مراصد الخطاب

 

*****************************

سؤال المجاز،

 أو رؤوس الشياطين

 

يكاد الدارس يجد عند كل منعرج من تاريخ البلاغة العربية سؤالا  طرح على المؤلف مباشرة أو أثير في النقاش الموضوع أو اتخذ شكل حدث عابر أو خصومة ....إن هذه الأسئلة الصريحة ليست سوى قشرة الثلج الصغيرة التي تخفي الجبل الرابض تحت المــــاء: جبل الأسئلة .

 

يروى أن إبراهيم بن اسماعيل الكاتب سأل أبا عبيدة معمر بن المثنى حوالي سنة188 هـ قائلا :

"قال الله عز وجل :

"طلعها كأنه رؤوس الشياطين" (37/65)

وإنما يقع الوعد و الإيعاد بما عرف مثله. وهذا لم ُيعرف

قال أبو عبيدة : "إنما كلم الله تعالى العربُ على قدرِ كلامهم .أمَا سمعت قول امرئ القيس :

أيقتلني والمشرفي مٌضاجـعـــــي     و مسنونةُ زرقٌ كأنياب أغــوالِ

"وهم لم يروا الغولَ قطُ . ولكنهم لما كان الغول يهولهم أُوعِدوا به "

قال أبو عبيدة :" وعزمت‘ ،منذ ذلك اليوم ، أن أضع كتاباً في القرآنِ في مثل هذا وأشباهه وما ‘يحتاج‘ إليه

من علمه . فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز" الغريب أن أبا عبيدة لم يتطرق لهذا الخبر (الذي أورده الحَموي في معجمه 19/159) حين مروره بالآية المذكورة (" طلعها كأنه رؤوس الشياطين ألصافات 64).

فهل اكتفى أبو عبيدة بالرد المباشر على سؤال السائل، أم تراه أورد الخبر في مكان آخر أم ترى السؤال متأخراَعن الكتاب ومستنبط منه ؟ الأمران سواء عندنا فالسؤال موجود في الجواب : أي في تحليلات أبي عبيدة

وبخلاف ذلك نجد الغراء يتوقف عند هذه الآية في كتابه : معاني القرآن، ويقترح كما سيأتي عدة أوجه لتخريجهادون إثارة سؤال .

إن السؤال المنطلقَ لمشروع أبي عبيدة يثير إشكالا، لأنه نظر من زاوية واحدة، وهي الزاوية التداولية (بالنظر إلى نجاعة الخطاب الإقناعي المباشر)، في حين أحال أبو عبيدة سائله على بعدآخر( البعد التصويري التخييلي العاطفي). لم يسم أبو عبيدة مرصده وزاوية نظره، لأن الوقت لم يحن بعد‘ لذلك، ولكنه صنفَه من خلال تأنيس الصيغةِ القرآنية بصيغةٍ أخرى واردةٍ في كلام العربِ :(الشعر)

كأني بأبي عبيدة يقول للسائل، الذي قد يكون هو الآخر‘ مسؤولاً (كما هو حال سائل الغراء) :

إن هناك بعداً آخر للخطاب القرآني، ومرصدا آخر ينبغي رصد‘ه منه. انطلاقا من كونه خطابا لقوم بلسانهم وحسب ما يفهمون من كلامهم ("إنما كلمَ الله‘ تعالى العَرب على قدر كلامهم").

كانت هذه هي الحجة الأولى، أما الحجة الثانية فتقوم على تفسير فاعلية الصورة التعبيرية وبيان وجه فاعليتها، على وجه العموم. فهنا نظر أبو عبيدة نظرة ثاقبة حيث بنى الصورة على المتخيل لا على القائم في الوجود. فالناس يتأثرون بما يتَخيل‘ إليهم ويقع في أذهانهم أحيانا أكثر مما يتأثرون بالواقع. خاصة في المجال العاطفي والخيالي. فالمسألة لأبي عبيدة ليست كما تصورها السائل‘ مسألة إفهامٍ أو تعليم، بل هي مسألة تأثير عن طريق الصورة المختزنة في المخيلة. إن اكتشاف القمر وتصوير البتور البركانية المشوهة في وجهه، لمْ يوقف الشعراء والمحبين عن التغني بجماله.

هذا هو منحى أبي عبيدة. وقد نظر بعض‘ اللغويين في عصره من الزاوية المعجمية أيضاً محاولين البحث عن مرجع للصورة في الواقع لا في الخيال وما استقر في النفس، مع الاحتفاظ بالاحتمال الآخر. وهذا ما نجده عند الغراء. قال :

"إن فيه في العربية ثلاثة أوجهٍ :

[1] أحدها أن ‘تشبه طلعتها في قبحه برؤوس الشياطين لأنها موصوفة بالقبح وإن كانت لاترى. وأنت قائل للرجل : كأنه شيطان إذا استقبحته.

[2] والآخر أن العرب تسمي بعض الحياتِ شيطاناً. وهو حية ذو عرفٍ كما قال الشاعر، وهو يذم امرأة :

عجرد تحلف حين أخلف 

    كمثل شيطان الحماطِ أعرف

[1] ويقال إنه نبتٌ قبيحٌ يُسمى برؤوسِ الشياطين .

و الأوجه الثلاثة تذهب إلى معنىً واحدٍ في القبح." (معاني القرآن)

لقد أقام الغراء مرصده الأساسي في المعجم، كما تقدم، محاولاً محاصرة الجانب التصويري بجعله الشيطانَ حيةً أو نبتةً محتفظا بصفة القبح مع ذلك.

التوجيه الذي ذهب إليه الغراء منسجم مع ثقافته كما يُصورها كتابُه معاني القرآن (اللغة +النحو+الروايات والقراءات) ومنسجم مع السؤال الذي طُرح عليه أو طَرحه هو على نفسه:

    فقد روي، في تأليف معاني القرآن، "أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعاً إلى الحسن بن سهل رُبما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تَجمعَ أصولاً، أو تجعل في ذلك كتاباً أَرجعُ إليه فيه" فأملى الغراء كتابه. (انظر مقدمة المحقق سيزكين).

  لاشك في أن الأمثلة التي طُرحت على أبي عبيدة ومن في موقع أبي عبيدة من العلماء كثيرةٌ جداً. إنها الأسئلة الناشئةُ عن الحوار بين النص المنجز السابقِ على القاعدة والقاعدةِ الناشئةِ التي خُيلَ لأصحابها أنهم استخرجوا بنيةَ الكلام ونسقَه ولو من استقراءٍ غير تامٍ للنصوص. فالنحو، حسب كلامِ ابن السراج "علمٌ استخرجه المتقدمون فيه من استقراءِ كلامِ العربِ حتى وقفوا منه على الغرضِ الذي قصدَه المبتدئون بهذه اللغة"(الأصول1/34) فباستقراء هذا الكلام عُلم أن الفاعلَ مرفوع والمفعولَ منصوبٌ "و أن فعَل مما عينُه ياءٌ أو واو تقلبُ عينه، من قولهم : قام  وباع "(نفسه).

   غير أن هذا الاستقراءَ لم يُؤدِ إلى معرفة الأشياءِ غير المطردة على هذه المشاكلة. فبقيت أشياءُ كثيرةٌ خارج النظام الجديد للغة الذي سمي " نحواً، كما بقيت لغات وألفاظ كثيرةٌ خارج المعجم الذي سارت الحياة الجديدة في انتقائه ليكون دليلا للفصيح وغيرِ الفصيح ...الخ.

الأسئلة كثيرة كما يظهر من تنوع الجواب الذي قدمه أبو عبيدة والغراءُ وغيرُهما إذ يتناول قضايا اللغة (النحو: اطرادُالقياس أو عدمه+المعجم: المتداول الذي لا يحتاج إلى شرح وغير المتداول) كما يتناول قضايا المنطق(انسجامالخطاب).

   إذاكان الأمر كذلك فلماذا اختار أبو عبيدةُ (أو اختار غيره) أن يكون السؤال المفسرُ هو هذا السؤال المنطقي- البلاغي (أو التداولي الإقناعي )؟

  قد يكون في هذا السؤالِ شيء من الرمز المقصود أو غير المقصود الى رؤوس الشياطين التي بدأت تطل في ذلك العصر لإثارة الشَبهِ حول ما تشاكلَ من القرآن ابتغاء الفتنة.وقد حكى ابن قتيبة مجموعة من أسئلة المشككين في مقدمة "تأويلُ مشكل القرآن" وتصدى لها بالرد .

  هذا التأويل بعيد، وإن كان غير مستبعد بالنسبة إلى تعقيد التفاعلات داخل النفس الإنسانية حيث يقوم البناء الرمزي على أحوال شبيهة بالأحلام فيحمل أعمق الدلالات.

  والقريب من الأمر أن يُدخل اختيار السؤال في باب اختيار العناوين، لقد أراد أبو عبيدة (أو غيره) أن يكون هذا السؤال موجِها في قراءة الكتاب زيادة على العنوان العادي : المجار.

  فالتشبيه والتمثيل والنقل (الاستعارة) تشكل مستوى من مستويات المجاز التي تحدث عنها أبو عبيدة، بل هو المستوى الإشكالي الذي سيثير أشد النقاش وأكثر الخصومات عنفاً بين الظاهريين والمؤولين.

  فمن هنا قد يكون اختيار السؤال من باب تسمية مجموع شُعري أو قصصي بإحدى القصائد أو القصص لأمر يعلمه أو يُحسه المؤلف ويأخذالناقد نفسَه بكشفه. إنه نوع من المجاز المرسل كما سماه البلاغيون المتأحرون حيث يطلق الجزء البرز في الصفة الأقدر على التعبير عنها، على الكل مثل إطلاق القوافي على القصائد في قول الشاعر:

فنحكم بالقوافي من هجانا       ونضرب حين تختلط الدماءُ

  فقد ذكر القوافي وأراد القصائد، كما يقال في تقرير هذا النوع من المجاز .

ونظير ذلك قولُهم ألقى كلمة في الجمع أي خطبةً.

  لقد اعتنى أبو عبيدة بالجانب التشبيهي والتمثيلي، كما اعتنى بصور خروج الكلام عن مقتضى الظاهر بشكل يجعلنا نحس أنه يقدم هذا المستوى البلاغي منارة أمام صور المجاز الأخرى مهما بعُدت عن المفهوم الذي سيستقر عليه المجاز بتوجيه المتكلمين (قد نعود إلى هذه القضية مع أسئلة مشكل القرآن وأجوبة المتكلمين ذات الجدوى البلاغي) .

  لقد ارتبط المجاز عند أبي عبيدة بالجواز. قال، بعد استقصاء المجازات الممكنة: "وكل هذا جائزٌ معروف قد تكلموا به." (مجاز القرآن 1/16 ).

  حين نقرأ عمل أبي عبيدة بتعاطف نحس مدى استحضاره لسلطة المعايير واجتهاده في الخروج من ضروراتها، مع البقاء داخلَ كلام العرب، إنه يبحث عن وجه ومخرج لكل صور الخروج عن التوازي والتطابق مثل ايراد المفرد للجمع والجمع للمفرد..الخ وايرادِها للحي للموات( أو الجماد)، واستعمال الأدوات بعضها محل بعضٍ مثل قوله تعالى" لأصلبنكم في جدوع النخل "..الخ

  لقد قام أبو عبيدة بعملية الرصد والتأنيس بالأمثلة العربية من الشعر القديم. دون أن يقدم في أكثر الأحوال تفسيراً لكل ظاهرة على حدة، فقد اعتبر انتماءَ الحالات التي سجلها من القرآن الكريم إلى المجاز تفسيراً في حد ذاته.

  ثم عكف البلاغيون المنشغلون بالإعجاز في القرن الرابع الهجري خاصة على تفسير الصور (المجازية) التي أوردها أبو عبيدة فأبرزوا الكثير من مزاياها البلاغية. كما نجد عند الرماني مثلا ( انظر تفسيره للحذف في قوله تعالى:" ولو أن قرآنا سيرت به الجبالَ أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا "في النكت).

  لقد عكفَ البلآغيون على المتن البلاغي الذي استحرجه أبو عبيدة (بعد أن عزلوا عنه القضايا التوثيقية والقرائية التي اضطلع الكلاميون بتفصيل القول فيها ضمن الدفاع عن النبوة ودلائلها)، فاستحصلوا من حكمه قواعدَ للبيان والمعاني، وحين وصلت عملية التجريد نهايتها تسلحَ عالمٌ كبير من المعتزلة هذه المرة، هو الزمخشري، بهذه المعرفة وعاد بها مرة أخرى إلى النص القرآني، في تفسيره المشهور الكشاف. فانتقل من المثال الجلي إلى الإنجازات الدقيقة الخفية في البنية الدلالية للنص القرآني فكان تفسيرُه من أهم الأعمال التطبيقية في تاريخ البلاغة. كان عمق تحليلاته يشغل حتى الخصوم عن محتوى آرائه الإعتزالية.

  أمابعدُ فلعل القارئَ ينظر الآن إلى ما تبقى من فقرات هذا المقال و يتساءل: أين نماذج هذا الحوار البلاغي الذي نشب قبل وجود البلاغة؟

  قبل أن نقدمَ ما يسمح به الحيز من ذلك نقول: إنْ لم توجدِ البلاغة في ذلك الوقت المبكر( القرن الثاني هـ) فلقد وجد السؤال البلاغي الجوهري: ما طبيعة هذه الظواهر الحطابية المنزاحة عن المعايير النحوية والمنطقية؟

  إن هذا السؤال القديم سؤالٌ حديث أيضاً. ولذلك لا غرابة أن يكون في الأجوبة القديمة أحياناً جوهرُ الأجوبة الحديثة المؤطرة نظريا.

لنستمعْ إلى أبي عبيدة وهو يجرد من مجموعة من الأمثلة مفهومَ تداخلِ عالمِ الإنسان وعالم الحيوان والموات (بدون تعليق ):

  1-قال تعالى:" قالتا أتينا طائعين ".

   قال أبو عبيدة:" هذا مجاز الموات والحيوان الذي يُشبه تقديرُ فعله بفعل الآدميين" (مجاز القرآن 1/197)

 2-وقال مُوسعا هذا المفهوم في أول الكتاب :" ومن مجاز ماجاء من لفظ خبر الحيوان والموات على لفظ خبر الناس قال:" رأيت أحدَ عشر كوكباً والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين". وقال قالتا: أتينا طائعين". وقال للأصنام: لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون". وقال: يا أيتها النمل ادخلوا مساكنكم ليحطمنكم سليمانُ ..."( مجاز القرآن1/10-11).

  3- قال تعالى:"قالتْ نملة ياأيها النملُ اُدخلوا مساكنكم"

    قال أبو عبيدة:" هذا من الحيوان الذي خرج مخرجَ الآدميين، والعربُ قد تفعل ذلك، قال:

شربتُ إذا ما الديكُ يدعو صحابه      إذا مابنوا نعشٍ دنوا فتصوبوا"

                                  ) نفسه 2/93(

  وقد سلك الغراءمسلك أبي عبيدة فخرج مجموعة من الآيات على هذا الأساس بمثل قولة:

"وقوله: فما ربحت تجارتهم..."

  ربما قال القائل: كيف تربح التجارة؟ وإنما يربح الرجل التاجرُ.

وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك. فحسن القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه.

ومثله من كلام العرب:" هذا ليل نائمٌ". ومثله من كتاب الله:" فإذا عزم الأمر".إنماالعزيمة للرجال..فلو قال قائل:" قد ربحت دراهمُك ودنانيرك، وخسر بزك ورقيقك كان جائزا لدلالة بعضهم على بعض". (معاني القرآن 1/14-15).

  المؤسف هو أن هذا النقاشَ العميق في مرجعيةالصورة وعواملهاقد ضاع مع استقلال البلاغة وحصر التحليل في نطاق العلاقات بين مكونات الجملة.. لقد زيف السؤالُ البلاغي فيما بعد باعتبارات عقائدية ومذهبية فغاب العمق الذي أثاره السؤال الجوهري.                        

 

 

-2-

 سؤال المقام

في مدرسة الخطابة

 

 

يكاد الدارس يجد عند كل منعرج سؤالا مباشرا او متخفيا وراء حدث او مصطنعا

قناعا..بل ان الاسئلة الصريحة ليست سوى قشرة من جبل الاسئلة الرابض تحت الماء.

"مر بشر بن ا لمعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب ، وهو يعلم صبيانهم الخطابة ، فوقف بشر ،

فظن ابراهيم انه انما وقف ليستفيد، اوليكون رجلا من النظارة .  فقال بشر : اضربوا عما قال صفحا ، واطووا عنه كشحا. ثم دفع اليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه.".

 ( البيان والتبيين تح .هارون ص1 /135).

 ولما قرئت صحيفة بشر على ابراهيم قال: "انا احوج الى هذا من هؤلاء الفتيان "(نفسه 1/136).

   ما هو محتوى هذه الصحيفة التي تجعل الآستاذ يتنازل عن خطته في التدريس لصالح خطة جديدة ؟

  لقد اعترف ابراهيم , بكامل التواضع ، انه احوج الى الصحيفة من الصبيان الذين يتلقون عنه الخطابة . لاشك،اذن، انها تحمل الجديد ، ولا شك ان الجديد الذي تحمله يمتلك من قوة الاقناع ما يجعل الشيح يثور على نفسه.على انه يمكن القول بان الشيخ كان مهيا لمثل هذا الموقف ، أي اته كان يحمل سؤالا مقلقا ، ثم وجد نفسه فجاة امام الجواب .

هل هذه هي الملرة الآولى التي يمر بها بشر بابراهيم :وهماشيخان من شيوخ المعتزلة مشغولان بالجدل والاقناع لصالح النبوة والمذهب ، أو من زاوية نطر المذهب ؟ لا ان الأمر لاشك مبيت ، لقد أعدت الخطة الجديدة ، الخطة البديل في صمت .وأعدت طريقة تقديمها بحيث طوبت المراحل طي من تمرس بالمناظرة وعرف كيف يصيب المفصل . ومع طي  هذه المرحلة طوي السؤال التمهيدي الذي يمكن تصوره على الشكل التالي :

-هل ترى يا ابراهيم أن طريقتك هذه ، في تعليم الخطابة ، طريقة ناجعة ؟ وهو سؤال ينطوي على إ نكار .

كـان الحوار صامتا أشبــه  بالترافع أمام المحاكم  بالمذكرات (الدفوعات المكتوبة ) . وفحواه : لـندع المزايدات الكلامية جانبا  .    ولـنعتمد المستندات والخطط البديلة .خاصة والحوار يجري داخل المذهب وتمارس نتائجه على أطفال المجموعة المعتزلية ،إنه حوار تحت سقف واحد ، في مسألة " أمنية " :الدفاع عن وجهة نطر المذهب . أما قول بشر :" اضربوا عن هذا صفحا ..." فهو أدخل في باب رفع الكلفة منه في باب الإعنات .فهو أكثر تأدبا مما لو سلم الورقة وانصرف ، لآ ن الورقة نفسها تقول ما قاله اللفظ الحي ، فسيكون الصمت أدل على السخرية والاستخفاف ،أو الاستهانة بالمخاطب .

                                              

*     *    *

ثم ماهي الطريقة التي كان ابراهيم بن جلبة يتبعها في تعليم الـتـقـنية الخطابية ؟ وما هي العيوب البـيداغوحية أو المضمونية(الايديولوجية)التي أثارت بشر بن المعتمر ودعته لتقديم بديل ؟

لايقدم الجاحظ وصفا لذلك ، ولم نطلع عند غيره على حديث عن طريقة المعتزلة في تعليم الخطابة قبل هذه الصحيفة ، ومع ذلك يمكن أن نسترشد بأمرين :

أحدهما الطريقة العامة في تأديب الأطفال خلال القرن  الأول الهجري . وعمودها الفقري تحفيظ الأشعار والمأثور من حكم العرب وأمثالهم وخطبهم . وقد أنجزت في هذا الإطار مجموعات شعرية من ضمنها المفضليات ..الخ. بل تعتبر المادة التي قدمها الجاحظ في البيان والـتـبـيـين من أ شعار المذاكرة والخطب المنتخبة والآمثال و الحكم والآخبار والتاريخ والتراجم أحسن نموذج لثقافة الخطيب في ذلك العصر .فعمل الجاحظ في هذا الصدد أشبه بعمل ابن رشيق في العمدة بالنسبة للشعر . وقد صرح ابن  رشيق بهدفه (العمدة في محاسن الشعر ونقده )؛إذ كان عصره يسمح بدمج القضايا التنظيرية بالقضايا الثقافية بالقدر الذي لم يسمح به عصر الجاحظ.

وثانيهما ، الرصيد البلاغي المتاح لذلك الوقت . وحدوده أوصاف عامة حول الجزالة والسلاسة و الايجازوالإطناب وشرف المعنى ، وهذا ما نجده عند الجاحظ وابن قتيبة في الحديث عن اللفظ والمعنى ، وفي البدايات الاولى لادعاءات البديعيين التي سيتصدى لها ابن المعتز متحدثا عن البنية اللغوية على الإطلاق ، أي في انفصال عن المقامات و الأحوال.

ولاشك أن الحديث عن شرف المعنى كان يلتبس بالاعتبارات الأخلاقية والإنتماء الإجتماعي ، وربما كان ابراهيم يكرس بطريقته تلك ، دون وعي منه ، بعض القيم التي لاتتلاءم مع موقف المجموعة التي أوكلت له تعليم أبنائها الخطابة، ومن هنا سلك بشر نفس الطريق البلاغي لتعديل المسار وتمرير الموقف المناسب الذي يتلاءم مع الموقع الفكري الاعتزالي

يمكن القول ، إذن ،بأن منحى ابراهيم منحى محافظ يقوم على إعادة إنتاج النصوص القديمة وتكريس المفاهيم المهيمنة ؛ وهي مفاهيم خصوم المعتزلة . هذا ما نستشفه -على الأقل- من محتوى وفحوى صحيفة بشر التي قدمت نفسها كبديل ؛ وقبلت على ذلك الوجه .

تنحو صحيفة بشر منحى نسبيا تداوليا .فمآل الأمر فيها إلى تحكيم مقامات الخطاب في البنيات اللغوية ، وربما في القيم الإجتماعية المعتبرة ، يقول :" والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة ، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة .وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقةالحال وما يجب لكل مقام من مقال." (ص 1/136 )

  ذلك "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة مقاما ، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات ." (ص/138-139) .

إن المسألة الخطابية هي مسألة وظيفية ،ولا مجال لترتيب الخطاب ترتيبا قيميا بين الوضاعة والرفعة ، بل الترتيب الممكن هو ترتيبه بحسب النجاعة .والنجاعة والفعالية تتم بمراعات المقامات والأحوال من زاوية الفعاليةلامن زاوية القيمة الاجتماعية.

إن هذا المفهوم الذي يتعارض مع مفهوم "الجزالة" و"الشرف" ،على الاطلاق ،هو موقف بلاغي قد يجد امتدادا له في حديث أرسطو ،ولكنه موقف مفسر من زاوية نظر تاريخية من خلال المعطيات المحلية .

إن قول بشر :"والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة.."لم ينطلق بهذه القوة والجزم إلا مدعوما بموقف قيمي اجتماعي سياسي .موقف وجد المناسبة البلاغية ليعلن عن نفسه دون ماحرج.

من هنا يبدو القول بالمقام والنسبية الخطابية رفضا للتطرف الذي عرفه الخطاب والممارسة في العصر الأمي في الاتجاهين: التكفير الخارجي ،والتخاذل الإرجائي.لقد بلور هذا الموقف في شعار :المنزلة بين المنزلتين الذي يمكن سحبه من الواقعة إلى القضية .

لقد انطلقت بلاغة الخطاب الاقناعي عنداليونان- كما ذكرنا في مناسبة سابقة - من النزاع حول الأرض، أما بلاغة الإقناع العربية فقد بدأت كمؤسسة ،كمدرسة للتعليم والنقاش حول المنهاجية -كما ترى-من الخلاف حول قضايا سياسية-دينية أو دينية سياسية. يرمز إليها من جهة بقضية الخلافة وتلخص من جهة أخرى في قضية العدل...

إن الإهتمام بالخطابة والإقناع -برغم ماقد يشوبه من انحرافات سفسطائية-هو مظهر من مظاهر الإحساس بقوة الكلام وجدواه .وذلك لايتم إلا في ظروف خاصة...

*  *  *

وقد فسر المحدثون العودة بقوة إلى نظرية الإقناع حسب المقامات والأحوال -التي يجمعها حاليا البحث التداولي -بهيمنة النسبية على الحياة الحديثة في الغرب ،التي تتجلى-ضمن ماتتجلى فيه-في الاحتكام إلى الرأي العام وسلوك أساليب الاستمالة كما هو الحال في الاشهار .

  وكانت القرقالسياسية والمذهبية في العصر الأموي ، بوجه خاص، قد تنبهت الى أن الخطابة سلاح ضروري لكسب المعارك ، قبل السيف وبعده  ، فأنتجت منها انتاجاجعل العصر يتقدم على جميع العصور ،وانتبه المعتزلة أكثر من غيرهم وقبل غيرهم لضرورة تنظيم هذا المجال .ولاشك أنهم سمعوا -من هذا السبيل أو ذاك -شيئا عن بلاغة أرسطو المقامية فبدأوا في تقديم مقترحات أشبه بالمناهج الدراسية للمدرسة الجديدة: مدرسة الخطابة. تلك المدرسة الشعبية التي كان بوسع المرء أن يمر بها فيقف مستفيدا أو متفرجا.

إن قوله :"ليكون رجلا من النظارة " تجعلنا نميل إلى قيام الفتيان المتعلمين بتمارين تطبيقية تستحق المشاهدة.

 

لقد سبق أن قلنا (في حديث لنا سابق عن الأسلوب الشعري في الخطابة العربية ،ضمن محاضرات نشرت تحت عنوان "في بلاغة الخطاب الإقناعي " ) :أن الخطابة العربية في العصر الأموي كوكب انفصل عن مجرة الشعر ، فحمل معه الكثير من المكونات الشعرية في بنائه الصوتي والدلالي. غير أن هذا الكوكب المنفصل عن مجرته سرعان ما جذبته مجرة أخرى كانت تتجمع في الأفق العربي الإسلامي من ذرات مجرات أخرى تلاشت في الزمن القديم، تبعا لجاذبية ومناخ الزمن الجديد، وهي مجرة المنطق. ففي إطارهذا التحول بدأت المناظرات تحل محل الخطاب الوحيد الجهة الذي انزوى في أماكن ومناسبات خاصة.

في هذا السياق الحضاري ظهرت الحاجة  إلى استقلال فن الخطابة بتقنيات خاصة، وكانت صحيفة بشر بن المعتمر أحد تجليات هذه الحاجة ، غير أن الثقافة الشعرية كانت ماتزال قوية بالقدر الذي يسمح لها باجهاض كل تطلع انفصالي. أضف  إلى ذلك أن .المعرفة-الإجتماعية والأخلاقية والنفسية والمنطقية-الضرورية لقيام فن خطابة بالمعنى الدقيق ما تزال في بدايتها (انظر حديث أرسطو عن هذه المعرفة في مقدمة فن الخطابة ).

لذلك نجد أن الجاحظ الذي أورد وجهة نظر بشر كبديل سرعان ما وقع في حرج ، وهذا موضوع الحديث القادم.

 

 

مراصد الخطاب

أسئلة المنهج في قراءة التراث البلاغي

المشاريع والمنجزات

***********

عبد القاهر.الجرجاني:

 من الغرابة الشعرية إلى المناسبة الخطابية(1/4).

 

تمهيد:

لا شك أن القارئ الحديث الذي يحاول أن يأخذ وجهة نظر منسجمة عن البلاغة العربية سيصاب بالدوار أمام الآراء المتضاربة التي صدرت في حق البلاغيين الكبار الذين ساهموا في عملية تشييد صرح البلاغة العربية مثل الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي وحازم القرطاجني ، بل وابن خلدون . فأنت تجد الرأي وضده ينسبان للبلاغي الواحد دون اهتمام بتفسير ذلك ، وترى الحكم يطلق وهو ، عند صاحبه مقيد أو معدل أو منسوخ أصلا . وهذا كله ناتج في نظرنا عن غياب القراءة النسقية المستندة إلى الأسئلة والخلفيات والإحراجات التي حكمت أعمال هؤلاء الأعلام . إننا نعلم اليوم مقدار النقد والإحرجات التي تعرض لها كبار منظري الشعرية الحديثة ، وكيف ساهم الحوار بشتى أنواعه في تعديل وجهات نظرهم ؛ نعرف كيف وسع ياكوبسوم دائرة الشعرية اللسانية (انظر مقدمة كتابنا تحليل الخطاب الشعري) ، ونعرف كيف انتقل هانس روبيرت ياوس من القول بالتلقي إلى القول بالأثر و التلقي معا (انظر مقالنا "الرواية والاختيار" ، منشور ضمن أعمال ندوة القراءة والتلقي . جامعة محمد الخامس بالرباط.) ونعلم كيف عدل ميكائيل ريفاتير أسلوبيته وطوره في حوار مع النقد إلى غير ذلك . ولكننا لا نجد ما يكفي من الوثائق والآثار لتصور مقدار الضغط والحرج الذي تعرض له عبد القاهر الجرجاني مثلا ليعدل نظريته في البلاغة أو يقلبها رأس على عقب بالانتقال من الأسرار إلى الدلائل غير ما نستشفه من معاناته داخل الكتابين ، أو ما نفهمه من مشروع نقيض لمشروعه لا يحيل أحدهما على الآخر هو مشرع بلاغة الأصوات عند ابن سنان . قد تسمح حالات خاصة بفهم حالة السابق بقراء اللاحق  كما لاحظنا (في الحلقة السابقة ) من قراءة ابن وهب للجاحظ ، ولكن هذه الإمكانية غير متوفرة على الدوام .

سنحاول في السلسة الحالية المتعلقة بأسئلة المنهج تقديم موجز قراءة نسقية لبعض المشاريع النظرية العربية القديمة الجديرة بالاعتبار، آملين مساعدةالقارئ الذي يحتاج إلى مساعدتنا في قراءة هذه الأعمال قراءة إشكالية ؛ أي باعتبارها مشاريع لامجرد تراكم معارف ، أو كشكول آراء.

 

الغرابة الشعرية

 

من المسلمات التي ثبتتها كتب تاريخ البلاغة ودروسها الجامعية التي تلقيناها دون أي نقد أو مناقشة أن عبد القاهر الجرجاني هو واضع علمي البيان والمعني الأول في كتابه أسرار البلاغة والثاني في دلائل الإعجاز والذي فعله السكاكي بعده هو التسمية أو تأييد المصطلح وتأطير النظرية. فيفهم ، تبعاً لذلك ، أن الكتابين يبنيان رؤية منسجمة في تحديد مفهوم البلاغة. وقد ينزلق بعض الباحثين المحدثين مع ذيوع مفهوم النظم عند عبد القاهر واحتفال الدراسات التداولية الحديثة به إلىتعميم المفهوم على الكتابين ،كما قرأت في مقال حديث في جريدة الرياض، والذي تنطق به بنية الكتابين غير ذلك تماما.

فالكتابان باعتبارهما محاولة للجواب عن سؤال الهوية البلاغية يصلان إلى حد التناقض. وأعني بذلك أن كتاب دلائل الإعجاز ينسخ كتاب أسرار البلاغة المشروع ويعيد استثمار مادته بعد تعطيل وظيفته كبنية ، أي كسؤال وجواب. ومن الصريح عند الجرجاني أن كتاب الأسرار يبحث في المعنى بعد إقصاء الألفاظ باعتبارها أجراسا (السجع أو التجنيس) (انظر كتابنا الموازنات الصوتية).

 والمقصود بالمعاني الشعرية في الأسرار أساساً التشبيهُ والاستعارةُ والتمثيلُ.  هذه أشياء صريحة في متن الكتاب. ثم يتم البحث ، بعد ذلك ، في درجات ترقِّي المعاني من الحسية والبساطة إلى العقلية والتركيب.

ويثار النقاش حول الوضوح والغموض والصدق والكذب ويضطرب الجرجاني بين الانتصار لِـ"العقل"  والوضوح وبين الانتصار للواقع الفني وطبيعة الشعر القائم على الغموض. وبعد أزمة عابرة نتيجة إحراجات النص الذي لا يحتمل الكذب ينطلق مع أمثلة التخييل عند الشعراء العباسيين الكبار في نشوة غامرة منوها بصور التخييل.

ماذا كان عبد القاهر يصنع في كتاب الأسرار كمشروع لقد كان يحاول بناء بلاغة تنسجم مع الرؤية الأشعرية حول طبيعة الكلام باعتباره معاني نفسية، وقد وجد ضالته في القراءة العربية  لفن الشعر لأرسطو من طرف الفارابي وابن سينا خاصة ، حيث تحولت المحاكاة من مجال التشخيص المسرحي إلى التشخيص اللساني عن طريق الاستعارة والتشبيه والتمثيل (وسنعود إلى هذا الموضوع مستقبلا).

غير أن نظرية المحاكاة إن أسعفت في إرجاع البلاغة إلى المعنى خدمة للمذهب ، فهي، بوقوفها عند صور بعينها ، لا تسعف في تفسير الإعجاز في جميع صور القرآن الكريم . ولا مجال  للحديث ، في تصور عبد القاهر الجرجاني ، عن عدة بلاغات ، لأن القرآن تحدى العرب في مجال تبريزهم .

حين انكشفت أسرار البلاغة للجرجاني متبلورة حول الغرابة " والجمع بين أعناق المتنافرات" توقف مشروع المعنى وبدأ البحث عن مبدأ آخر للبلاغة يكون في النص كله لا في أجزاء منه  كما هو الشأن بالنسبة للتشبيه والاستعارة والتمثيل ، ولم يكن ممكنا ذلك إلا في مستوى التركيب  أو النظم كما سماه . وهذا موضوع الحديث اللاحق.

انظر تفصيل هذه القضية في كتابنا: البلاغة العربية أصولها والمتداداتها.

 

***********************

************************

***********