إن العنوان أعلاه (إمبراطورية البلاغة) ليس
مما ابتدعناه قصد شد انتباه القارئ. بل هو عنوان كتاب ذي شهرة كبيرة (هو وصاحبه
بيرلمان) في مجال بلاغة الإقناع[i].
ويبدو هذا العنوان إذا نظرنا من زاوية أخرى،
مجرد ترجمة مجازية لما قصده عالم بلاغي عربي كبير هو حازم القرطاجني حين اعتبر
البلاغة علما كليا، قال: "ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا
يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة الذي
تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب التناسب والوضع، فيعرف حال ما خفيت به طرق
الاعتبارات، من ذلك، بحال ما وضحت فيه طرق الاعتبار". (منهاج البلغاء 226).
ينظر حازم هنا من
زاوية المكونات، ولذلك يقول في مكان آخر: "هذه الصناعة تتشعب وجوه النظر فيها
إلى ما لا يحصر كثرة. فقلما يتأتى تحصيلها بأسرها والعلم بجميع قوانينها لذلك.
وسائرها من العلوم ممكن أن يتحصل كله أو جله[...] إذ أكثر ما يستحسن ويستقبح في
علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع". (نفسه88).
قد نخوض يوما في
الاعتبارات التي أشار إليها حازم، وفي الثقافة المطلوبة ممن يتصدى للنظر البلاغي
في النصوص، أما الآن فلننظر من زاوية تاريخية، زاوية نشأة البلاغة العربية وامتدادها
في مجالات مختلفة، وهي نشأة تبين طبيعتها التوسعية التي تجعلها في نهاية المطاف
تصطبغ بشتى الألوان؛ تعطي وتأخذ.
تبدو البلاغة
العربية شبيهة بنبتة تكتسح كل الحقول، فحيث يوجد النص توجد، وحيث يعالج الخطاب
تقترح وصفة لعلاج عرض من أعراضه، وفتوى لنازلة من نوازله. وتبدو خارجة من فجاج
وشعاب بعيدةٍ عن فجاجها وشعابها. لنرصد ذلك تاريخيا.
قد يبدو غريبا أن
تخرج البلاغة أو عضو منها من النحو وهو نقيضها، لأنه يقنن المعيار فيما يبدو، ولكن
الذي وقع تاريخيا هو أن الظواهر البلاغية وقفت في وقت مبكر في وجه الصرامة العلمية
التي نعت بها القياس النحوي واطراد القواعد، فأوقفت ذلك القياس الصارم عند حدوده،
تحمل في يدها اليمنى القرآن الكريم وفي يدها اليسرى ديوان العرب.
لم تساير ما اطرد
لديهم من قواعد، فكان أن فتح سيبويه باب التوسع، وتحدث ابن جني بعده عن شجاعة
العربية..الخ وقبل النحاة مقاسمة المكان مع البلاغة. فكان من أوائل الأماكن التي
احتلتها سكنا موقتا: مجاز القرآن وضرورة الشعر. لقد ولد شيء ينزاح عن القياس
النحوي. وظهر في وقت مبكر أن هناك مجالا آخر للبحث على النحو أن يتسع له ويضيق عنه،
ولكل من الموقفين ثمنه. النحوي يريد الاستبداد باللغة، والبلاغة تصادم اللغة
بالإنسان فتحدث صدى وطنينا يسمعه بعض النحاة (مثل ابن جني) ولا يسمعه آخرون (مثل
ابن فارس)، فمنهم من يؤمن ومنهم من يكفر.. ولكن لا مفر، لقد حسم أبو عبيدة بكتابه مجاز
القرآن هذا الأمر وتبعه الفراء بمعاني القرآن، وتوالت التأليف بعد سيبويه في
الضرورة الشعرية.
البلاغة والمعرفة البيانية
اتجه البيانيون خاصة الجاحظ (وهو الذي يهمنا
هنا ـ ت 255) إلى بناء نظرية للمعرفة انطلاقا من اجتهادات أوائل الأصوليين، مثل
الشافعي، واعتمادا على أصداء المنطق الأرسطي. فنظروا في أصناف الدلالة من لفظ وغير
لفظ، هذا ما فعله الجاحظ على وجه التحديد في البيان والتبيين حيث جعل البيان في
الفهم والإفهام، ووسع أصناف الدلالة لتتسع للفظ وغير اللفظ (الإشارة والخط والعقد
والنصبة) في مشروع طموح جعل بعض الدارسين المحدثين يدخله ضمن السميائيين (انظر
ادريس بلمليح).
والواقع أن الجاحظ
لم يتجاوز الإعلان عن المشروع، إذ سرعان ما دبت البلاغة إليه تجر وراءها علم العرب
الذي لم يؤسسوا بعد ـ في عصره ـ علما أصح منه. وتقدم أمامهما ظاهرة العصر الأموي
التي لا يجاريه فيها عصر آخر أي الخطابة. وقد اعتبر أحد مؤرخي الأدب العربي العصر
الأموي بحق العصر الذهبي للخطابة العربية (انظر إحسان النص)، تتقدم الخطابة لأنها
مطلب العصر بالنسبة للمعتزلة (ومنهم الجاحظ) الذين شرعوا في بناء وسائل الإقناع
والحجاج ضد خصوم الإسلام وخصوم المذهب في الظاهر، وضد طغيان الاستبداد الذي وضع
وزره كله على كاهل الحجاج حسب منطق التاريخ.
تحت ضغط الخطبة نصا
ومطلبا يبدأ الجاحظ في التراجع عن مشروعه البياني من صفحة لصفحة عبر كتاب البيان
والتبيين فيقايض البيان بالبلاغة في أول الأمر، ثم يقايض البلاغة بالخطابة،
فيعطينا أول، وربما آخر، صياغة لخطابة إقناعية ابتداء من جهاز نطق الخطيب وعيونه
الفيزيولوجية النطقية انتهاء بالأحوال والمقامات الخطابية مع ما يتطلبه ذلك كله من
ثقافة ومعرفة بالإنسان واللغة.
لقد خنقت البلاغة
المشروع البياني عند الجاحظ، فلم يبق منه غير الخطة الأولى والطموح. وقد تنبه
البلاغيون، بعده، إلى ذلك فقال ابن وهب، الذي أعاد النظر في الموضوع بعد وفاة
الجاحظ بعدة عقود في كتابه البرهان في وجوه البيان: "أما بعد فإنك كنت ذكرت
لي وقوفك على كتاب الجاحظ الذي سماه
كتاب البيان والتبيين، وأنك وجدته إنما ذكر فيه أخبارا منتخلة وخطبا منتخبة، ولم
يأت فيه بوظائف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان. فكان عندما وقفت عليه
غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه"،. (البرهان 49).
لقد جر التيار
الجاحظ فاكتشف جزيرة غير التي قصدها في منطلق رحلته، وكانت هي الجزيرة المناسبة
لمسار التيار العربي، ولذلك لقي كتابه من العناية ما لم يلقه كتاب ابن وهب من
القديم إلى اليوم. ولم يهتم الناس كثيرا بالمفارقة بين المشروع والمنجز من كتابه
فتلك حكاية ألفوها.
حين شرع البلاغيون
في تفصيل القول في معجزة النبوة (القرآن الكريم) ذكروا البلاغة ضمن مجموعة الفضائل
والمعجزات التي تتحدى علم الإنسان وقدرته، غير أنا لا نتقدم إلا خطوات قليلة حتى
نجد البلاغة تهيمن على الموضوع وعلى اجتهادات الباحثين فيه. لقد كيفت ذاتها عبر
مسلسل طويل لكي تلائم الموضوع وتدخله ضمن ترابها. ويمكن ملاحظة هذا التحول
بالانتقال التدريجي من كلام المتكلمين إلى كلام البلاغيين المتكلمين، عبر جهود
الخطابي والرماني والباقلاني والقاضي عبد الجبار (في القرن الرابع). وصولا إلى عبد
القاهر الجرجاني الذي فصل بين الاعتبار البلاغي وغيره فخصص للاعتبارات غير
البلاغية رسالة صغيرة (الرسالة الشافية) في حين أفرغ جعبته وكفاءته العلمية
والسجالية في "دلائل الإعجاز" البلاغية فانتهى به المطاف إلى تأسيس أحد
ركائز البلاغة العربية أي "علم المعاني"، الذي استخرجه السكاكي من مفهوم
النظم عند الجرجاني.
البلاغة ونظرية
المحاكاة الأرسطية
لقد لاحظ حازم
القرطاجني هذا الغزو البلاغي الذي خاضته البلاغة مع الفارابي وابن سينا (إن لم يكن
اطلع أيضا على ابن رشد) فقال ما مؤداه:
"لو أن أرسطو
اطلع على الرصيد العربي من حكم وأمثال وشعر لزاد في كتابه قسما يستوعب ما عند
العرب من أدب".
ولم ينته المتكلمون
من مناقشة "مشكل القرآن" حتى كانوا قد أبدوا وأعادوا في المجاز وعلاقته
باللغة وبمصدر الخطاب، كما خاض الأصوليون في البحث عن أنواع الحقائق الشرعية
واللغوية والعرفية فأعطت البلاغة - وكانت قد تعلمت الكلام - في ذلك وأخذت. أخذت
تعميق الحديث في المجاز عامة ،ولكنها أخذت ضمنه الحرج في نسبة الفعل إلى غير فاعله
الحقيقي الشيء الذي أدى إلى ظهور مبحث لا يصمد للنقد: المجاز العقلي عند الجرجاني.
وقد عانى الجرجاني
من هذا المفهوم في آخر الأسرار.
إن البلاغة في
سعيها لابتلاع كل شيء تجده أمامها قد ابتلعت أشياء كثيرة عسيرة الهضم. وهذا ما وقع
لجميع الإمبراطوريات في التاريخ القديم والحديث.
كانت البلاغة، مع
كل ما تقدم، أو قبل كل ما تقدم ، تقترب من لغة الشعر، من النقد التطبيقي، ومن
الأحكام الجزئية التفصيلية، ومن الخصومات التي تصدر هذه الأحكام على طبيعة
المكونات الشعرية، وتلحظ الاختيارات الشعرية ومنطقها الخفي، وفي يوم من الأيام
تطلع بلوائحها في شكل كتب سميت بديعا ثم بديعيات. ابتداء من البديع لعبد الله بن
المعتز والبديع في نقد الشعر لأسامة بن منقذ، وتحرير التحجيم لابن أبي الأصبع
وخزانة الأدب لابن حجة. فتنتقل صور البديع من بضع عشرة إلى العشرات.
بل شدت إليها كتب
النقد الأدبي وألزمتها باقتسام المجال، فنجدها تحضر عند قدامة كشريك ثم تستولي على
الساحة النقدية عند حازم حيث يمكن القول بأن النقد قد صيغ صياغة بلاغية. إن حازم
يعتبر نفسه بلاغيا كما تقدم من حديثه عن البلاغة كعلم كلي، والناس يتحدثون عنه
كناقد، وهم غير مخطئين، فالقول بأن البلاغة هي التي عُجنت وصيغت صياغة نقدية أو
شغلت داخل خطة نقدية ظاهرة الوجاهة. إن بلاغة حازم لا تبعد عن النقد لأنها بلاغة
معضودة بالمنطق والحكمة، وفي ذلك يقول: "ينبغي لمن طمحت به همته إلى مرقاة
البلاغة المعضودة بالأصول المنطقية والحكمية ولم تسف به إلى حضيض صناعات اللسان
الجزئية المبني أكثر آرائها على شفا جرف هار ألا يعتقد في وزن من الأوزان أنه
مفتقر في وضعه ألا يفك من نظام آخر". (منهاج البلغاء 1/23).
إن هذا الشرط الذي
وضعه حازم ليبدو في عصره وما جاء بعده شرط تعجيز، ولذلك لا عجب أن يكون هذا الرواج
الاندماجي بين البلاغة والنقد في كتاب منهاج البلغاء آخر الغزوات البلاغية المظفرة
قبل أن تجرد البلاغة من أسلحتها وتوضعَ في الأسر وهذا موضوع الحديث اللاحق:
البلاغة المأسورة.