب الدولة في الداخلية السابق. وقد تصدينا لهاتين المحاولتين في كتابنا: منطق رجال المخزن وأوهام الأصوليين. موجود في موقعنا على الأنتيرنيت.

في هذا السياق النكوصي تم الاحتفاظ برموز الماضي في الأمن والإعلام وغيرهما من المواقع الحساسة حتى بعد تقاعدهم، ونفض الغبار عَمَّن لفته زوبعة المصالحة. وبذلك عادت كل مظاهر الفساد إلى سابق عهدها، بل ضربنا الأرقام القياسية في الفساد والسطو على المال العام، وصارت مواقع السلطة والمال حكرا على اللوبيات العائلية والمصلحية.

ونظرا إلى أن كل عمل مُشين يتطلب العمل في الظلام، فقد كان لا بد من تكميم أفواه الصحفيين الشباب الذين انفصل أكثرهم عن الصحافة الحزبية بعد تدجينها مشكلين نوعا من المعارضة المزعجة. وكان المخزن قد دعم بعض مشاريع هذه الصحافة الشابة، في بداية التناوب، وأمدها بالملفات التي تحتاجها من أجل "تقليل الحياء" على اليسار وأقطابه، والتشويش عليه بشتى الوسائل تمهيدا لوضعه على الهامش، ولكن الشبان الذين صدقوا أنهم بصدد حداثة حقيقية من داخل دار المخزن سرعان ما اكتشفوا أنهم استُعملوا بما لا يوافق طموحهم، فبدأوا "يقللون الحياء" على المخزن نفسه، وينبشون في خصوصياته وحريمه، فجفف منابعهم وجرجرهم أمام محاكمه. نحكي هنا قصة دومان ولوجورنال والصحيفة ونيشان، ومن جاء بعدهم: الجريدة الأولى وأخبار اليوم...الخ، ومن لم يصمد تحولَ إلى بوق للمخزن يميل مع الريح حيث تميل. يسب الشباب ويتهمهم بأبشع التهم ثم يعود ليحشر نفسه في صفوقهم.

2ـــــ الفرصة القائمة

 لم يتوقع أحد ما يجري اليوم في العالم العربي، إنها لحظة فريدة، قلبت المعادلة رأسا على عقب. صار فيها دعاة التأبيد والتوريث يطلبون شهورا معدودة لجمع حقائبهم ومغادرة المكان، وصارت الشعوب تصيح: ارحل، ارحل الآن! مبارك يطلب ستة شهور وعلي صالح نزل إلى تسعة..الخ.

 يقول المغاربة: "إلاَ جات تجيبها سبيبة، وِلاَ مشات تقطع سناسل".  الضمير يعود على اللحظة، أو الفرصة، أو الحظ. ومعنى هذا المثل: حين تكون الظروف مسعفة تُقضى الأغراض بأقل سبب (تجر النافرة من الدواب بسبيبة، أي بشعرة )، وحين لا تكون اللحظة مواتية فمن العبث تضييع الجهد، لو قيدتها بالسلاسل لقطعتها وفرت هاربة. ولكي لا يميل الناس إلى التواكل قالوا أيضا: "ضْربْ لحديد ما حدو سخون"، اطرق الحديد ما دام ساخنا، ولا تُتعب نفسك حين يبرد. الحديد سخون اليوم، والشعوب تطرقه بقوة وعناد، والحكام العرب يطلبون لحظة لتبريده: تكفيهم شهور قليلة لتبريده، فهم يعرفون أنه حين يبرد سيتطلب الأمر عقودا ليسخن من جديد.

حين نأخذ بعين الاعتبار قوةَ المقاومة والصمود وامتداد مساحة الانتفاضة؛ من الداخلة المغربية إلى المنامة البحرينية ودرعة السورية، وحين نأخذ بعين الاعتبار التحولات الواقعة والمرشحة فإننا نميل إلى القول بأن الحالة التي نعيشها اليوم في العالم العربي هي بداية لحظة ثالث من اللحظات الكبرى التي عرفها هذا العالم. اللحظات التي قلبت المفاهيم، أو النماذج والإبدالات، أو كان من المفروض أن تقلبها.

كانت اللحظة الأولى مع الدعوة الإسلامية، واللحظة الثانية مع حركة التحرير من الاستعمار والتخلف. فاللحظات الفاصلة، أو البديلة، هي اللحظات الغلابة التي ينتهي الجميع ــــــ حتى من يشكك فيها أو يقاومها في أول أمرها ــــــ إلى تبنيها والبحث عن  علاقة قرابة معها، لأنها تتماشى ومنطق التاريخ، والتاريخ مهما انكسر فإنه يعود ويأخذ طريق إلى الأمام. هي اللحظات التي تترك ما قبلها لعنة لا أب لها، أو جاهلية بائدة، حتى ولو تحايلنا عليها أو غيرنا مسارها.

فهل سنستثمر لحظتنا هذه، أم سنهدرها؟

 لن نختلف في أننا ضيعنا لحظة الثورة على الاستعمار والتخلف حين أخرجناهما من الباب وسمحنا لهما بالدخول من النافذة، لنجد أنفسنا رعايا مستعبدين في أوطاننا. واقع عبر عنه الشاعر اليمني بقوله:

مواطن بلا وطن    كأنني من اليمن

وخوفي أن يُضيع الشباب المغاربة هذه اللحظة الثالثة إذا هم استمعوا إلى "سياسيين" انكسرت قاماتهم في الانحناء، وذهبت جشعهم بفطنتهم، فصاروا أجبن من الجبن. إن نار معارضتنا للمخزن التي كانت مشتعلة متوهجة أربعة عقود لم تترك غير رماد بارد. الخوف أن يغتر الشباب بكلام عجائز ترهلت أحلامهم قبل جثثهم المشحمة، كقول أحدهم هذه الأيام: نحن في المغرب نقوم بإصلاحات لا بثورات.

إن منطق هذا الرجل وأمثاله جدير بأن يوقعنا، لا قدر الله، في موقع غريب في العالم العربي، موقع من كسرت ساقه فتركها تبرأ بدون جبيرة، حيث تلتئم بشكل معيب، نقول: "برا عْلا الدغل". يعيش بعاهته إلى النهاية، لا هو من الأصحاء النافعين، ولا من المرضى الذين يسعون إلى العلاج. وسيتطلب علاجه مستقبلا إعادة كسره، والنتيجة غير مضمونة.

هناك مثل مغربي يقول "بيدي ويد القابلة"، أي أن دور القابلة، المولدة، في تشوه المولود دورٌ كبيرٌ، وهاهم زعماء الأحزاب المرهقة والمفبركة معا يقومون بدور القابلة لتوليد الخطاب الملكي. حذارِ من مولدة "تفتافة، خوافة، ستًعُوِّره لا محالة.

لقد تابعتُ حركة الشباب في ميدان التحرير في مصر وكنت في كل لحظة أقول لجبني وقصر نظري: يا ليتهم قبلوا ما هو معروض عليهم! وهذا الرأي هو رأي من سموا أنفسهم "لجنة الحكماء"، الذين بدأوا في نوع من السمسرة بين الشباب وحسني مبارك عبر عمر سليمان، وكان إصرار الشباب يبدو لهم ولنا اندفاعا نحو المجهول، وفي لحظة الدهس والرفس بالسيارات والبغال والجمال والرمي بالرصاص الحي والزجاجات الحارقة تخيلنا أن كل شيء انتهى، ولكن الشباب أصحاب "اللحظة التاريخية" أدركوا بحسهم وحدسهم أن لحظة الشروق بادية في الأفق، فشرعوا صدورهم للموت من أجل الحياة، فكانت المعجزة. وأخيرا خربوا عش زنابير "مباحث أمن الدولة" السيئ السمعة.

علامة اللحظة التاريخية هي طلب الشهادة من أجل الفكرة والجماعة، هي اللحظة التي يقول فيها المؤمن حقا: ""وعجلت إليك ربي لترضى"، ويحمل فيها الفدائي (الزرقطوني مثلا) كبسولة السم تحت لسانه ليموت بين يدي الجلادين فداء لزملائه ولوطنه. هذا هو منطق التضحيات التي واجه بها الشباب العربي هذه الأيام مغتصبي كرامته ورزقه. لم يبق أمام المواطنين العرب أي خيار غير فداء كرامتهم بدمائهم، وسيدوسون كل من يقف في طريقهم بعناد. ويكفي أمثالي من المتقاعدين أنهم عاشوا ليروا هذه اللحظة، ليروا القذافي مؤسس البوليزاريو وهو يرقص كالمذبوح والعالم يسخر من حماقاته، لقد كان للمغرب والمغاربة كالذبابة في الأذن.

إن خطاب الملك محمد السادس، يوم 9مارس، أرضيةٌ جيدة للنقاش، وقد قيل إنها بدون سقف. ولا شك أنه، بطبيعة شخصه، سيتمنى أن يُلبي بما سيتمخضُ عنه طموحَ أبناء وطنه من الشباب، ليعم الرضا وينطلق الجميع للعمل من أجل مستقبل يصون وحدة المغرب ويضمن رفاهية أبنائه. وهذا لن يتحقق إذا ما ترك الملف بين أيدي جيل رضي من الغنيمة بالمقعد.

www.medelomari.net