مقدمـة الشارح
(محمد
الإفراني)
التعريف
بالوشاح والموشحات
[ص51]
باسم الله الرحمن
الرحيم
وصلى
الله على سيدنا ومولانا محمد
يقـول العبد الحقيرُ، المخطئُ الفقيـرُ، المرتجي
عفوَ مولاهُ، محمدٌ الملقبُ بالصغير ابنُ محمـدِ بنِ عبد الله الإفرانيُّ نجـاراً،
المراكشيُّ داراً، تاب الله عليـه، ووجـه قلبَهُ إليه:
الحمد
لله الذي وشَّح جيدَ أهلِ الأدبِ بعقود البيان التي [هي] على الشرف عنوانٌ، وسرَّح
عيون أفكاِرهم في حدائقِ كلامِ العربِ فقطفوا أزهارَ المعاني من أكْمامِ الألفاظِ
"صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ"[1]، وتَوَّجَ مفارقَهم بإِكليلِ التبيانِ، وحلَّى
لبَّاتِهم في المقاماتِ بعِقيانِ القلائدِ، وقلائدِ العِقيان[2]، وأطلعَ في سماءِ عقولِهم من مُلح البديعِ
شُموسَها، وراضَ لهم جموحَ التراكيبِ، فذلَّلَ من لطائفِ الأساليبِ شَموسَها،
فسَبَحوا في بَحْرَي المديحِ والهجاءِ بأجملِ إشارةٍ وأكملِ احتجاج، فـ "هذا
عَذْبٌ فراتٌ سائِغٌ شَرَابُهُ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ"[3]. وَتَلَفَّعُوا بثوبِ الافـتـنـانِ في فنونِ
الأغراضِ، ورَمَوا بسهمِ الإصابةِ مُسـتهـدَف الأغراضِ[4]، وغاصوا في قاموسِ اللغةِ[5] على صِحاحِ الجَوهَرْ[6]، واقْتَعَدُوا سفينةَ الغَزلِ في تيارِ
المعاني [ص52] فَغَنِموا كلَّ معنى أزْهر[7]، وتلوَّنوا في حُلَـلِ الكلام تلونَ الحِربا،
وتخيَّروا من بدائع المحسناتِ كلَّ مَقْصَدٍ سَما وأرْبَى، فمِن مَجاز للفصاحة
مَجاز، وحقيقةٍ تُزري بشقائقِ ابن الشقيقة[8]، وإيجاز تقلَّد بدلائل الإعجاز[9]، وتشبيهٍ بلا شَبيه، وتقسيمٍ وسيم، وتلميح
مَليح، وغُلُو في غاية العُلو، وجناسٍ موصولٍ بالإيناس، وتمثيلٍ بلا مثيل، وإبهامٍ
يحيِّر الأ[فها]م، و[تفـ]ـريقٍ في الحسن عَريق، وحُسن خٍتام، كشف عن وجوهِ
البدائعِ اللِّثام، فسُبحان من آتاهم الحكمةَ وفَصْـلَ الخطابْ[10]، وجعلَ ألسنتَهم لِزَبد البلاغة أحسنَ وِطابْ،
وحسَّن بهم خمائلَ القَريض، فكأنهم في فَم الأشعار ابتسام. وخص كلمتهم برُقية
النفوس، فلو رَقَوا بها مريضا ما طَرق ساحتَه السَّـام، وأدارَ عليهم راح المُلح،
في حان الخَلاعة فأصبحوا حَـيَارى، "وتَرَى النَّـاسَ سُكارى ومَا هم
بِسُكَارى"[11]؛
هُمُ القَوْمُ فَاُجْهَدْ في اتِّباعِ سَبيلِهِـمْ
وإنْ
لـمْ تَكُنْ شِبْهاً لَهُـمْ فَتَشَبَّهِ
اللهُم
كما رفعتهم من سماءِ الشرف مكانا عَليا، وألبسْتَهم من بُرودِ السعد والقَبول
حُليا، فاجعلنا من التابعين لهم بإحسان، المتمسكين بما كان لجَموحِ المعاني في
أيديهم من مُحكَم الأرْسان، بِجاهِ مَن إذا خُتم الدعاءُ بالصلاةِ عليه أسرعتَ
بالإجابة، مولانا محمد بنِ عبد الله، الذي ظَهرتْ على أسِرَّة وجهه، وهو في
المَهد، مَخاييل النجابة، أفضَلِ الأنبياء والأملاك، فغيرُهم أولى وأحرى، القائلُ،
"ومَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى"[12]:
"إنَّ مِنَ الْبَيَانِ
[ص53] لَسِحْرا[13]"،
والآخِذُ من البراعةِ بالتَّرائب، حين أخذ الناس بالعَراقيب والأعْضاد، الناطقُ
بجوامِع الكلِم، ولا غروَ فهو أفصحُ من نطقَ بالضاد. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه
الذين هم براعةُ استهلالِ هذه الشريعة، المعتنون[14]
بنقد جوَاهر كلامِ العرب في الجِد والهزلِ، مع عظيمِ حِرصهم على سدِّ الذَّريعةِ،
والرضا عن كل من كَمُلَ نوعُ إنسانيتِه بخاصَّة الأدب، ففُضِّل بها عن أبناء جنسه،
وبذَل في افتضاضِ أبكارِ القصائدِ وعرائسِ مُخدَّراتِ الأراجيزِ حشاشةَ نفسه،
علماً منه بأن الأدبَ به تتفاوتُ المقاماتُ [في المشاهدِ]، ويستحقُّ الغائبُ
التقدمَ على الشاهد. ولعمري إن كل من لا يتعاطى الأدب، ولا ينسُلُ لاجتلاءِ
غُرَرِهِ، واجتلابِ دُرره من كل حَدَب، ما هو إلا صورةٌ ممثَّلة، أو بهيمةٌ مُرسلَة.
ولما كان توشيحُ إبراهيم بن سهل رَيْحانَةَ كل
من له إلى الأدب انتساب، وذَخـ[يرة] أهلِ الجزيرةِ التي هي من أجلِّ الذخائرِ
وأفضلِ الاكتساب، فقد أ[جمعتْ] كلمةُ أربابِ البلاغةِ، واتفقَ رأيُ مَن نهضَ لتصفية
إبريز المعاني من الصَّاغَة، على أنه عَنْقاءُ مَغرب، الذي لا يُؤْتى بسورة من
مثله في مَشرق ولا في مَغرب،
وَشَـرَّقَ حَتَّـى لَيْسَ لِلـشَّرْقِ مَشْـرِقُ
وَغَرَّبَ
حتىَّ لَيْسَ لِلْغَــرْبِ مَغْـرِب
ُ
فلو
تصدَّى لمعارضتِه النابغة، لأقرَّ بإعجاز محاسنِه السا[بغة]،أو ألْحَدَ في آياتِه
شاعرُ بني أسد[15]، لشدَّ
لسانَه بحبلٍ من مَسد[16]
ولو بصُر به حبيبُ بن أوس، لم يمكنْه للمناضلةِ إنضاءُ قوس، أو المتنبي، كانت
معجزتُه مقرونةَ بالتَّحدي، أو أبو العلاء، أقرَّ على نفسِه [ص54]
بما لم تستطعْه الأوائلُ بالتَّعدِّي[17]،
أو ابنُ بسام، لما سامَ في مِضمار المساجلةِ سلَّ حسامُ. فيا لهُ من توشيح ردَّ
عيونَ أعيانِ هذه الصِّناعة من الحياءِ مُطرقة، تاليةً آياتِه على من قاسَها
بامرىءِ القيس، "فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا
كَالْمُعَلَّقَةِ[18]". وفيه
و فيه، مما لا أعدُّه ولا استَوفِيـــه.
طلبَ
منِّي بعضُ من اتخذَ تردادَه وِرْدا، وارتَوى من زلالِ معانيهِ المُترقرقةِ على
صفا ألفاظِه وِرْدا، وجعلَه في ساعةِ الفرحِ، تميمةً من التَّرحِ، أن أكتبَ عليهِ
ما يوضِّح غامضَ مَعانِيه، ويأخذُ بمجامعِ قلبِ مُعانِيه، ويُسفرُ عن وُجوه
لطائفِه مُسدلَ الحِجاب، ويُديرُ على حفاظِه من سلافِه كُؤُوسَ الإعجاب، فقلتُ: يا
هؤلاء؟ "لَقَدْ جِئـْتُمْ شَيْئاً إدًّا"[19]،
وسألتُم ما سجَّل عليه قاضي العَجزِ و[أدَّى]، وتطلَّبتم ما هو "أبْعَدُ مِنْ
بَيْضِ الأنُـوقِ"،[20]
و"أَغْرَبُ مِنَ الأَبْـلَـقِ الْـعَـقُـوقِ"[21]،
من أينَ للزَّمِنِ أن يُجارِيَ الراكِب، ومتى ساوتِ العراقيبُ المناكِب؟ ومن أجهلُ
ممن يعارضُ البحرَ بالوَشَل[22]؟
أو يُقَاوِمُ النشاطَ بالفشل؟ أو يُساوي الجوهرَ الفردَ بالحَصا؟ أو يجمعُ في
غِمدِ القراطيسِ[23] بين السيف
والعَصا؟ على
أني لو لبيتُ
النِّدا، وسقطت على [ص55] شرحه
سقوط النَّدا، لقيلَ لي: ليس هذا بعشِّك فادرُجْ،[24]
وما النادي بِنادي أمثـالك فاخرجْ، فَلْتُقِيـلُـوا، ولا تَقُولــوا[25]:
قَـدْ يُـدْرِكُ الْمَجْـدَ الْفَتَـى وَلِبَاسُـهُ
خَلَـقٌ وَجَيْـبُ
قَمِيصِـهِ مَرْقـوعُ
فما زادَهم تحذيري إلا إغراءً وإلحاحا، ورأَوا أحاديثَ
اعتذاري ضعيفةً، وأحاديثَ سؤالهم صِحاحا، وتَمالأَ على التَّصميمِ سرُّهم
ونَجواهُم، و "مَازَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ"[26].
ولم يكن في عُذري لهم من مَقْنَع، وأحبّ شيءٍ إلى الإنسان ما امْتَنَع. فلما رأيتُ أنه لابُدَّ من صَنعا[27]،
أجبتُهم وإن كنتُ لا أحسنُ صُنعا، ففوَّقتُ للشروعِ سَهم العَزْم، وأَطَرْتُ عن
زنده شررَ الحَزْم، وأدخلتُ على مُعتلِّ التَّواني حرفَ الجَزْم. ونهضتُ وَأنا
"أَحْيَرُ مِنْ ضَبٍّ"[28]،
وأشغلُ مِن صَب. فرسمتُه في صحائفِ الوهمِ، وصَقلتُ لمناولتِه صَدأ الفَهم،
وحُبَّبَ لي أن أجعلَـه أَمَماً: نزح عنهُ تقصيراتُ الشروحِ وإفراطُها، تمسُّكاً
بقول المُصطفَى: "خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا"[29].
وجعلتُ الكلامَ على كلِّ بيتٍ محصراً في
مَطالب:
أولها: تفسيرُ ألفاظه اللغويةِ،
وقدمتُه لأن ذلك طريقٌ إلى تحصيلِ ما بعدَه.
[ص56]
ثانيها: رفعُ القناعِ عن معنى التركيبِ،
وتنزيلُ المعاني على الألفاظِ، ونسقُ بعضِها ببعض، حتى تكونَ من حيث المعنَى كأنها
سبيكةُ إبريز، تشهدُ لصائغِها بالتقدّم في الصناعةِ والتَّبْريز.
ثالثها: وشْيُ حُلَــلِ البيتِ بسلكِ المَعاني
ثم بجوهرِ البيانِ، ثم بيواقيتِ البديعِ، وهذا ألطفُ المطالبِ
وأعلاهَا، وأغلاها، إذ هو مضمارُ ما يقعُ به التَّفاضُل، وينعقدُ بين الأماثِل في
شأنِه التسابقُ و التَّناضُل.
رابعها: الإعرابُ، الذي هو سببٌ لفهم فَحوى
الكلامِ وظهورِ لحنِ الخِطاب.
وربَّما
أُلْمِعُ في خلالِ هذه المَطالبِ بما رأيتُ له مَماسةً بالمَقام، مما تُثيرُه
المناسبةُ وتقتضِيه، وتميلُ إليه الفِطرُ السليمةُ وتَرتضيه، من النظمِ
الجَزل،[في] الجد والهزل، ومستظرف الحكايات التي يحصُل بها للناظرِ الإمتاع، ولا
يعدُّها من سَقَطِ المتاع المُبتاع. وقد قيل: إن الحكاياتِ عروسٌ، والمُـتكلَّم
ماشِطَتُها، والأخبارُ عُقودٌ، والأدبُ واسطتُها. وما كان في ظنِّي أن أذكرَ من
تِلكَ المطالب، إلا مالا مَنْدُوحَةَ عَنْه للطاَّلب، فتشابكتِ المَسائل، وخرجَ
الأمرُ كما قال القائل[30]:
خَرَجْنَـا عَلَـى أَنَّ الْمَقَـامَ
ثـَلاَثَـة
فَطـَابَ لَنَا
حَـتَّى أَقَمْنَـا بِـهِ شَهْرَا.
[ص57]
ثم أقول كما
قال الحريري: "يَا رُواةَ القريضِ، وأساةَ القولِ المَريضِ، إن خلاصةَ الذهبِ
تظهرُ بالسبك، ويدَ الحق تصدعُ رداءَ الشك. و ها أنا قد عرضتُ خبيئتي
للاختبار"[31]، وعرضتُ
حقيقتي على الاعتبار، فمن وجدَ فيه عِثاراً فليقلْ: لَــعَا[32]،
أو اطلعَ على سهو فليُسدل عليهِ من حُسن تأويلاتِه بُرقُعا. وإن لم يُبلغني
الناظرُ من إِنصافه ما أَرجوه، فعُذري بادٍ للعيونِ من وجوه.
أحدُها أن هذا أولُ مجموعٍ أبرزتُه في قالبِ
التَّصنيف، وأفرغتُ جُهدي فيما يحصُلُ به لأُذنِ سامِعه التقريطُ والتَّشْنيف، مَع
كونِي في إِبان الحَداثَة[33]،
التي الغالبُ على صاحبِها ألاَّ يميِّز الاثنينِ من الثلاثةِ، لم أبلُغ من
البلاغةِ أشُدِّي، ولا ثبتَ عند قضاةِ الأدبِ رُشدي، فلا يجعلِ الزَّلَلَ ذريعةً
للوقيعةِ والسِّباب، وليتذكَّر[34]:
فَــإِنْ يَـكُ قَدْ أَسَاءَ الْقَـوْلَ عَمْــرو
فَـإِنَّ مَظِنّـةَ
الْجَهْـلِ الشَّـبَـابُ
بَيْـنَ تَأْ[لِيـ]ـفِــي وَتَأْلِيـفِ الْــوَرَى
قَـدْرُ مَا
بَيْــنَ الـثُّـريَّا والـثَّـرَى
[ص58]
ثالثُها: عدمُ [تَيـ]سيرِ الآلاتِ، التي يُكَلَّلُ
منها قمرُ التوشيحِ بِبدائعِ الهالات،
وتُنَوَّر بها [في ] حلِّ المشكلاتِ المَقالات. وإنما يوجدُ من ذلكَ مالا
يُغني شيئا، ولا يمدُّ على الطالبِ في هَواجرِ المُعضلات ظِلاًّ ولاَ فَيْئا.
رابعها: تقسيم الخاطرِ بأشجانِ الغربةِ[36]،
الجالبةِ للمرءِ غايةَ الكُربة، وفي شُغل شاغلٍ مَن تصرَّفت فيه أيْدي الدَّهرِ
بالإِبعادِ والنأيِ، وفرَّقت مجموعَ شملِه، فهو يترجَّى أن تُصلح ما أفسدتْ وإن
بعد لأي. وكيفَ يلفِّق بين كِلْمتين من تمهَّدت ذاتُه بيْتا، أو حُشر من قبْر حرْب[37]،
واستوتْ على عرشِ صدرِه عروضُ الخُطوب فأصيبَ من الحوادث بكل ضرب، أو كيف يتألَّقُ
مع أشجانِ الوحشةِ عارضُ فكر، أو تتعلَّق بالذهنِ مسألةٌ أو تبقَى لهُ على ذِكر،
يَقُولُ النَّاسُ فِي مَثَلِ
تَذَكَّرْ
غَائـِبـاً تَـرَهْ[38]
فَمَـا لِـي لاَ أَرَى بَلَــدِي
وَلاَ أَنْسَـى
تـَذَكـُّـرَهْ
وكيفَ أنسَى تِذكارَ بلدِي، التي خانني على
مفارقتِها جَلَدِي. بِلادي التي لا يَزيدُها طولُ المديحِ الصادقِ رفعةَ قَدر، فهي
كما قال الأعرابِي الذي[39]
ضلَّت ناقتُه في مدحِ البدرِ[40].
[ص59]
أَحـِنُّ إِلَى الْحَـمْـرَاءِ فِي كُـلِّ سَاعَـةٍ
حَنِينَ مـَشُـوقٍ
لِلْعِنَاقِ وَلِلـضَّـمِّ[41]
وَمَاذَاكَ
إِلاَّ أَنَّ جِسْـمـِـي رَضِيعـُهَـا
وَلاَبُـدَّ مِـنْ
شَـوْقِ الرَّضِيـعِ إِلَـى الأُمِّ
نسأله سبحانَه، أن يقلِّص ذَيْل الغربة فقَد
طَال، ويعطف علينا قلبَ الدَّهر فقد دان بالمِطال.
وإنما ذكرتُ هذه الأسباب، ليعذِر الواقفُ على
الخَطَا، ويعلمَ السبب في عدم نومِ القَطا[42].
على أَنِّي لَوْ أرخصتُ دررَ نوادرِ القالي، لم أَخلصْ من عدوٍّ قالِ، ولو أبخستُ شذورَ الأمالِي، لَم أَخلُ من
حقودٍ يعكسُ آمالِي. فجديرٌ بي أن أصعِّد أنفاسِي وأتمثل بقولِ العلامةِ الفاسي:
مَا شَانَهَـا شَـيْءٌ سِـوَى أَنْ لَـمْ تَكُنْ
مِمَّنْ تَقَـادَمَ
عَـهْـدُهُ أَوْ مَـشْـرِقِ
والنفسُ مسرفةٌ غاية السَّرف، [ في تنقيـ]ـص
الجديدِ ومدحِ القديمِ كما قال ابن شرف:[43]
أُغْرِيَ النَّــاسُ بِامْتِــدَاحِ الْقَدِيـــمِ
وَبـِذَمِّ
الْحَدِيـثِ غَـيْـرِ الـذَّمِيـمِ
لَيْـسَ إِلاَّ أَنَّهُـمْ حَسَـدُوا الحَيْــ
يَ
وَرَقُّـوا عَلَـى الْعِظَامِ الرَّمِيـمِ
آخَـــرُ:
قُلْ لِمَنْ لاَ يَرَى الْمُعاصِرَ شَيْئاً
وَيَـرَى
لِلأَوَائِـلِ الـتَّـقـدِيـمَا
[ص60]
إَنَّ ذَاكَ الْـقَـدِيـمَ كَـانَ جَدِيـدَا
وَسَيَغْـدُو هـذَا
الْجَدِيـدُ قَـدِيمَا
آخَــــرُ:
إنْ كـَانَ أَخَرَّنِي دَهْـرِي فَـلاَ عَجَبُ
فَوَائِـدُ
الْعِلْـمٍ يُسْتَلْحَقنَ فـي الطُّرَرِ
و الناسُ يُعامِلون فِعْلَ الْقَريبِ بالجزمِ،
ويَرفعون أمرَ البعيدِ كما قال ابنُ حزم:
لاَ تَرَى عَالِمـاً يَحُلُّ بِقَوْمٍ فَيُحِلُّوهُ
غَيْرَ دَارِ الْهَوَانِ
هَذِهِ مَكَّةُ الْمَنِيعَةَُ بَيْتُ الْــ ــلَـهِ يَسْعَى لِحَجِّهَا
الثَّقَلانِ
وَترَى
أَزْهَدَ الْبَرِيَّةِ فِي الْحجْـجِ بِهَـا أَهْـلَهَا لِقُرْبِ مَكَانِ
وقال ابن الجوزي:
عَذِيرِيَ مِنْ فِتيَةٍ بِالْعِرَاقِ
قُلـُوبُهُمُ
بِالْجفَـا قُـلَّبُ
يَرَوْنَ الَعَجِيبَ كَلاَمَ الَغَرِيبِ
وَقَوْلُ
الْقَرِيبِ فَـلاَ يُعْجِبُ
وَعُـذْرُهُـمْ
عِنْدَ تَوْبِيخِهِمْ:
مُـغَنِّيَةُ
الْحَـيِّ لاَ تُـطْرِبُ
وهذه سجية لنفوسِ الأوائلِ من لزومِ العَرضِ
للجوهرِ أَلْزَم، "شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْــزَمْ"[44].
[ص61]
واعلمْ
أيها الناظرُ، أن كتابي هذا ألَّفتُه، كما يقولُ الناسُ،" شَحمةً بِفَحْمة،
وثَمَرةً بِجمرة". ولعلَّ ما تستخشِنُه، غيرُك يستحسنُه، وما تَستقبحُه،
غيرك يستملِحُه، فلا تغيِّر منه ما
سَامَكَ بِالارْتياب، وإِلاَّ فأنتَ أجرأُ من مُجَلَّحَةِ الذئَاب[45]،
وأنا قد جعلتُه مباحاً لمن طلبَه من الطَّلبة، ومتاحاً لمن أرادَه من الرَّادة،
واللهُ يُحسنُ النِّية، ويخلِّص من كادوراتِ الرياء خالصَ الطَّوية، ويعصمُنا من
الخطَل في القولْ، فبيدِه القوةُ والحَوْلْ.
وترْجمتُه
لما أسرجتُ طِرْفَه[46]
لفارسِ النظرِ وألجمتُه: المسلك السهل في شرحِ توشيح ابن سهل. وعنَّ لي أن
أقدِّم قبل الخوضِ في لُجَجِ مَعاني التوشيح مقدمة تكون كالرعيل لجيش أبياتِه،
وعلماً منشوراً على طلائعِ راياتِه، أضمِّنُها التعريفَ بناحتِ دُرَرِهِ
المُزخرفة، والمُجري مياهَ الفصاحةِ خلالَ أزهارِ روضتِه المفوَّفَة، مع إضافةِ ما
هو أوقعُ في نفوسِ الأدباءِ من الولدِ في قلوب العقيم، والشفاءِ في وَجَعِ
السَّقيم، وذكرِ نُبَذٍ في صناعة التواشيح، واختراعِها، ومُخترعها، وما يكون
كالذيلِ لذلك مما تقفُ عليه في حالِه، وتَقْتَضي من دَيْنِه جَنَى مؤجَّلِه
وحالِّه، فانحصرَ القولُ في ذلك في سمطين.
[1] - اقتباس من الآية:
" وَفي الأرضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ منْ أعْنابِ وَزَرْعٍ وَنَخيلٍ
صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ".) سورة الرعد 13/4).
[2] - يشير إلى كتاب قلائدِ العِقيانِ للفتح بن خاقان، وهو من الكتب
التي راجت في هذا العصر.
[3] -اقتباس من الآية: "ومَا يَسْتَوي الْبَحْرانِ، هَذَا عَذْبٌ
فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ". سورة فاطر 35/12.
[4] - الأغراض الأولى يريد بها أغراض الشعر، والثانية الأهداف يُرمى
فيها، مفردها غَرض.
[5] - يشير إلى معجم القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروزبادي،
والقاموس في أصل اللغة هو البحر، ولهذا قال: "غاصوا".
[6] - إشارة إلى معجم صحاحِ اللغة وجواهرِ العربية للجوهري.
[7] - قد يكون هذا إيماءةً من المؤلفِ إلى أبي منصور الأزهري صاحب معجم
تهذيب اللغة.
[8] - في حاشية الأصل، بخط المؤلف:"ابن الشقيقة هو النعمان بن
المنذر".
[9] - دلائل الإعجاز هي علاماته
يشيرإلى كتاب عبد القاهر الجرجلني: دلائل الإعجاز.
[10] - اقتباس من الآية "وّشَدَدْنا مُلْكَهُ وآتَيْناهُ
الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطابِ" (سورة صاد 38/20).
[11] - سورة الحج 22/2.
[12] ـ اقتباس من الآية: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى". (سورة
النجم 53/3 ).
[13] ـ الموطأ 698 وفيه: "قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس
لبيانهما، فقال رسول الله(ص): "إنَّ مِنَ الْبَيانِ لَسِحْرا" أو قال:
"إنَّ بَعْضَ البَيَانِ لَسِحْرٌ"، (انظرمجمع الأمثال وزهر الآداب.1/6).
[14] - في الأصل: "المعتـنين"، ولم نر له وجها، إلا أن يكون
وصفا لِـ "آله وأصحابه".
[15] - شاعر بني أسد هو: عبيد بن الأبرص الأسدي وهو من قدامى الجاهليين.
[16] - اقتباس من الآية "وَامْرَأتُهُ حَمَّالّةُ الْحَطَبِ في
جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ" (المسد 111/5).
[17] - إشارة إلى قول المعري:
لآتٍ بِمَــا لَــمْ تَسْتَطِعْـــهُ
الأوَائِــلُ. |
|
وإنِّــي وإنْ كُنْــتُ الأَخِيــرَ زَمَانُهُ |
(شرح
سقط الزند، القسم الثاني 525)
[18] - سورة النساء 4/129.
[19] - اقتباس من سورة مريم 19/89.
[20] - من أمثال العرب "أَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الأَنُـوقِ".
والأَنُوق: الرَّخَمُ. ويُضربُ المثلُ ببيضها للأمر العسير، لأنها تبيض في رؤوس
الجبال. وقيل: "الأنوق ذكر الرخم، ولابيض له". (أفعل من كذا 40.)
[21] ـ يقال: "سَأَلْتَــنِي الأبْلَقَ العَقُوقَ" وهو الذكر
من الخيل، "ويقال:فرس عَقوق،إذا حملتْ فامتلأ بطنُها، فالأبلقُ العقوق
محالٌ"، (الكامل للمبرد 2/271، ولسان العرب: عق) وقد تمثل معاوية ببيت جمع
فيه صاحبهُ المثلين:
طَلَبَ الأَبْلَقَ العَقُـــوقَ، فَلَمَّـــا لَمْ يَنَلْــهُ،
أَرَادَ بَيْــضَ الأَنُــــوقِ
[22] ـ الوشلُ: الماءُ
القليل يرشَح من صخر أو جبل.
[23] - القرطاس هنا، على ما يبدو، أديمٌ ينصب للنصال، ويسمى الغرض
قرطاسا،(لسان العرب: قرطس.)
[24] - هذا مثل عربي أصله: "لَيْسَ هذا بِعُشِّكِ فادْرُجِي"
(مجمع الأمثال 2/130).
[25] - ورد البيت في الموشى 159.
[26] - اقتباس من سورة الأنبياء 21/15.
[27] - اقتباس من الرجز:
لاَ بُدَّ مِـنْ صَنْعَا وإنْ طَالَ السَّفَــرْ |
وَإنْ تَحَنَّـــى كُــلَُ
عَــوْدٍ وَدَبِــرْ |
يوجد الشطر الأول منه في لسان العرب (صنع).
[28] - قال في مجمع الأمثال 1/ 237: "لأنه (أي الضب) إذا فارقَ
جُحره لم يهتدِ للرجوع إليه".
[29]- لم يرد هذا الحديث في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ولا في كتب
الحديث التي تيسَّر الاطلاع عليها، ومنها الفائق للزمخشري. وفي الكامل 1/243:
"ومن كلامهم: خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا". وصنَّفه المحقق مع الأمثال.
[30] - في الحاشية بخط المؤلف: "هذا البيت رأيتُه في منطق الطير
غيرَ معزوٍ، ووقفت عليه في مقطعة ذكرها الشريشي في الكبير ونسبها للحسن، ولعله ابن
هاني، إلا أنه قال: "حتى أقمنا بها عشرا".وكما توقع المؤلفُ فالبيتُ
للحسن بن هانئ، أبي نواس، من قصيدةٍ خمرية في ديوانه 244، مطلعها:
وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ صَرَفْتُ مَطِيَهُمْ إِلَى بَيْتِ
خَمَّارِ، نَزَلْنَا بِهِ ظُهْــرَا
[31] - انظر المقامة الحلوانية بحاشية الشريشي الكبير 1/35-39.
[32] - يقال للعاثر: لَعاً لَكَ: أيْ أقامكَ اللهُ من عثرتك.
[33] - أنظرالإفراني وقضايا الثقافة والأدب.
[34] - البيت للنابغة في ديوانه 19 من مقطوعة ردَّ بها على عامر بن
الطفيل، وفيه:
فَإِنْ يَكُ عَامِرٌ قَدْ جَاءَ جَهْلاً...
[35] - بضاعة مُزجاة: قليلةٌ ورديئةٌ. وفي سورة يوسف 12/88: "يَا
أَيُّها الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضَّرُّ وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ
مُزْجَاةٍ".
[36] - انظر:الإفراني وقضايا الثقافة والأدب.
[37] - اقتباس من البيت المشهور:
وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْـرِ حَرْبِ قَبْـرُ |
|
وَقَبُرُ حـَرْبٍ بِمَكَـانٍ قَفْـر |
[38]- البيتان في نفح الطيب 4/ 113، 160، 323. لأبي الطاهر إسماعيل
الخُشني الجياني المعروف بابن
أبي ركب.
[39] - في الأصل: التي، والمثبت عن (ب).
[40] - كأن الناسخ أخطأ قول الأعرابي، وإن كان اطلاع المؤلف على النسخة
وتعليقه على الأبيات بعده
يقلل من أهمية هذا الغموض.
[41] - في الحاشية بخط المؤلف: "[البيتان] لأبي روح [الجز]يري [إلا
أنه] قال: أحن إلى الخضراء،
[يعني جزيرة
الأنـ]ـدلس". وما بين المعقوفين أكل أرضة.
وورد البيتان في نفح
الطيب 2/93، وفيه: "ومنهم ابن أبي روح الجزيري، ومن شعره لما تغرب
بالمشرق....."
البيتان.
[42] - مثل عربي أصله من مجمع الأمثال 2/123. "لو تُرك القطا ليلا
لنام".
[43] - ورد البيتان غير معزوين في المرقصات والمطربات 6. وفي الأصل:
ذميم، بدون تعريف والمثبت
عن المصدرالسابق.
[44] - شطر رجز لأبي أخزم الطائي وهو:
إِنَّ بَنــــيَّ زَمَّلُونــــــــي
بِالــــدَّمِ |
شنشِنـــــة أَعرفُهـــا مِــــن
أَخْـــــــزَمِ |
مَــــنْ يَلْـــقَ آسَـــــدَ الرجــالِ
يَكلَــــمِ |
والشنشنة: الطبيعة والسجية، ويضرب هذا المثل
لمن أتى شيئا يُتوقع من مثله
(انظر
لسان العرب:شنن، ومجمع الأمثال 1/361).
[45] - من بيت لامرئ القيس في ديوانه (ط دار المعارف ص 97):
وَ أَجْرَأُ مِن مُجَلَّحَةِ الذِّئَــابِ |
|
عَصَافِيــــرٌ وَذِبـــــانٌ وَدُودٌ |
أي” المصممة على الشيء، التي لا ترجع عما
تريد" (نفسه )
[46] - الطِّرف: الكريم من الخيل (القاموس المحيط: طرف).