المشروع العلمـي
بين المأمول والمتاح |
2006-03-11
محمـد العُمــري
Mohamed El omari
إذا كان صحيحا أن بداية البحث محكومة بالإمكانيات والظروف المحيطة، فإن تَكَشُّفَ الآفاق العلميةِ يُدخل طالبَ العلم في مشروع يتجاوز تلك الظروف ويطمح إلي تغييرها؛ وبهذا يستحق صفة الباحث أو لا يستحقها. ولن يتحقق ذلك إلا بالمثابرة على الاستماع لمختلف الأصوات في مجال التخصص، والقدرة على الفهم والنقد و المراجعة إزاءَ النفس وإزاء الآخرين، على حد سواء. وإذا لم يُفلح طالب العلم في رسم أفقه الخاص، أي العمل في إطار مشروع، فإما أن يتوقف وينطفئ، وإما أن يتحول إلى آلة ناسخة، أو يد خفيفة تسرق تعب الآخرين.
أقول هذا وأنا أتأمل المسار الذي ساقتني فيه
الأقدار: كان طموح التحديث والتجديد في نهاية الستينات وبداية السبعينات موجِّها
لأكثر الطلبة الباحثين في الجامعة المغربية، ولذلك وجدتني أختار لبحث التخرج
موضوعا فيه الكثير من الشعارية واللمعان:
مندور
من التأثرية إلى الواقعية الاشتراكية.
من حسن حظي أنْ وقع اختياري على محمد مندور، فقد
تعلمت منه الكثير؛ تعلمت من مساره الكبير أن الحداثة تقتضي معرفة واسعة بالتراث
الإنساني، وضمنَه، من باب أولى وأحرى، التراثُ العربي، كما تقتضي معرفةً نقدية
بالعلوم الإنسانية لغوية ونفسية واجتماعية. لقد فَرض علي
هذا البحث أن أخوض، مباشرة، في مناهج الدراسة الأدبية. كان ذلك من خلال الترجمات
العربية التي كثيرا ما لا تصل إلى درجة الإشباع، فترسخ لدي الاقتناع بضرورة
الاطلاع على هذه النظريات في مصادرها الأصلية. فكان أن فتحت جبهتين: جبهة البحث في
التراث بالوسائل المتاحة في سبيل الارتقاء في المراتب الجامعية، وجبهة الاطلاع على
المناهج الحديثة.
لم يكن بين
المسارين أي تعارض، بل كانا على موعد للتقاطع والتكامل في المرحلة اللاحقة. فمن
ثمار المسار الأول، المسار التراثي، تحقيق كتاب المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل. مع بحث في ظروف تأليفه وثقافة مؤلفه. وقد
أتاح لي هذا البحث، الذي دام حوالي سبع سنوات، تعميق الاتصال بالبلاغة العربية
والنحو والعروض، بل كان تحقيق هذا الكتاب بمثابة إعادة تكوين لي في اللغة العربية
وعلومها تحت إشراف أستاذ مدقق متذوق: الدكتور عزة حسن، أطال الله عمره، ومتعه
بموفور الصحة. لقد علمني بالممارسة والإحراج التربوي أن
أكون حذرا في قراءة النصوص، وألا أغتر بأول خاطرة أو رأي عارض. فأفادني هذا التكوين
التراثي في التعامل مع النصوص العربية، إبداعية ونقدية.
والمسلك السهل هو أحد الشروح العربية النادرة التي جعلت همها بلاغيا صرفا.
أما المسار الثاني(البحث عن الأداة المنهجية
الحديثة) فانتهى بي إلى اقتحام باب الترجمة. فكان أن
ترجمت، مع زميلي الأستاذ محمد الوالي، كتاب بنية اللغة الشعرية لجان كوهن،
وهو كتاب بسط نفوذه على كل المحاولات التجديدية في قراءة الشعر من وجهةِ نظرٍ
بنيوية لسانية، في العالم الغربي قبل العربي. وكان من جملة هموم الترجمة توحيد
المصطلحات التي كان تضاربها يؤدي إلى عسر الفهم وسوء التفاهم بين الدارسين. لقد
استمرت عملية الترجمة أكثر من عامين؛ لأنها كانت مصاحَبة بعملية واسعة من القراءة
سعيا لاستيعاب المرجعية اللسانية والفلسفية الكامنة وراء الكتاب، من جهة، وضبط
المعطيات العربية المقابلة مفهوما ومصطلحا، من جهة ثانية.
كانت
الجسور شبه منعدمة وقتها بين فئتين من الباحثين في الجامعة المغربية، فئة تشتغل
بالتراث ولا تعير اهتماما للمناهج الحديثة، إن لم تجاهر بمعاداتها، وفئة ترفع شعار
الحداثة وتتخذ من التراث مواقف متضاربة تتراوح بين التنكر والإهمال والملامسة من
بعيد. والواقع أن المواقف المتطرفة للطرفين لم تكن في العمق مواقف من التراث أو
الحداثة، في حد ذاتهما، كما سيتضح حين يتاح لكل من الطرفين الاطلاع على المحتوى
الحقيقي للطرف الثاني باعتباره جهدا بشريا مخلصا في البحث عن الصواب أو الحقيقة أو
المنفعة البشرية، لقد كان موقف المعاداة في الواقع موجها إلى نزعة التطرف في
الطرفين فكان أن قوبل إنكار بإنكار. وقد ساهم في هذا الواقع تعدد لغات البحث، وقلة
الدعم المرصود للغة العربية في مقابل الآفاق المفتوحة للغات الأخرى: الفرنسية
والإسبانية ثم الإنجليزية في الأخير.
في هذا الظرف أحسسنا بالحاجة إلى إيجاد منبر
للحوار في مجال الدراسة الأدبية واللسانية
مفتوحٍ على القديم والحديث دون تمييز أو استثناء كلما توفر الشرط الإبستمولوجي: الوضوح والتماسك وقابلية الاختبار...إلخ فأنشأنا بتعاون مع بعض الزملاء في جامعة سيدي محمد بن عبد
الله بفاس مجلة دراسات أدبية ولسانية، ثم مجلة دراسات سميائية. وكان من الإنجازات التي
تفخر بها المجلة إقبالُ بعض الباحثين من شعب اللغات
الأجنبية على التحرير باللغة العربية لأول مرة. وقد تجسد هذا بشكل جلي في الندوة
التي نظمتها المجلة بتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس
سنة 1986، في موضوع "تحليل الخطاب"، ونشرت موادها في العدد الخامس من
مجلة دراسات أدبية ولسانية(1986)، والعدد التاسع من مجلة كلية الآداب بفاس (1987). وكانت المجلة قد جمعت الكثير من هؤلاء الباحثين
في جلسات للحوار حول علاقة اللسانيات بالنقد الأدبي؛ نشرت موادها في العددين 1 و 2
من مجلة دراسات أدبية ولسانية.
لقد سعينا من
خلال هذه التجربة، التي كانت مدرسة لنا أيضا، إلى ردم الهوة المفتعلة بين الباحثين
في القديم والباحثين في الحديث جاعلين العبرة بالجدية في البحث.
في هذا السياق شرعتُ في إعادة قراءة التراث البلاغي العربي
في ضوء المعطيات المنهجية الحديثة مسترشدا ببعض التجارب الغربية الموفقة التي كان
لها صيت حسن عند الدارسين المحدثين على المستوى العالمي. مثل بنية اللغة الشعرية
لجان كوهن، الذي سبقت الإشارة إليه، وأعمال كبدي فاركا، خاصة ثوابت القصيد والأدب
والبلاغة، ومشروع هنريش
بليت في إدماج البلاغة والأسلوبية في قالب سميائي عام
يستثمر مزايا كل منهما في الجانب الذي تفوق فيه. وغير ذلك من الأعمال.
وكان من ثمرات هذا الاحتكاك كتابُ: في بلاغة
الخطاب الإقناعي، الذي أردت أن أنبه فيه إلى البعد الإقناعي للبلاغة العربية، هذا البعد الذي كان حاضرا، عند
الجاحظ على وجه الخصوص، ثم نسي مع هيمنة صياغة السكاكي
للبلاغة العربية. وقد أعجبت كثيرا في هذه المرحلة بعمل بيرلمان وأولبريشت لعمقه
وبساطته، حيث يرتبط مباشرة بأرسطو ويسمح باستيعاب الجاحظ بيسر. وقد كان هذا البعد الإقناعي قد غيب في البلاغة العربية. وقد طبقت هذا التصور
البلاغي على الخطابة العربية في القرن الأول الهجري مجهتدا
في كشف آلياتها الإقناعية التي تميزها عن الشعر. وكان
تدريس الخطابة وقتها ـ وما يزال مع الأسف ـ يقوم على الحديث عن الظروف السياسية
والاجتماعية والاقتصادية مع تراجم مكرورة للخطباء، وغير
ذلك مما هو خارج بلاغة النصوص ووظيفتها الحجاجية.
وبموازاة مع هذا
العمل دخلتُ في مشروع إعادة صياغة البلاغة العربية انطلاقا من تصور لساني بنائي
يراعي البعد التاريخي، مبتدئا بالمستوى الصوتي الذي كان يعاني من الإهمال رغم كونه
يفسر، في نظري، خمسا وسبعين في المائة (75%) من جمالية القصيدة العربية القديمة. وقد نشر هذا العمل الذي اقتضى إنجازه أكثر من ثماني سنوات في
ثلاثة كتب:
1 ـ تحليل
الخطاب الشعري: البنية الصوتية.
2 ـ اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر
العربي القديم.
3 ـ الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية.
[وقد جمع الكتابان الثاني
والثالث في كتاب واحد عند طبعهما طبعة ثانية، بعنوان: الموازنات الصوتية في الرؤية
البلاغية والممارسة الشعرية]
فالكتاب الأول
يُدخِل المادة الصوتية الإيقاعية المبثوث في البلاغة العربية في نسقٍ دال يفسر
فاعليتها ويجعلها إجرائية، وذلك من خلال مقولات أساسية، هي: الكثافة والفضاء
والتفاعل الصوتي الدلالي. ويبين هذا الكتاب مدى غنى التراث البلاغي العربي وقدرته
على توفير المادة اللسانية الواصفة للنص الشعري، ويدعو من ثَـمَّ، و بشكل غير
مباشر، إلى إعادة النظر في الأحكام المتسرعة القاضية بمعيارية البلاغة القديمة وعجزها
عن المساهمة الوصفية الدقيقة، كما ينبه المحافظين إلى جدوى استعمال المناهج
الحديثة في قراءة التراث العربي القديم، ويدفع أي تخوف من قبلهم. ويسعدني أن أذكر
هنا قول العلامة أمجد الطرابلسي، رحمه الله، أثناء
مناقشة هذا العمل: "إذا كانت هذه هي البنيوية فمرحبا بها".
وكان، رحمه الله، قد أبدى تضايقه من الكثير من الأعمال
التي ينسبها أصحابها إلى البنيوية، والحال أن كل ما يجنيه المرء من قراءتها صداع
الرأس.
والكتاب
الثاني يعطي خطة لقراءة التراث الشعري العربي في إطار النظرية المبسوطة في الكتاب
الأول، إنه مساهمة في كتابة
تاريخ للأشكال الأدبية : يقع بين البلاغة وتاريخ الأدب. وهو يقدم
خطة شاملة قابلة للتوسيع بالتطبيق على
الأدب العربي في مختلف عصوره.
أما الكتاب الثالث فيدخل في إطار قراءة جديدة لتاريخ الفكر
البلاغي العربي. وقد شجعني هذا الكتاب - وما أتاح لي العمل لإنجازه من اطلاع على
استراتيجيات المؤلفين وخلفياتهم - على التوجه نحو كتابة تاريخ شامل للبلاغة
العربية حين نضجت الظروف المنهاجية لذلك..
استكمال دائرة
الإيقـاع:
بعد صدور الأعمال الثلاثة التي تناولت الإيقاع
في البلاغة العربية والشعر القديم أتيحت ظروفٌ للامتداد نحو الشعر
الحديث والنثر الفني:
ففي سنة 1997 اقترحَ علي
الزملاء من تونس؛ من كلية الآداب منوبة، ومن وزارة
الثقافة، الاشتراك في حدثين علميين كبيرين: قراءة في كتاب حول إيقاع السجع العربي
لمحمود المسعدي بمناسبة تكريمه، وتقديم ورقة الإيقاع في
الملتقى الأول للشعراء العرب بتونس.
اعتبرت تلك الدعوة
مناسبة ثمينة لتكميل مشروع الإيقاع الذي كنت استنفذت جهدي في شطره الذي يخص الشعر
العربي القديم وبلاغته. فاغتنمت الفرصة لإكمال حلقة
الإيقاع في الشعر الحديث والنثر العربي، فترتب عن ذلك دراستان موسعتان، هما:
"الإيقاع تنظيرا وممارسة في أعمال محمود المسعدي"، و"مسألة الإيقاع في الشعر الحديث مفاهيم
وَأسئلة". ثم دعمتُ البحثَ في الموضوع بدراسة حول مركز الإيقاع وهامشه
بعنوان: "الشعر في حوار النظم والنثر" محاولا
تفسير مسار النثيرة الحديثة في أفق الحوار القديم
الحديث بين نزوعي الانتظام والانحلال. وقد قدمتُ هذا البحث في المهرجان الشعري
الأول لمدينة فاس 1999، وهو مذكور ضمن المنشورات.
وفي سنة 2002 تلقيت دعوة من المجلس الأعلى للثقافة بالكويت
لتقديم قراءة لتطور الإيقاع في الشعر الكويتي خلال نصف قرن بمناسبة مهرجان القرين
الثقافي. وقد ترتبت عن هذه المناسبة دراسة مطولة مذكورة ضمن المنشورات، ويوجد نصها
في موقعنا على الأنتيرنيت.
التاريخ العام للبلاغة العربية
لقد كانت الخطة تقتضي أن أشرع، بعد الانتهاء
مباشرة من المستوى الصوتي، في إنجاز قراءة نسقية على
غرارها للمستوى الدلالي، غير أن ما سمعته في كثير من الندوات وقرأته في بعض
الكتابات (وهي تبتر النصوص بترا وتقتطف الآراء اقتطافا) من أحكام حاسمة مجحفة في
كثير من الأحيان، ثم ما قرأته في بعض الأطروحات الجامعية من خلط وسوء فهم، إضافة
إلى اختزال البلاغة العربية في بلاغة السكاكي...إلخ جعلني أحس بأسبقية إعادة النظر في تاريخ البلاغة
العربية، بعد أن تكشفت لي معالمها،
آملا التوفيق في كشف أصولها وامتداداتها. وقد كانت هذه
بدايةَ رحلة طويلة، فيها من المتعة بقدر ما فيها من المعاناة والإرهاق؛ دامت أكثر
من عشر سنوات، وكان من ثمرتها كتاب: البلاغة العربية، أصولها وامتداداته.
من الأسباب
التي سهلت تحولي مرحليا نحو تأريخ البلاغة العربية اتساعُ الاهتمام منذ منتصف
الثمانينات بنظرية التلقي. وقد ترجم هذا الاهتمام من طرفنا بتخصيص العدد السادس،
وجزء من العدد السابع، من مجلة دراسات سميائية لهذه
النظرية. كما ساهمتُ منذ البداية في أعمال "ندوة التلقي" التي تنظمها
كلية الآداب بالرباط بتعاون مع منظمة كونراد الألمانية، وكانت تجري بمدينة مراكش. فقد كانت هذه الندوة العلمية السنوية التي دامت أكثر من اثنتي
عشرة سنة فرصة لتقديم ومناقشة الخطوط الأولى لمشروع تاريخ البلاغة العربية (كانت
بداية هذه الندوة بمبادرة مشتركة بيني وبين أستاذي د. محمد مفتاح الذي ظل، حفظه الله، يشرف عليها، ويحرص على استمرارها وطبع
أعمالها). وقد توجه اهتمامي في هذه المرحلة إلى أعمال هانس روبيرت
ياوس باعتباره رائداً للاتجاه التاريخي في جمالية
التلقي. ومن الأكيد أن هذه النظرية تسمح بإعادة النظر في
الأحكام الصادرة في حق البلاغة العربية من زوايا نظر مختلفة.
ولذلك فإذا كان التمرس السابق بالتحليل البنيوي
ظاهرا في الكتاب من خلال تحليل بنياتِ المؤلفات البلاغية، وكشف أنساقها الداخلية،
والابتعاد عن مكرور الكلام من الأخبار والتراجم
والأحكام الجاهزة، فإن الاستفادة من نظرية التلقي بارزة من خلال الانطلاق من
"الأسئلة التاريخية" و"التوقعات" و"المشاريع
والمنجزات" و"قراءة اللاحق للسابق"، وغير ذلك من قضايا التلقي
والقراءة. فالكتاب، كما لاحظ ذلك الكثير من قرائه، كتاب
نسقي؛ يرصد خطوط الطول والعرض في خريطة زمنية تمتد عبر قرون. فالحاجة كانت ماسة
لهذه الخريطة التي يمكن ملؤها بيسر من خلال أعمال أخرى ينجزها باحثون آخرون، شباب
في الغالب.
أقول هذا وأنا سعيد بما لاحظته من فتح هذا
الكتاب المجالَ للكثير من الباحثين في المستوى الجامعي، إذ تحولت فصوله ومباحثه
بسرعة فائقة إلى منطلقات جديدة لأطروحات جامعية نالت الإعجاب. وكان الكثير من
هؤلاء الباحثين قد تابع عرضَ مباحثه في الدراسات العليا، أو اطلع عليه قبل طبعه
بسنوات، خاصة طلبة "وحدة النقد القديم" التي كنت أُشرف عليها بكلية
الآداب بفاس. من هذه الأطروحات الموفقة التي ذهبت بعيدا
في الموضوع أطروحة دكتوراه بعنوان: القراءة العربية لفن الشعر لأرسطاطاليس،
لعبد الرحيم وهابي، وقد ناقشها تحت إشرافنا منذ سنوات، وحصل بها
على أعلى درجات التقدير والتنويه. ومنها أطروحة محمد أوبا: أثر علم الكلام في
البلاغة العربية، وقد نوقشت هي الأخرى تحت إشرافنا بكلية الآداب بفاس، ونالت إعجاب اللجنة المناقشة.
تكميل وتطوير بلاغة
الخطاب الإقناعي
بعد سنوات من البحث في موضوعات بلاغية، متصلة
بالشعر القديم في الغالب، ظننت أنها صرفتني عن بلاغة الخطاب الإقناعي
تضافرت حوافز؛ بعضها علمي منهاجي، وبعضها واقعي حياتي، على عودتي إلى الموضوع الذي
ألفت فيه أحد أقدم كتبي: بلاغة الخطاب الإقناعي. وفي
هذا الإطار تعرضت لعينات من الخطابة الحديثة؛ شفوية ومكتوبة، في ضوء بلاغة
الإقناع، متوخيا الابتداء بالتطبيق وتعديد الأمثلة. وقد
نشر هذا العمل مسلسلا في الصحافة المغربية لتعميم الفائدة من جهة، وتوخيا لإثارة
نقاش حول هذا الموضوع البكر الحساس، من جهة ثانية. وبعد الاطمئنان إلى التحليلات
العديدة التي نشرتها في الموضوع قدمت الصياغة العامة للمقترح النظري من خلال خطاطة
جامعة، سميتها: دائرة الحوار ومزالق العنف. أذكر أنه عندما قدمت هذا المشروع
ـ قبل طبعه ـ في المحاضرة الافتتاحية لأعمال "رابطة أدباء المغرب"
للموسم 2000-2001، علق مسير الجلسة، الأستاذ سعيد يقطين، بقوله: "هذا العمل
ينزل البلاغة من الكراس إلى الناس". وقد سعدت بهذه الملاحظة لأنها دلت على
تحقيق ما كنت أتوخاه في بعض مؤلفاتي، وهو الوصول إلى لغة تجعل الآليات الخطابية
تصل إلى أوسع جمهور دون المساس بصرامتها المنهاجية.
فالخطاطة التي اقترحتها في دائرة الحوار، تحاور أجناس الخطابة عند أرسطو، وتستحضر
مفهوم المناظرة وأدبياتها عند العلماء المسلمين، وتستفيد استفادة نقدية من منطق
الإقناع المدعو بلاغة جديدة عند بيرلمان ومدرسته،
ولكنها تتلافى التغريب المصطلحي والتعبيري، وتقرن النظر بالتطبيق الواسع، بل تجعل
التطبيق منطلقا.
البلاغة الجديدة وعلم النص
إن القراءة الشاملة للبلاغة العربية القديمة في امتداديها
النصي والتداولي تدعم الرغبة التي عبر عنها الدارسون المحدثون من مواقع متعددة
لسانية (تداولية)، وفلسفية (منطقية)، وأدبية (شعرية) في بناء علم عام للخطاب،
وتعطيها مشروعية تاريخية ومنهاجية. وإذا كان الأمر
يحتاج، بالنسبة لدارسي تاريخ البلاغة الغربية، إلى اجتهاد وتأويل فإنه لا يتطلب من
دارس البلاغة العربية أكثر من الخروج من إسار اختزال البلاغة العربية في صياغةِ السكاكي لوجهةِ نظر الجرجاني، وذلك بالاستماع إلى بلاغيين
آخرين كانوا يسيرون بموازاة مع هذا التوجه، ولا يكادون يتقاطعون معه، إن لم يكونوا
معه على طرفي نقيض، مثل ابن سنان وحازم.
لذلك لم أكن أحس بأية غربة وأنا أطلع على
مقترحات لسانية وسميائية تسعى لتقديم نظرية عامة لتحليل
الخطاب، بل سعيت للتعريف بها من خلال ترجمة نموذجين من
أنضج النماذج في هذا الصدد، هما: البلاغة والأسلوبية، لهنريش
بليت، والنص بنياته ووظائفه، لفان ديك. وهما مذكوران ضمن المنشورات.
في سياق هذه القراءة للتراث البلاغي العربي
والاجتهادات الغربية الحديثة نضجت الأبحاث المنشورة في كتاب: البلاغة الجديدة
بين التخييل والتداول (2006). تقف البلاغة العربية
منذ أول الكتاب موقف المحاور الكفء مقدمة الحجة على إمكان قيام بلاغة عامة للخطاب
الاحتمالي تخييلا وحجاجا. ويستمر
حضورها قويا في كل المباحث، سواء من خلال العرض التاريخي أو المناقشة النظرية أو
التحليل التطبيقي.
إن البحث عن بلاغة عامة للخطاب ليست شيئا عثرنا به في طريق بحثنا العام، بل كانت هما قديما اتصل بإنشاء مجلتي
دراسات أدبية ولسانية ومن بعدها دراسات سميائية، وتنظيم
"ندوة تحليل الخطاب" بتعاون مع كلية الآداب بفاس
(1986)، كما وجد هذا الهم تعبيره القوي في إنشاء وحدة التواصل وتحليل الخطاب
للدراسات العليا والدكتوراه التي كنت أشرف عليه بكلية الآداب بفاس،
ثم وحدة البلاغة الجديدة بالرباط. (ومن الإنصاف القول بأن هذا الجهد وجهودا أخرى
موازية له، أو جاءت بعده، قد ساهمت في الاقتناع بفائدة إضافة هذه المادة إلى
مقررات التعليم الجامعي في الإصلاح الأخير الذي انطلق منذ سنوات قليلة، وقد بادر
الإخوة في شعبة اللغة العربية بالرباط بإسناد مهمة تدريس هذه المادة إلي ـ في
غيابي ـ مناصفة مع الزميل العزيز الأستاذ محمد مفتاح).
لقد اتجه الدراسة البلاغية في هذا الكتاب إلى
نصوص نثرية ملتبسة، قديمة وحديثة، وذلك في محاولة لكشف تداخل المكونات البلاغية (التخييلية والحجاجية) في بنيتها. كما سعت إلى ترميم بعض الجوانب التي تأخر فيها التنظير البلاغي
العربي عن الإنتاج النصي، ويتجلى هذا بشكل قوي في محاولة تقديم نموذج لبلاغة
السخرية الأدبية، مع تطبيق على أشهر نص في تاريخ السخرية العربية، أي كتاب البخلاء
للجاحظ. كما يتجلى من خلال البحث عن بلاغة للخطاب بدل
بلاغة الجملة، وذلك من خلال بسطنا لعملية التحويل الأسطوري للاستعارة. فهذا المبحث
تطوير لمفهوم الجرجاني لِ"البناء على التشبيه والمجاز" في كتاب أسرار
البلاغة، وقد وقفنا عليه في كتابنا البلاغة العربية أصولها وامتداداتها لأهميته. إن كتاب البلاغة الجديدة يطمح إلى أن يكون لبنة من لبنات بلاغة
حديثة فعالة لا تغيب عنها الخصوصية العربية. وبهذا الكتاب ندخل في مرحلة بناء
النموذج الحديث للبلاغة العربية.
ملامح وخصوصيات
عامة
1 ـ موضوعات
التأليف
لم أجد قط في
نفسي رغبة في تناول موضوع مستهلك لأعيد فيه أفكارا مسبوقا إليها. فمنذ اطلعت على
التصور اللساني للشعرية لاحظت الإهمال الذي يعانيه المستوى الصوتي الإيقاعي فبدأت به، وفي وسط الطريق، ومع ظروف العمل الجامعي، لاحظت إهمال
البعد الإقناعي للبلاغة فتوقفت لبيان أهميته، وبعد
إنهاء مشروع قراءة المستوى الصوتي والتوجه إلى كتابة تاريخ البلاغة لاحظت إهمال
قضية بلاغية ذات أهمية كبيرة، أو تناولها بشكل سطحي غير إجرائي، وهو بلاغة السخرية
الأدبية فتوقفت مرة أخرى لرسم الخطوط العامة لهذه البلاغة (ظهرت هذه الدراسة
الموسعة في كتاب: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول
ص83 ـ 137).
وقد تبين لي أن كشف هذه الجوانب سيساعد على
قراءة شاملة للبلاغة العربية تظهر غناها وأصالتها وقدرتها على المساهمة في بناء
بلاغة حديثة ذات قدرة وصفية عالية، وستُظهر هذه القراءة، حين تتحقق، أننا قد
نستعير من الجيران أشياء موجودة في مكان ما من منزلنا. غير
أنني تأكدت أيضا أن استكشاف هذه المساحات الشاسعة وتمهيدها يتطلب خلفية معرفية
تمتد من علم الأصوات إلى المنطق، وهذا أحد أسباب إهمالها. ويبقى مناط الهم مع "البلاغة الجديدة" وبعده هو صياغة بلاغة عامة
للخطاب.
2 ـ طريقة
الترجمة
حاولت، في مجال الترجمة، الجمع بين مطلبين كثيرا
ما أدى الاحتفاء بأحدهما إلى التضحية بالآخر: الدقة والوضوح.
لقد حرصت، إن
وفقت، على أن يكون اللقاء بين اللغتين اتصالا وانفصالا في الوقت نفسه. وأنا قلق
فعلا من الترجمات التي يصل فيها الاستسلام للغة المترجم عنها إلى حدود ضياع الجملة
العربية بله البيان العربي، حيث يحتاج القارئ إلى معرفة الأصل لكي يفهم الترجمة،
كما أني قلق من الانبهار الناتج عن الجهل بالرصيد العربي الغني في مجال البلاغة
بمعناها الواسع: تحليل الخطاب وشروط إنتاجه.
هناك دراسات ومؤلفات تقرأ رصيدا موازيا لرصيدنا
البلاغي، مثل البلاغة والأسلوبية لهانريش بليت، فهي
تستعرض البلاغة الغربية لتُدخلها في نسق. إن ترجمة مثل هذا العمل تتطلب معرفة
بالمجال المقابل، والقدرة على تبين الفروق بين تقطيع البلاغتين
للظاهرة الواحدة (وقد أعطينا مثالا لذلك الكناية والمجاز المرسل، حيث الخطأ عام
وشائع في ترجمة الكلمتين). وهناك نصوص إبداعية غامضة حتى في أصلها، مثل الهزلي
والشعري لجان كوهن، وهي موجهة أصلا للباحثين المؤهلين ومن على شاكلتهم من نبهاء
الطلبة الباحثين، وقد حرصنا في الحالتين على ضبط المصطلحات من مصادرها الأصلية؛
إما في المقدمة أو في الحواشي، كما حرصنا على تقديم مثل هذه النصوص بمدخل يبين
الخطة العامة للنص مساعدة للقارئ على اقتحام النص والدخول معه في حوار ، فهذه
النصوص عبارة عن مشاريع علمية تدعو إلى التأمل.
وبخلاف هده النصوص هناك نصوص ذات طبيعة تلقينية
(بيداغوجية)، إلى جانب قيمتها النظرية العالية. مثل
بنية اللغة الشعرية لجان كوهن، والنص: بنياته و وظائفه لـِ فان ديك. فالكتاب الأول
يقدم نظرية دقيقة من خلال عشرات النماذج والأمثلة على طول الكتاب، فيساعد بعضه على
فهم البعض. والكتاب الثاني مرصود للعمل الجامعي ولذلك عرض المبادئ العامة وتلافى
التفاصيل. فمثل هذه الأعمال تحتاج، بعد فهم المقاصد، إلى
جملة عربية سليمة، بقدر ما تحتاج إلى دقة المصطلح واطراده.
3 ـ إنتاج المصطلح
إذا
كانت بلاغة الشعر تقدم فائضا من المصطلحات يغني الباحث عن اقتراح مصطلحات جديدة،
إذ يكفيه الاختيار والتنسيق وإعادة
التعريف عند الضرورة، كما فعلنا في كتابي تحليل الخطاب والموازنات، فإن بلاغة
الحجاج والإقناع تتطلب فعلا وضع مصطلحات جديدة تستجيب للنسق الهرمي العام لبناء
هذه النظرية في البلاغة الحديثة. وهكذا اقترحنا عددا من المصطلحات الأساسية التي لقيت القبول، وأخذت طريقها إلى الرواج. من ذلك
كلمة "الخطابية" للدلالة على العلم الذي يدرس الخطابة،
قياسا على كلمة "شعرية" التي تتقاسم معها الخطاب البليغ (وخطابية هي
الترجمة المناسبة لكلمة rhétorique
في مفهومها الأرسطي، وكثيرا ما أدت ترجمة هذه الكلمة بكلمة بلاغة أو خطابة، على
الإطلاق، إلى الخلط والالتباس)، واقترحنا مصطلح المستمَع (على وزن مجتمع)
للدلالة على المقام الخطابي حيث يُستحضر المستمِع والمكان (وما ينطوي عليه من
زمان) في نفس الآن. وهي تترجم ما تدل عليه كلمة auditoire.
وقد كان استعمالنا لمصطلح "انزياح" في
ترجمة مصطلح écart في كتاب: بنية اللغة
الشعرية، حاسما في تثبيت هذا المصطلح المركزي وتغليبه على مصطلحات أخرى كانت
تنافسه، مثل "فجوة" و "عدول" "وانحراف" و
"بعد". وقد رأينا وقتها حاجة للحوار في الموضوع فخصصنا عددا من مجلة
دراسات أدبية لنظرية الانزياح لقي رواجا
كبيرا.
هذه مجرد نماذج مما
يقتضيه الحوار بين التراث البلاغي العربي وبين المقترحات النظرية الحديثة رغبة في
الوصول إلى نموذج حديث حقا لا يلغي مرجعيتنا.
أما بعد،
إنما الأعمال بالنياتِ وبذل أقصى الجهد،
"فإن لم تنل أجرين حسبك واحد".
وأنا أتمثل هنا بقول الطبيب الفيلسوف ابن طفيل في
خاتمة رحلته الفكرية/البلاغية المدهشة في كتابه حي بن يقظان:
"...وأنا أسأل إخواني الواقفين على
هذا الكلام أن يقبلوا عذري فيما تساهلت في تبيينه، وتسامحت في تثبيته، فلم أفعل
ذلك إلا لأني تسنَّمتُ شواهقَ
يَزِلُّ الطرْف عن مَرماها، وأردتُ تقريبَ الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق
في دخول الطريق. والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافُه ورحمة الله وبركاته"