ِمراصد الخطاب

نشر بجريدة الرياض بتاريخ 16/5/1996

 

 

البلاغة وأسئلة التاريخ

 

"البيان"

 بين المشروع والمنجز

 

أشرنا في آخر الحلقة الماضية إلى أن سؤال المقام ـ وهو يؤرخ لظهور حاجة ثقافية/ خطابية واجتماعية، حاجة إلى بلاغة للخطاب الإقناعي ـ صادف في طريقه عدة عوائق، وخلق أزمة داخل كتاب البيان والتبيين نفسه، وكان رائدا في طرح السؤال. سنحاول الآن رصد بعض مظاهر هذه الأزمة داخل هذا الكتاب الذي نجده كتابا إشكاليا مخالفين أغلب القراءات التي اعتبرته كتابا تراكميا، أي  كتاب أخبار ونصوص، وذلك نتيجة عدم التفريق بين المشروع والمنجز من عمل الجاحظ.

البيان والمقام

قد لا يكون من السهل الحسم في أمر السابق واللاحق داخل ذهن الجاحظ: هل فكر أولا في المقام ثم حاول تأطيره بمفهوم البيان، أم إن البيان العام هو المنطلق لتفكيره ثم انحسر وضاق حتى لم يبق منه إلا البيان باللغة، فاحتكم فيه إلى المقام.

غاية البيان، عند الجاحظ، الافهامُ من أي طريق كان، وبأية وسيلة. والوسيلة إما علامية (نصية وغير نصية)، وإما مقامية (تداولية). ومن هنا يلتقي البيان بالمقام لقاء السميائيات بالتداولية، لقاء عام بخاص. لذاك فإن المقام بهذه الصفة لا يضمن حضور البيان بكل مكوناته، بل سيحل الخاص محل العام، بل سيجره ليحاصره في زاوية ضيقة، هي زاوية الخطابة بمعناها الضيق.

أما ما تقدمه بلاغة الخطاب الإقناعي من إمكانات إشارية مصاحبة للألفاظ ومساعدة لها (حال الالقاء والإنشاء) فلا يمكن بحال من الأحوال أن يعوض البيان ما فقده جراء التحول من مفهومه العام، أي الفهم والإفهام بكل أصناف الدلالة من لفظ وغير لفظ (الإشارة والنصبة والخط والعقد) إلى الإفهام باللفظ فحسب تبعاً للمقامات والأحوال.

لم يكد المقام، الذي حل محل البيان: يستقر في مقعد القيادة حتى اصطدم بالهُجنة اللغوية، وبمفهوم عام للفصاحة لا يفرق بين الأجناس. فثارت حوله الشبهات وبدأت عملية التراجع عن المقام لصالح الفصاحة. لقد تبين للجاحظ في الحين أن لقمة المقام لم تكن سائغة، كانت باردة من الخارج فحسب، فنفث أكثرها.

هذا ما يفسر تراجعه عن الإطلاق الذي قدم به شواهد تحكُّم الغرض في الوسيلة. من ذلك تقييده لكلام العتابي الذي أورده مطلقاً في قمة نشوة الحديث عن المقام، قال: "والعتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجتك فهو بليغ، لم يعن أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين قصده ومعناه، بالكلام الملحون، والمعدول عن جهته، والمصروف عن حقه، أنه محكوم له بالبلاغة كيف كان، بعد أن نكون قد فهمنا عنه.  ونحن قد فهمنا معنى كلام النبطي الذي قيل له: لم اشتريت هذه الأتان؟ قال: أركبها، وتَلدَ لي. وقد علمنا أن معناه كان صحيحاً.." (1/161). ويورد أمثلة أخرى طريقة يُرجع إليها في البيان والتبيين).

يمكن للقارئ أن يلاحظ كيف تقلص المشروع البياني بشكل عملي ملموس، وذلك بتتبع تعريف الجاحظ للبيان، إذ سرعان ما يقايض البيان بالبلاغة ثم يقايض البلاغة بالخطابة دون إعلان، أو بيان علاقة هذا بذاك.

إن ما يشوب كتاب البيان والتبيين من تردد بين الإطلاق والتقييد والتعارض بين المشروع والمفكر فيه والمنجز الملموس يرجع إلى تعايش مفهومين كبيرين يقتضي ضبط الحديث في الموضوع التمييز بينهما:

1( مفهوم البيان باعتباره بحثاً في المعرفة والتواصل عامة: كيف نعْرف؟ وكيف نوصل ونؤثر؟.

ولاشك أن هذا المفهوم الذي عبر عنه الجاحظ في الحيوان، من خلال النص المشهور نفسه الذي اعتمده في البيان والتبيين يشكل روح أعماله كلها باعتبارها اجتهادا في مجال تداول المعرفة بشكل أساسي.

ويبدو مفهوم الجاحظ لصياغة نظرية معرفية سابقا لأوانه بالنظر إلى التراكم الثقافي المتاح في عصره. فما هو متاح لا يعدو:

(1/1)الاجتهادات الأولى للأصوليين: إذا نجد مفهوم البيان "يقفز"، كما يقول محمد عابد الجابري في بنية العقل العربي (ط المركز الثقافي 30)، من المستوى اللغوي إلى المستوى الاصطلاحي في تعريف الإمام الشافعي له في كنابه الرسالة، حيث يقول: "البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع. فأقل ما في ذلك من المعاني المجتمعة المتشعبة إنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه متقاربة الاستواء عنده..".

من الأكيد أن الجاحظ قد تأثر بهذا المفهوم الذي يجعل النص القرآني دليلا على معان يحاول الأصوليُّ  وضع أصول (أي قوانين) لاستكشافها، كما هو متأثر بالمفهوم الكلامي الذي يجعل الكون دليل على وجود الله وقدرته.

(1/2) أصداء الثقافة اليونانية، إذ يبدو أن الأفكار العامة لمنطق أرسطو وفلسفته كانت معروفة إلى حد ما في عصر الجاحظ، ولكنها كانت غامضة بالقدر الذي يسمح بالتفكير بموازاتها، أو بعيدا عنها. باستثناء فن الخطابة الذي يظهر أنه فهم فهما جيدا في جانب تأسيسه لبلاغة الإقناع على المقامات والأحوال. غير أن نقل المفهوم مفصولا عن النسق العام الذي يقتضي تمييز الخصوصية الشعرية جدير بأن يؤدي إلى الخلط، وقد بدل الفلاسفة فيما بعد جهدا لتدارك هذا الجانب. فظهرت آثار أعمالهم في تصور متأخر، مثل حازم القرطاجني وابن خلدون.

2 ـ مفهوم البيان باعتباره فصاحة لغوية نصية وأدائية، بل نصية/ أدائية. الأمران وثيقا الارتباط عنده، إذ فصاحة النص تظهر عند أدائه. ومن المعلوم أن الجاحظ تحدث عن العيوب النطقية، كما تحدث عن انسجام الكلام وتوازنه ليصير خفيفا على اللسان، يجري عليه كما يجري الدهان. وهذا المنحى هو الذي يجعل الجاحظ منظرا، بل أول منظر للخطاب الإقناعي الشفوي.

كان البيان، كما قدمنا، مشروعا وطموحاً، في حين كانت الفصاحة تمثل القدر المتاح، أي ما توفره الساحة الثقافية العربية  في ذلك الوقت.

لقد قرأ كتاب البيان والتبيين، رفضا وقبولا، من الزاويتين اللتين تطرقنا إليهما: رفض البيان وقبلت الفصاحة:

أ ـ قُرئ  الجاحظ بالمخالفة والتخطيء من طرف البيانيين صراحة وضمنا؛ من القراءة الضمنية السكوت عن المشروع وتعويضه فيما بعد، دون احتجاج من أحدُ بمفهوم ضيق، هو  علم البيان، عند السكاكي. أما القراءة بالمخالفة الصريحة فنجد أحسن مثال لها عند ابن وهب. يرى ابن وهب أن ما قدمه الجاحظ عن البيان لا يستجيب للمتوقع من عنوان الكتاب. يقول مفترضا سؤالا ـ هو في الواقع سؤال عصر الكتابة، وتراكم المؤلفات المنطقية والفلسفية:

"أما بعد، فإنك كنت ذكرت لي وقوفك على كتاب الجاحظ الذي سماه كتاب البيان والتبيين، وأنك وجدته إنما ذكر فيه أخبارا منتخلة، وخطبا منتخبة، ولم يأت فيه بوظائف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، فكان عندما وقفت عليه غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه". (البرهان في وجوه البيان49).

لا يحتاج القارئ إلى نباهة كبيرة، أو تيقظ خاص، لكي يلاحظ الفرق بين استراتيجية الكتابين، فذلك بارز في مقدمتيهما.  ففي الوقت الذي قدم الجاحظ كتابه بالحديث عن "اللسان"، أي عن القدرة التعبيرية وما ينتابها  من عوائق وعيوب تؤدي إلى العي، نجد ابن وهب يخصص أكثر مقدمة بيانه وجوهرها للحديث عن "العقل"، منوها به، مبينا الغريزي منه  والمكتسب. وقد أدى هذا الاختلاف في زاوية النظر إلى إدخال ابن وهب تعديلا عن الخطاطة البيانية التي قدمها الجاحظ لتتلاءم مع المحتوى الذي رصده لها. فبينما يعيد الجاحظ  جميع أصناف الدلالة على المعاني من لفظ وغير لفظ إلى خمسة أشياء: اللفظ والإشارة والنصبة والعقد والخط، ثم يكتفي ، عند التحليل، بالحديث عن البيان باللفظ والإشارة، أي ما يحتاج إليه الخطيب، يرجع ابن وهب البيان إلى أربعة أسس متعاونة متكاملة في إنتاج المعنى  وتداوله، هي: الاعتبار (ويقابل النصبة عند الجاحظ)، والاعتقاد( ويعني به التصور، أو حال المعرفة داخل النفس، ولا نرى له مقابلا عند الجاحظ)، العبارة ( وتقابل البيان باللفظ عند الجاحظ)، الكتاب (ويقابل الخط عند الجاحظ). ونص كلامه: "البيان على أربعة أوجه: فمنه بيان الأشياء بذواتها وإن لم تبن بلغاتها، ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إعمال القلب واللب، ومنه البيان باللسان، ومنه البيان بالكتاب الذي يبلغ من بَعُد وغاب ". (البرهان ص 56).

من البين أن الغائب الأساسي في خطابة ابن وهب هو الإشارة (والعقد نوع من الإشارة: العد بأوضاع خاصة لأصابع اليدين). وهذا أمر طبيعي لأنها مرتبطة عند الجاحظ بالتخاطب الشفوي، فهي عنصر مساعد للغة منا قال والجديد هو الاعتقاد أو التصور أي معالجة المعرفة عقليا، في حين أنها معالجة عند الجاحظ لسانيا.

وقد التزم ابن وهب بهذه الخطاطة فخصص لكل ركن من الأركان المذكورة بابا من الكتب، مع تفاوت في العناية بهذا الباب أو ذاك. وليس من أهدافنا تقويم محتوى كتاب البرهان، خاصة من وجهة انسجام مادته أو عدم انسجامها. (انظر مزيد بيان في كتابنا: الموازنات الصوتية).  لقد فهم كتاب البرهان فيما بعد على أنه كتاب في االمنطق، هذا ما ينطق به كتاب: التقريب لحد المنطق، لابن حزم. لقد قدم ابن حزم لقراءته المقربة لمنطق أرسطو بمقدمة تعيد مفهوم البيان عند ابن وهب، جاء فيها: "إن جميع الأشياء التي أحدثها الأول .. مراتبها في الوجود والبيان أربعة، إن نقص منها جزء واحد اختل البيان بمقدار ذلك النقص..". (التقريب لحد المنطق 4). ثم أعاد العناصر الأربعة التي اعتمدها ابن وهب بعينها.

2 - قراءة بالموافقة والتبني انصرفت إلى المنجز، ولم تهتم بالمشروع أو الخطاطة الأولية التي بني عليها كتاب البيان والتبيين، اهتمت هذه الخطاطة بما يهم الخطابة على وجه التحديد، أي بجانب المقام، وجانب الأداء، وذلك تحت عناوين أخرى عبر عنوان البيان. نجد امتداد الحديث عن المقام الخطابي بحضور قوي للجاحظ، عند العسكري  في كتاب الصناعتين، ونجد امتداد الحديث عن الأداء الشفوي عند ابن سنان الخفاجي، في كتابه سر الفصاحة. ومن هذا الكتاب استخرج مؤلفو البلاغة المدرسية في بداية عصر النهضة ما سموه "علم الفصاحة" مستقلا عن علم أو علوم البلاغة، وهذه مفارقة!

يبدو مما تقدم أن الجانب الذي لقي القبول من عمل الجاحظ وطور في المجال البلاغي هو جانب المنجز الذي سمحت به الظروف، في حين اعتبر المشروع  فارغا بدون محتوى.

وتبدو قضية المشروع والمنجز من القضايا الأساسية التي ينبغي الحذر منها عند دراسة التراث العربي، فقد كان الطموح والدافع المذهبي يؤديان أحيانا إلى وجود اختلاف كبير بين الوعود النظرية والبناء المنجز.