انفصال الدرس الأدبي
عن المحيط المَعْرِفِي الفاعل
تحية
يسعدني،
أولا، أن أشكر الزملاء الذين فكروا في موضوع هذه
الندوة وبذلوا جهوداً موفقة في ترتيب شؤونها، فقد أتاحوا لي الحديثَ، على منبر
للحوارِ العلمي في إطار وطني في موضوع سئمت من الحديث عنه بدون جدوى في مَجالسَ
مهنية هيمنت عليها دائماً الحسابات الشخصية الضيقة، من جهة الفاعلين، والبُعدُ عن
وجع الرأس من جهة المسؤولين: تجنُّبُ كلِّ ما من شأنه أن يؤدي إلى مسلسل لا تُعرف
عواقبُه[1].
أرجو أن يُتلقىَّ هذا العرض/الشهادة بنفس روح الغيرة التي أملته شكلا ومضمونا، ولا
عدوان لا على الظالمين.
1
ـ دهاليز دار لقمان
1
ـ 2 ـ في الواجهة
إن
إضافة "الانفصال" إلى الدرس الأدبي العربي، في عنوان هذه المداخلة، لا
يعني أنه المنفصلُ الوحيدُ عن المحيط العلمي والعملي، بل قد يكون مثالا لمجالات
شبيهة أقلَّ أو أكثر انفصالا منه، مثل الدراسات الإسلامية التي ما زالت تحتاج إلى
ما يميزها عما يقدم في كلية الشريعة وأصول الدين ويبرر انتماءها إلى كلية الآداب
والعلوم الإنسانية.
يرجع
التخصيص في الواقع إلى الاحتكاك بالموضوع طلباً وتدريساً أكثر من ثلاثين سنة.
فالأمر أقرب إلى إعطاء شهادة عن حال تدريس الأدب في شعبة هي أقدم شُعب اللغة
العربية وآدابها في المغرب، هي أم شُعبه في شرق المغرب وشماله قبل جنوبه وغربه،
شعبة كانت تخرِّج ثم طاف عليها طائف فصارت تفرخ. فأنا أقدم نموذجاً لانفصال
الجامعة عن المحيط انفصالا سلبيا؛ لم تترتب عنه عودة إلى الذات لتحقيق الهوية، بل
يؤكد أنه انفصال عن الواقع وعن الخصوصية المميزة للجامعة: البحث الدقيق البعيد
المدى.
عندما
التحقت بكلية الآداب بفاس في أواخر الستينات كان الأدب العربي موزعاً (في
المقررات) إلى جاهلي وإسلامي وعباسي وأندلسي ومغربي وحديث، بالإضافة إلى مادتي
البلاغة والعروض ومادة النحو..الخ
وعندما
عدت للتدريس بالجامعة في مطلع الثمانينيات كانت دار لقمان ما تزال على حالها. وفي
سنة 1983 اقترحت الوزارة مشروع تعديلٍ للخروج من هذا التفتيت، والاقتراب من تصور
نسقي وظيفي، تحدث المقترح الجديد عن الأدب الأول والثاني والثالث، وأضيفت عناوينَ
جديدة إلى ما هو قائم… ولكن سبق السيف العَدَل، فما كاد المشروع يستوي واقفا حتى مال،
وظل آيلا للسقوط. كان لا بد (كما تقول النكتة) من إسقاط الطائرة ليعود التلميذ
"المجتهد" إلى وصف الحديقة(!)
أخذت
الموضوعات القديمة السالفة الذكر وصبت في الخانات الجديدة الفارغة، وبقيت الآداب
(جمعاً) هي نفسها: جاهلي وإسلامي وعباسي وأندلسي ومغربي…الخ. وقسم الحديث إلى
شعر ورواية ومسرح..الخ. وبقي الأمر إلى اليوم على حاله في حدود الإجازة. (في حين
دخلت الدراسات العليا في إطار الوحدات والمشاريع، فبدأت بعض بوادر التغيير
مُخْتَرَقةً بكثير من أساليب الاحتيال، تجلت في تقديم نفس المواد تحت عناوين
خادعة).
وعموما
فقد ظلت عملية التراكم والتفتيت والترقيع والتلفيق والاجتلاب من كل صوْب وحَدَب ـ
غيرِ صوب الواقع المادي والمعرفي
للمغرب ـ تتفاقم حتى صرنا أمام ثوب خَلَقٍ مضاعفِ الترقيع، رُقَع بعضها فوق
بعض: (أي دربالة). وصارت شعبة اللغة العربية مثل شارع من "الجوطية" حيث
تباع نظارات تقويم الرؤية بدون وصفة طبية، إلى جانب المعلبات المُتجاوزةِ تاريخَ
الاستعمال إلى جانب التحف من الخشب السجاد ,وطواقم
الأسنان المستعملة …الخ.
1
ـ2 ـ الخلفية والأهداف
هذه
نظرة مجملة عن الوضع. ويبقى أن نتساءل من أين جاءت هذه المواد؟ وما هو المنهج الذي
تعالج به؟ هل ما تزال تتلاءم مع أسئلة المرحلة التي نمر بها؟ هل تستفيد من التراكم
المعرفي المتحقق طوال المدة التي رصدناها؟
وُضعت
هذه المقررات خلال مرحلة الستينات، في امتداد لمقررات الثلاثينات في المشرق
العربي، من طرف أساتذة جاءوا من هناك أو درسوا فيه، وكان فضلهم عظيما، (غير أن
آمالهم قد خابت، لا شك، بسبب قصور همم أكثر ثلاميذهم). وكان الهدفَ الأولَ من تلك
المقررات هو التعرُّف على الأدب العربي عامة، مع تخصيص الأندلسي والمغربي بمزيد
عناية، لاعتبارات قومية وطنية وجهوية. كانت القومية العربية في عنفوانها رغم
النكبات، وكان الإحساس بضرورة تقوية المساهمة الوطنية في الرصيد القومي هاجساً
موضوعيا، وذلك أمر طبيعي بعد قرون من التخلف، وعقود من الاستعمار أنست الناس
ذاكرتهم، لذلك كان العَرْضُ والتمجيدُ مُهيمنين ونافعين. ثم تبدلت الأرض غير
الأرض، استنفذ التهليل والتكبير طاقتهما أمام تحديات وامتحانات جديدة. وتغيرت
طبيعة طرح السؤال؛ لم يعد السؤال هو: من أنا فقط؟ ولكن كيف أنا؟ صار السؤال الأول
تابعا للثاني ومرهونا به. لا هوية مع الأمية والفقر والاستبداد. ومع ذلك بقي
الجواب الذي تساهم به دروس الأدب بل كلية الأدب هو(إعادة التراث) على حاله، كما
تبقى جميع الأعضاء التي ذهبت وظيفتها: زوائد بدون وظيفة، ولذلك لم يستطع أحد منا
أن يؤلفَ كتابا في تاريخ الأدب الجاهلي (مثلا)، مثل الكتاب الذي ألفه البهبيتي،
ولم يستطع أحد صياغة مُحاضرات مثل محاضرات صلاح الأشتر عن بشار والمتنبي خلال
(الستينات)… ، لم يؤلف أحد من
المغاربة كتابا في تاريخ الأدب يستجيب للمقررات الجامعية القديمة/الحديثة!
لماذا؟
نعم،
لماذا لم نؤلف كتابا في العروض ولا في البلاغة كما تدرسان اليوم في الجامعة، بل
وفي الثانوي أيضا؟ إن الأمر لا يتعلق بعجز، بل بغياب السؤال المعرفي الذي يتفاعل
فيه سؤال الواقعين الحضاري والعلمي. الكل مقتنع في أعماقه بأن ما يدرس مجرد غسيل
داخلي غيرُ قابل للنشر أمام الملأ. بل ألأدهى من ذلك أن لا أحد يرضى لأبنائه أن
يتناولوا تلك الوجبة "البايتة"، إلا لإزالة غصة، اللهم لا تمتٍحنا.
والخلاصة
أن مقرراتنا لا تتلاءم لا مع أسئلة العصر ولا مع الجهود العلمية المبذولة من طرف
الباحثين في الأدب واللغة.
2
ـ الطلاق مع السؤال العلمي ومجافاة الواقع:
2
ـ 1 ـ مجافاة السؤال العلمي
نلمس
الموضوع من زاويتين جديرتين باستيعابه في كل أبعاده: تاريخ الأدب والبلاغة
والمباحث الأدبية.
2
ـ 1 ـ 1 ـ تاريخ الأدب
يستولي
تاريخ الأدب على الحصة الكبرى من ساعات التدريس بشعبة اللغة العربية، ومع ذلك لم
يسبق، فيما أعلم، أن طرح هذا الموضوع للتدارس؛ لا من حيث الجدوى والمناسبة، ولا من
حيث المنهج والطريقة. والواقع أن
تاريخُ الأدب قد عرف ثورتين كبيرتين على أقل تقدير: ثورة في إطار
سوسيولوجيا الأدب أو البنيوية التكوينية، وثورة في إطار جمالية التلقي. وترجمت
أعمال علمية ذات قيمة، وألفت أعمال فيها الكثير من الجدية والجدة، وبقيت مقررات
الأدب العربي غير مكترثة بما يجري حولها. مازالت المراجع هي نفسها: مراجع ظهرت حول
الأربعينات؛ وقبلها أو بعدها بقليل، لعلماء كانوا فحولا يستجبون لأسئلة عصرهم
عصرهم: لأحمد الشايب وشوقي ضيف فضلا عن طه حسين وأحمد أمين… ثم تدنينا من
الفحول إلى طائفة غير موفقة
من التابعين لهم بغير إحسان.
لقد
أصبحت شُعبُ اللغة العربية (أو أكثرها على أقل تقدير) معاقل لمقاومة البحث العلمي
لدرجة أن الباحثين المنتجين المشتغلين بالتراث في إطار الأسئلة العلمية الحديثة
يعيشون بشخصيتين: شخصية المقررات والامتحانات وشخصية المعرفة الطامحة إلى مسايرة
إشكالات العصر وأسئلته العلمية. أصبحنا نعلن للطلبة منذ البداية، وبألم شديد، أن
هناك رؤيتين: رؤية الشعبة صاحبه المقرر أو وريثه على الأصح، ورؤيتنا الخالصة التي
لا نجد حتى من يرفضها ليريحنا منها.
2
.1 ـ 2 ـ البلاغة والمباحث الأدبية
تعرف
الدراسات الدائرة حول المتن الأدبي تراكما عشوائيا ناتجا عن انعدام الحوار بين
الباحثين واصطناع القطيعة بين القديم والحديث، فالبلاغة في واد، والأسلوبية في
واد، وسميائيات النص الأدبي في واد، وعلم النص الأدبي في واد، وتحليل النصوص في
واد، والعروض في واد، والقوافي في واد، والشعرية في واد، والسرديات في واد. وبعض
هذه التخصصات في واد غير ذي زرع، ودخول حِماها بدون أداء فروض الطاعة حِمامُ ،
عليها غلاظ شداد لا يتناهون عن
منكر. يتخرج الطالب وهو مشحون بمصطلحات وألفاظ يرددها كما رُددت.
والأدهى
من كل ذلك غياب النقد والمراجعة، أي غياب وظيفة الجامعة. وهنا نقدم مثالا من
المجال الذي اشتغلنا في سنين طويلة: نقول مثلا، منذ سنوات مشافهة وكتابة، إن تقسيم
البلاغة إلى علوم: معان وبيان وبديع تقسيمٌ خاص بعالم جليل من علماء العربية، عالم
ذي فكر نسقي صارم، هو السكاكي. وهو تقسيم مشروع بل إيجابي، لكنه كرِّس طوال عصور
الركود (أو الانحطاط)، باعتباره ممثلا للبلاغة العربية كلها، وليس الأمر كذلك،
فالبلاغة العربية أوسع كثيرا من هذا التصور. وقد صار لدينا اليوم من الوسائل
المنهاجية ما يؤهلنا لمراجعة قراءة السكاكي وإبراز طابعها الانتقائي، كما فعل
الغربيون حين أعادوا الاعتبار لبلاغتهم القديمة انطلاقا من نظرة شمولية تسمح بها
المناهج الحديثة. ولكن لا أحدَ يرد، لا بالقبول ولا بالرفض شفويا أو كتابة، ونظراً
لانعدام الحوار بين المجترين والداعين إلى الاجتهاد أصبح الاتفاق على سؤال في الامتحان امتحاناً عسيراً في
حدِّ ذاته، وصل في كثير من الأحيان إلى القطيعة. لقد صار من المتعذر الجلوس حول
مائدة واحدة لوضع مقررات هادفة متكاملة؛ الكل يتهرب. لم يجتمع أساتذة شعبتنا
العتيدة لغرض من هذا القبيل منذ أكثر من خمس عشرة سنة. وليس للشعبة دليل...!
لقد
صار من المفيد الملح منذ سنوات الخروج من هذا الخلط العبثي ومن دائرة العصور
الأدبية والتراجم الجاهزة التي"يُحرّزُها" البعض، ويشقى بها البعض، إلى
دائرة المحاور والإشكاليات، وذلك سعيا لتحقيق عدة أهداف منها: 1) تنشط الملكة
النقدية 2) جعل المعارف دالة ووظيفية 3) تخفيف العبء على الطالب ليتفرغ لهموم
جديدة كالإعلاميات 4) إتقان اللغات الحية …الخ.
2
ـ 2 ـ مجافاة الواقع
من
البديهي أن مجالات الخطاب قد تغيرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وذلك فضلا عن
التطورات الداخلية لأجناس الخطاب فقد وجدت لها امتدادات في مجالات جديدة وصور تحقق
مختلفة غير معروفة.
فالخطابة
والشعر وجدا مجالا للتحقق والوصول إلى أوسع جمهور من خلال الإشهار مثلا. واستفاد
العرض التلفزي (من الرسوم المتحركة إلى الأفلام الوثائقية عن عجائب الطبيعة
وجمالها) إمكانيات الصورة الشعرية إلى أقصى الحدود كما أن الخطابة السياسية تقدم
مجالا للتطبيق البلاغي.
من
الأكيد أن تحليل الخطاب السياسي الحديث بأدوات بلاغية يكشف البناء الحجاجي لهذا
الخطاب سيكون أكثر إثارة لاهتمام الطالب من جهة بقدر ما هو مُساهمة في الوعي
السياسي والفكري والأخلاقي للخطباء أنفسهم. ووقتها ستكون المقارنة مع خطب قديمة
أجدر بالتأمل والعبرة.
آن
لنا أن نقرأ التاريخ الأدبي من الواقع المعرفي الحديث بدل أن نبلبل حاضرنا بالماضي
لاعتبارات عير علمية. أقولُ هذا وأنا أستحضرُ نزوعا غير تاريخي يعمم القدسية على القديم،
خلطا بين الإلهي والإنساني وذلك لتبرير عجز علمي مشهود. إن الأدب والبلاغة ليسا
مقدسين على كل حال.
إن
هذا الواقع وهذا النزوع يدعو إلى كثير من الشك والريبة حين يطلب من الجامعة
المساهمة في تهيئ اللغة العربية للتعريب…الخ.
ما
هي البرامج التي تساهم بها شعب اللغة العربية في مجال تحرير المعاملات والمراسلات،
معجما وتقنيات؟ أين مساهمتها في توفير المعاجم المزدوجة؟ ما هي الخطوات التي
تتخذها للإطلال على واقع اللغة العربية في المستويات التعليمية الأساسية والثانوية
فضلا عن معاهد التسيير والتكوين المهني؟ أليس من مهام شعب اللغة العربية العمل في
شراكة مع وزارة التربية الوطنية ووزارة الثقافة والشبيبة والرياضة لإنتاج أعمال
علمية تعليمية تكون الخبرة الجامعية ضامنة لجدواها العلمية والبيداغوجية باستغلال
الوسائل المعلوماتية المتاحة؟ إن الكثير من الأخبار والتراجم والقواعد الأولية
التي تُملى إملاء ويقضي الطلبة زهرة شبابهم في تسجيلها وحفظها صار يقدم اليوم عن
طريق اللعب والرسوم المتحركة… وهكذا.
إن
غياب الشعب كمؤسسة يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن تلجأ الجهات المعنية إن أحست
بالحاجة إلى الخبرة اللغوية والعلمية لما تريد إنتاجه إلى الأفراد بعيدا عن
المؤسسة فيكون في ذي ذلك مزيد عزل للشعب ولأهدافها القومية والموطنية، وإما أن
تكتفي تلك الجهات بما تيسر لها من أطرها إذا كان الأمر لا يتعلق بمؤسسات يحاصرها
السوق مثل التربية الوطنية، حيث لا تظهر العواقب إلآ بعد حين. لقد تأسفت كثيرا
عندما سمعت السيد كاتب الدولة المكلف بالتعليم الثانوي يتحدث عن الإمكانيات
الذاتية للتعليم الثانوي في إعادة تكوين نفسه بنفسه، وكذا ذهابه ـ بصدد الجواب عن
سؤال حول علاقة التعليم الثانوي بالعالي ـ إلى أن على كل مستوى أن يفكر في نفسه
أولاً. لقد مارست التعليم بالثانوي حوالي عشر سنوات، وما زلت شديد الاتصال به من
كل القنوات، ولم يزدني كل ذلك إلا اقتناعا بأن المجال الوحيد لإعادة تكوين أساتذة
التعليم الثانوي هو رحاب الجامعة، هو المكان الذي تنتج فيه المعرفة ـ أو يفترض
إنتاجها فيه ـ بعيدا عن العلاقات المهنية وما يتصل بها من حساسيات واعتبارات. وهذا
مجال واسع للشراكة والنفع الوطني والقومي[2].
3
ـ العربية وجزر اللغات
إذا
أضيف هذا الواقع الـذاتي الذي يعانيه الدرس الأدبي العربي وما يتصل به إلى واقع
العلاقة بين شعبة اللغة العربية وآدابها وشعب اللغات، وهي علاقة قطيعة في أكثر
الأحوال، حق لنا أن نتساءل هل بهذا الواقع نريد للعلوم الإنسانية أن تساهم وتفعل
في الواقع؟…الخ.
هل مشكل التعريب مطروح فعلا بالنسبة لصانعي هذا الواقع المفلس؟ إذا كان الجواب
بالإيجاب فالمطلوب تعريب أعمى لا يرى ما حوله، وهذا أدهى. أما بالنسبة للشعب
الأخرى فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل شعب اللغات موجودة لتتعاون وتتكامل مع شعبة
اللغة العربية، أم لتنافسها وتهمشها، أو تهشمها؟
استرجع،
في هذا السياق، قديما بذلنا الجهد، وقتها،
لجهله عابرا. في اجتماع نقابي بقاعة الأساتذة بفاس في أوائل الثمانينيات،
أو في نصفها الأول على كل حال، تحدثنا عن البحث العلمي، وتحدث بعض الزملاء من شعب
اللغات غير العربية عن مسألة صعوبات النشر في المجالين الإسباني والأنجلوساكيوني …الخ وكنت وقتها متوهما أن لا أحد ينازع في أن
دور شعب اللغات هو وصل المغرب بالثقافات العالمية، ولذلك فمهما تعددت الشعب لابد
أن تكون هناك لغة نتخاطب بها جميعا، تسمى أحيانا، إن لم تخني الذاكرة، اللغة
الوطنية[3].
قلت بناء على هذا التصور:
"هناك فرصة تقديم المعرفة للقارئ العربي باللغة التي يفهما، وأنا ضد
اغتراب الشعب: رِجْلً في قاعة الدرس ورِجل في المراكز الثقافية ورِجل خارج
المغرب". أثار هذا الكلام "غير المسؤولحقا" المشاعر، وانتهى
التهامس التشاوري بأن طُلب مني سحبُ تهمة الاغتراب، تحت التهديد بالانسحاب. وتلك
إحد سخريات الأقدار: سحبتُ قولا رفض الواقع الملموس والتاريخ المعاش أن يسحباه،
سحبته حفاظا على سير الجلسة وكنت، من سوء حظي، أُسيِّرُها.
إن شعور ألئك الزملاء بالحرج من نعت
شُعبهم "بالاغتراب" أمر إيجابي، ولكن كيف يمكننا اليوم تقويم النتائج
المحصلة خلال كل المدة الفاصلة؟ لم
يزد الوضع إلا سوءا، ولذلك أعود مرة أخرى لتأكيد رأيي. بل أنا أرى اليوم ـ وهذا هو
الجديد المزعج، أن شُعب اللغات، إن لم أقل كلية الآداب كلها (بقطع النظر عن الجهود
الفردية)، صارت تحدد أهدافها في مجرات وكواكب بعيدة، فَ "يجري التَّعس
للناعس، وتزاد الشحم في جسم المعلوف".
ألم
يحن الوقت بعد لحوار [علمي وطني] بكل ما تحمله الكلمتان من مسؤولية حول
الأهداف المتوخاة من وجود شعب اللغات وعلاقتها باللغة الوطنية؟ اللغة الوطنية التي
يُفترض وجودها في شعب اللغات كمحاور لا كمُتبرَّكٍ به.
[1] ـ أعيدت صياغة فقرات من العرض، وأضيفت إليه تعليات
تتعلق بحوادث لاحقة.
[2] ـ أشير
بالمناسبة إلى أن وحدة "التواصل وتحليل الخطاب" التي أشرف عليها بكلية
الآداب بفاس كانت سعت، خلال الموسم الجامعي المنصرم ـ إلى عقد شراكة مع أكاديمية
وزارة التربية الوطنية بفاس. وحرر عقد شراكة في هذا الشأن... ولدى الوحدة تصور
كامل للموضوع...إلخ
حين
عرضت الخطوات التي تقوم بها "الوحدة" في هذا الاتجاه على زميلي ذ. حمادي
صمود من جامعة منوبة بتونس أخبرني بأن الفريق الذي يشرف عليه ـ ونحن في وصال حول هذا الموضوع منذ سنوات ـ وهو
"البحث في البلاغة والحجاج" قد عقد شراكة مع كتابة الدولة في التعليم
الثانوي لدراسة الصورة في الكتاب المدرسي(كذا)، وأن المشروع مدعوم بكذا مليون
لاقتناء أدوات العمل والرحلة والاتصال والاستقبال، كما تلقت المجموعة دعما من
الإدارة العمة للبحث العلمي لإنجاز مشروع علمي محدد حول نظريات الحجاج.
واقترن القول بالفعل. فتوصلت في آخر رمضان
الماضي بكتاب من 447صفحة. عنوانه: أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو
إلى اليوم. من إنجاز "فريق البحث في البلاغة والحجاج" تحت إشراف حمادي
صمود. جاء في صفحته الثانية، داخل إطار، هذا الإعلان: "أُعدت هذه البحوث بدعم
مادي من الأدارة العامة للبحث العلمي بوزارة التعليم العالي وتولت كلية الآداب
بمنوبة مشكورة طبعها". هذا
نموذج للشراكة بالنسلبة لشعب اللغة العربية. وهذا نموذج أيضا للفرق بين العمل المؤيَّد، والعمل المعرقل المحكوم
بالمؤبد، ولله في خلقه شؤون.
[3] ـ هناك
أعلام كبار من فحول العلماء في جميع أنحاء العالم يكتبون للمجتمع المتخصص باللغة
العلمية الأكثر رواجا بين العلماء حسب التقلبات التاريخية وهذا مألوف في العلوم
الدقيقة ونادر في الأدب وما إليه، وأنا لا أتحدث عن هؤلاء لسبب وحيد معروف… فلكل مقام مقال.