28/3/1996
مراصد الخطاب
البلاغة وأسئلة التاريخ
3 ـ من سؤال المجاز إلى
سؤال الإعجاز
كان هاجس الجواز والإمكان غالبا على عمل اللغويين
والمتكلمين من منتصف القرن الثاني إلى نهاية القرن الثالث الهجري: جواز خروج
العبارة عن المعايير. كان النص يسترجع سلطته باعتباره خلقا وإبداعا أمام القواعد
الطارئة التي تحدوها نشوة عارمة إلى اختزال اللغة والفكر. إن لفظ المجاز نفسه
ينطوي على مفهوم الجواز.
وفي القرن الرابع الهجري يتقدم سؤال آخر للواجهة.
إنه سؤال المزية البلاغية، أو سؤال الإعجاز . لم يعد الجواز كافيا، أو لم يعد قضية
آنية، سواء استند إلى النصوص العربية القديمة (النص الشعري الجاهلي)، أو استند إلى
الحجة العقلية الكلامية، لقد أصبحت الجوازات والإشكالات القديمة موضوعة للتفتيش عن
المزية التي تجعل النصK ليس ممكنا وحسبK
بل بليغا معجزاً متحديا للكفاءة البشرية، وحجة للنبوة لا مصدر
تشكيك فيها كما رأينا في ردود ابن قتيبة على المتشككين.
أحس بلاغيو الإعجاز في القرن الرابع أن أسلافهم
من اللغويين والمتكلمين أضاعوا الطريق، وانطلت عليهم الحيلة فاستدرجوا إلى خارج
الميدان لخوض معارك وهمية غير مجدية؛ لا يستشف ذلك من فحوى خطابهم ومضمونه فحسب،
بل تجده صريحا في نص كلامهم، يقول الباقلاني:
"وقد كان يجوز أن يقع ممن عمِل الكتب النافعة في معاني القرآن
وتكلم في قواعده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صنعة الكلام أن يستنبطوا القول
في الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه. فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من
القول في الجزء والطفرة ودقيق الكلام في الأعراب وكثير من بديع الإعراب وغامض
النحو. فالحاجة إلى هذا أمس، والاشتغال به أوجب". (إعجاز القرآن6).
من الأكيد أن تصور الباقلاني للمسألة من هذه
الزاوية هو نتاج إيفاء الأسئلة اللغوية حقها لدرجة التشبع، كما أن هذا الموقف يستند
إلى تراكم من المادة البديعية، عبر عمل ابن المعتز والعسكري وقدامة بن جعفر، تراكم
لم يكن متاحا في عصر اللغويين والمتكلمين الأوائل الذين انتقدهم الباقلاني.
لذلك ينبغي أن ينظر إلى نقد الباقلاني لمن سبقه
باعتباره جوابا عن سؤال جديد. سؤال نابع من بيئة جديدة تتميز باستقرار الإسلام.
وتحول الصراع من الخارج إلى الداخل. إن سؤال الإعجاز، بخلاف سؤال المجاز والمشكل،
سؤال داخلي بقطع النظر عن دعوى "التجريح" التي قد تصدر من هذا الطرف أو
ذاك: الاتهام بالزيغ، فتلك في الغالب دعوى سجالية.
إن الدعوة إلى التوجه إلى بيان وجه الإعجاز هي
نتيجة التسليم به بعد نقاش طويل في القرنين الثاني والثالث الهجريين دون الاتفاق
حول رأي معين كما جاء عن أبي سليمان الخطابي في رسالة له في الإعجاز، قال:
"وقد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديما
وحديثا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول. وما وجدناهم، بعد، صدروا عن رأي وذلك لتعذر
معرفة الإعجاز في القرآن" (ضمن ثلاثة رسائل في إعجاز القرآن 21).
وقال القاضي عبد الجبار وهو من أكابر علماء المعتزلة:
"اختلف علماء المسلمين في الوجه الذي صار به القرآن معجزا بعد اتفاقهم على أنه كذلك".
(المغني 16/316).
وتكاد أوجه الاختلاف تتبلور
حول ثلاثة مناح رئيسية:
1 ـ القول بالصرفة، وهو
قول ظل محصوراً في حلقة ضيقة غير ذات تأثير في المجال البلاغي إذا استثنينا عمل
ابن سنان الخفاجي الذي سنعود لتوضيح مساهمته المتميزة في حلقة مقبلة[1].
2 ـ "الأخبار الصادقة
عن الأمور المستقبل". وهذا أمر مسلم ولكنه لا يمثل في نظر بعض علماء الإعجاز
خصوصية يتميز بها القرآن عن الكتب السماوية كما سيأتي بعده. ومن هنا توجهت الأنظار
إلى الوجه الثالث.
3 ـ بلاغة النظم القرآني.
هذا هو الوجه الذي اعتمده أكابر علماء الإعجاز في القرن الرابع الهجري، أولئك
الذين وصلتنا مؤلفات لهم مخصصة لهذا الموضوع: الرماني والخطابي والباقلاني، وكذا
القاضي عبد الجبار الذي خصص الجزء السادس عشر من كتابه المغني لهذا الغرض.
يقول الباقلاني:"فبان
بهذا وبنظائره ما قلنا من أن بناء نبوته (ص) على دلالة القرآن ومعجزته. وصار له من
الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى. وفارق حكمه
حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد
عليها، ووصف منضاف إليها. لأن نظمها ليس معجزا، وإن كان ما تتضمنه من الأخبار عن
الغيب معجزاً". (إعجاز القرآن 19/20).
وبهذا صار القرآن حجة على
النبوة من بنيته ونصه. فكلام الباقلاني يؤرخ لنهاية نقاش وبداية نقاش من طبيعة مختلفة. أو هو، على الأقل، فصل
منهجي بين النقاش الكلامي العام الذي يشغل الوسائل المختلفة التاريخية واللغوية
والعقائدية وغيرها، والنقاش البلاغي الذي يتناول النظم القرآني المجسد في النص
المحفوظ في المصحف. وهذا لا يعني طبعا أن السؤال الكلامي قد ترك للبلاغة الحبل على
الغارب. بل لقد ظل الاختلاف بين المعتزلة وأهل السنة بقيادة الأشاعرة حول طبيعة كلام
الله مؤثرا في توجيه البحث البلاغي. كان الخلاف كامنا خلال القرن الرابع، إذ لم
يكن لأهل السنة بعد تصور واضح لخلفيات المسألة وعواقبها. أما في القرن الخامس
فسيكشف عبد القاهر الجرجاني وابن سنان الأوراق فيبني أولهما على اعتبار الكلام
حديثا نفسيا في حين يبني الثاني على اعتباره أصواتا مقطعة. ولذلك نجد شظايا من
النقد الذي وجهه الجرجاني إلى خصومه المذهبيين الباحثين عن البلاغة في الألفاظ
("باعتبارها مفردات وأصواتا مسموعة) يصيب أول ما يصيب كبير بلاغيي الإعجاز من
أهل السنة في القرن الرابع أي الباقلاني، خاصة في احتفاله ببلاغة المفرد. ويبدو أن
موقف أهل السنة خلال القرن الرابع من هذه المسألة ـ التي حسمها الجرجاني فيما بعد بكفاءة
نظرية لا تضاهى ـ لم يصل إلى حد الإجماع، فنحن نجد الباقلاني يتخذ موقفا لا يختلف
في تطبيقه ونتائجه عن موقف المعتزلة، موقفا ينسبه على حد تعبيره إلى الشيوخ ويخالف
فيه بعض الأصحاب، ويقترب به من مذهب أكثر الناس ، قال:
"الذي تحداهم به أن
يأتوا بمثل الحروف التي هي القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها مطردة كاطرادها،
ولم يتحداهم إلى أن يأتوا بمثل القرآن القديم الذي لا مثل له.. وقد جوز بعض
أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه. والذي عول عليه مشايخنا ما
قدمنا ذكره. وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس". (إعجاز القرآن 394).
لقد حدد السؤال: ما هي
الخصائص الخطابية التي تجعل القرآن متفوقا على الكلام البشري؟
لمعالجة هذا السؤال أخذ
عمل بلاغيي الإعجاز منحيين:
أولا تفسير الفعالية تفسيرا
بلاغيا: تركيبا ودلالة. وهذا موضوع جدير ببحث خاص، ولذلك نكتفي في هذا السياق
بمثال أو مثالين لغرض بيان الخطوة التي خطاها علماء الإعجاز في التعامل مع النص:
الانتقال من التأنيس إلى التفسير.
لقد تعرض علماء اللغة،
إلى وجود الحذف في القرآن وجوزوا ذلك وأنَّسوه بكلام العرب. أما الإعجازيون فقد اجتهدوا
في بيان مزيته البلاغية على نحو ما نجده عند الرماني في تفسير الحذف فًي قوله
تعالى. "ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، بل
لله الأمر جميعا". فقد حذف هنا جواب "لو"، وتقديره عنده.
"...لكان هذا القرآن". وبعد التأويل شرع في تفسير فعالية الحذف بصفة
عامة.
"وإنما صار الحذف
في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب. ولو ذكر الوجه لقصر على الوجه
الذي تضمنه البيان. فحذف الجواب في قوله: "لو رأيت عليا بين الصفين "أبلغ
من الذكر لما بيناه" (النكت. ضمن ثلاث رسائل من القرآن 77).
لقد ظل هذا التفسير ينمو
ويتقوى عبر تاريخ البلاغة القديمة حتى صار من مسلمات البلاغة الحديثة تحت عنوان
عام: انفتاح النص.
إن عملية تفسير آليات اشتغال
الصور البلاغية تعتبر الخطوة الثانية في تاريخ البلاغة بعد عملية الاستكشاف و وضع
الأسماء. والخطوة الموالية لها هي البحث في تفسير اشتغال البلاغة ككل، وهي العملية
التي خاض فيها البلاغيون بشكل صريح في القرن الخامس الهجري بعد محاولات متعثرة في
القرن الرابع.
2 – انتقاء الصور البلاغية
التي يحتمل أن تكون عنصر إعجاز، والصور التي لا يحتمل أن تكون كذلك، وقد أدى هذا
العمل إلى اختزال البلاغة العربية، على يد الباقلاني والجرجاني، وتعميق البحث في
الجانب الدلالي منها والنظمي على حساب جوانب أخرى أهمها الجانب الصوتي. فكان لذلك
اثر حاسم في توجيه البلاغة العربية وتحييد مفهومها إلى اليوم.
[1] ـ خصصنا لهذا البلاغ
فصلا كاملا من كتابنا البلاغة العربية أصولها وامتداداتها باعتباره أحسن من صاغ
الاتجاه المحافظ الكلاسيكي في البلاغة العربية