نشر بجرسدة الرياض يتاريخ 17/11/95

 

مراصد الخطاب

إمبراطورية البلاغة

 

2 ـ البلاغة المأسورة

 

لم يقيض للبلاغة النقدية التي قدم حازم نموذجا لها الامتداد والتعديل، ويبدو أن ذلك راجع إلى كونها "معضودة" بالمنطق والحكمة كما قال المؤلف، وكان عصر المنطق والحكمة قد ولّى.

البلاغة التي سيكتب لها الرواج والاستمرار إلى يومنا هذا هي بلاغة مأسورة لدى النحو والمنطق، يا للمفارقة !

تأمل الموقع الذي وضع السكاكي البلاغة فيه ، حسب نص كلامه الذي يحدد خطة كتاب المفتاح وهدفُه. يقول:

"وقد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللغة، ما رأيت لابد منه، وهي عدة أنواع متآخذة، فأودعتُه علمَ الصرف بتمامه، وتمامُه بعلم المعاني والبيان.. ولما كان تمام علم المعاني بعلمي الحدِّ والاستدلال لم أرَ بُدا من التمسُّح بهما.." (مفتاح العلوم، 6 تح. زرزور).

لقد أصبحت البلاغة.. بتوجيهها إلى النظم، مع عبد القاهر الجرجاني، مبحثاً مكملاً لمباحث النحو.. تهتم بالمقامات وما يناسبها من عبارات، (تحرزاً من الخطأ في مطابقة الكلام لمقتضى الحال).

هل نقول مع ابن خلدون.. (وقد لاحظ ما آل إليه حال الشعر في عصره من "هجنة.. وذلة" بعد عز ورفعة).. هل نقول معه: "والله يقلب الليل والنهار".. أم نقول: لا ذنب للسكاكي فهو إنما عالج   الجانب الذي يهمه، وهو البلاغة المكملة للنحو، أي البعد التداولي الذي يتناول العلاقة بين الإنسان واللغة، ويهتم بنجاعة الخطاب وأبعاده الإقناعية؟

لماذا لم يناقش أحد من القدماء مفهوم السكاكي للبلاغة؟ فلو طُرح هذا الاختبار في القرن الرابع الهجري مثلا لأثار زوبعة لا تقل عن تلك التي أثيرت حول اللفظ والمعنى أو عن الخصومات حول مذاهب الشعراء.

من سوء الحظ أن النحو الذي اعتقلت البلاغة عنده كان، هو الآخر وقتئذ، مجرد مستبد بئيس كممدوح المتنبي:

جوعان يأكل من زادي ويمسكني

 كان أحسن مأكل وجده النحو للبلاغة في محبسها قطعاً من شعير منطقي جاف قد انقطعت الصلة بينه وبين الحياة منذ قرون.

لو عاد ابنُ جني إلى الحياة في عصر السكاكي (وابن جني كما تعلم هو صديق المتنبي وشارحه وموسع مجال المجاز والضرورة).. لأدخل أغلب النحاة إلى الكُتَّاب لحفظ شيء من شعر المتنبي، لألزمهم بلزوميات أبي العلاء، ولربما غضب، وغضَّ عن العواقب، فألحق المفتاح بكتاب الفصوص.

الذي تلقف المفتاح هو قاضي القضاة أبو المعالي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الشافعي (ت 739) من نحوي إلى فقيه، يداً بيد وكان القزويني عالماً سمحاً تولى رئاسة الأوقاف فوسَّع على الفقراء وذوي الحاجات بقدر ما ضيَّق على البلاغة.. إذ أخرج القسم المخصص للبلاغة من كتاب المفتاح في "تلخيص"غطى على كتاب المفتاح وصرف الناس عنه.. يقول حامد عوني في كتابه المنهاج الواضح (الذي انتهى معه سنة 1366هـ -1947م).

"وقد بلغ هذا الكتاب من الشهرة ما لم يبلغه غيره من كتب هذا الفن.. إذ عني به أرباب الشروح والحواشي، فانكبوا عليه، وكشفوا غوامضه.. وأبانوا معالمه.. ومن ثم حرص أبناء الأزهر على مدارسته.. وتفهم عباراته وما كتب عليه إلى يومنا هذا" (ص12).

انظر كيف طوى هذا التلخيص الزمن العربي من نهاية القرن السابع وبداية الثامن إلى منتصف القرن العشرين، بل إلى يومنا هذا.. لم ينغِّص أحدُ فتوحاته ولا أقض مضجعه.

ومن الإنصاف أن نقول إن القزويني قد أحسَّّّّ من تلقاء نفسه أنه ضيق الخناق على البلاغة حين حشرها في "تلخيص"، فكتب كتابا آخر تحت عنوان "الإيضاح"، جعله، كما قال في فاتحته، كالشرح للأول، بل عدا فيه "التلخيص" أحيانا إلى "المفتاح"، بل عدا المفتاح إلى الدلائل والأسرار. (الإيضاح1/70 ط111).

قال حامد عوني: "وقد بلغ من اعتراف العلماء بهذين الكتابين وجليل نفعهما أن عدوهما آخر ما وصل إليه الإتقان والإبداع في هذه الفنون فلم يحدثوا أنفسهم بالزيادة على ذلك أو التبديل فيه أو الخروج عليه، و وقفت همتهم عند ما انتهى إليه هذا الإمام الجليل". (المنهاج الواضح 139).

وقد كثرت الشروح والحواشي والتقارير حول الكتابين خاصة الأولومن أشهر من شرحوا التلخيص سعد الدين التافتازاني في شرحين: "المطول و"المختصر" هذه هي النهاية التي آل إليها ذلك "العلم  الكلي"وهذا هو المصير الذي صارت إليه إمبراطورية البلاغة العربية بعد أن كانت في وقت من الأوقات تكتسح كل المجالات لا تكاد الشمس تغرب عن حدودها.

لقد أصبحت في ضيافة النحو ، ثم صارت هي والنحو ومدخل إلى المنطق بئيس ضيوفا على العلوم الشرعية في المدارس والمعاهد الدينية لعدة قرون، حيث تحضر الألفية وشرحها، ومطول السعد ومختصره، والسلم للأخضري إلى جانب كتب الفقه والفرائض والحديث تحضر باعتبارها علوما مساعدة على فهم كتاب الله وسنة رسوله (ص)، واستنباط الأحكام الشرعيةوكانت تؤخذ أخذ الملح للطعام فرارا من مظنة الاشتغال بما لا طائل وراءهوكثيرا ما غمزت البلاغة بماضيها "السيء"، وعلاقاتها المشبوهة يومَ كانت متحالفة مع الشعر، وكان الشعر متحالفا مع العروض، والعروض متحالف مع الموسيقى، والموسيقى مثيرة للشهوات، مهيئة للفسق!وهكذا بما يذكر بخلاف الذئب والخروف حول من عكر الماء (؟)

ومع ذلك فلم يكن لها من خيار لحفظ وجودها غير هذه الزاوية مهما ضاقت، لقد تعودت نظرات أهل الدار إليها  كخادمة مريبة آبقة.

كانت بعض المدارس تزيد من تضييق الخناق فتقرر منحى شارح واحد كما كان عليه الحال في المعاهد الدينية المصرية حسب ما جاء في مقدمة حامد عوني . فقد ألف كتابه "لطلاب السنة الثانية الثانوية للمعاهد الدينية "وفق منهجهم الدراسي "حسب ما قرر عليهم من مباحث السعد"، أي سعد الدين التافتازاني. (ص2).

لقد حفظت البلاغة السكاكية رمقها لعدة قرون كما قيل في المعاهد الدينية في حين ظل البديع متسكعا في الشروح والمنظومات ومن هذه المعاهد خرجت البلاغة في عصر "النهضة"  إلى المدارس الحديثة العالية  والثانوية. وسلكت هذه المدارس، كما يقول المراغي، طريقا مخالفا لما يقدم في "معاهد العرفان"، فألف المدرسون بها مختصرات أو رسائل تناسب تلك المدارس "والحق (كما يقول المراغي) أن تلك الرسائل وإن اختلف ترتيبها وتنوع تبويبها تنحو، على الجملة، في أسلوبها منحى ما كتبه صاحب التلخيص وشراحه، وتسير على خطتهم، وتحذو حذوهم". (علوم البلاغة.13).

  وبناء على هذه الرسائل والملخصات ألفت الكتب الأولى التي اكتسحت العالم العربي من الأربعينات إلى اليوم، مثل: البلاغة الواضحة، وعلوم البلاغة، وكان الهدف تقديم بلاغة المتقدمين بطريقة المتأخرين، كما يقول المراغي: "ورأينا أن نضع كتاباً يجمع بين طريقتي المتقدمين من سعة الشرح والبيان والاعتماد على الأمثلة والشواهد.. وطريق المتأخرين من صف الترتيب والتبويب وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون" (ص14).

انتهى المراغي من كتابه سنة 1334هـ أي منذ حوالي قرن من الزمن (82 سنة).. فإذا اعتبرنا ما هو معلوم من تسارع وتيرة التغير والكشف العلمي في هذا القرن بما يوازي عشرات القرون، أمكن القول إن كتاب المراغي باعتباره  قراءة خاصة، قراءة بحسب "طريقة المتأخرين" لزمنه ـ قد أصبح بعيداً عنا، وبعيداً جدا، إلا أن يكون تأهيلنا وأسئلتنا بعد هذا الزمن الطويل ما يزالان ينتميان إلى تأهيل "المتأخرين" وأسئلتهم

ما زالت البلاغة تدرس في مدارسنا الثانوية وفي جامعاتنا بنفس الطريقة وتعتمد نفس الكتب.. بلاغة القزويني والتافتازاني يتقدمها علم المعاني ويتأخر البديع يلتقط ما سقط من سقط المعاني والبيان في غير نظام.. وما تزال الكتب التي ألفت في بداية القرن لتصدر لوائح المراجع.. بل الأدهى من ذلك أن الكتب التي ظهرت بعدها بعقود تسير على نفس الخطة مع عمق ودقة أقل بكثير، إذ تميل إلى التبسيط المخل وإطلاق الأحكام الذوقية حول الوظائف بدون ضابط.

بل خلف من بعدهم خلف مال إلى الاحتيال بوضع عناوين مضللة كما هو الحال في كتب الدكتور بكري شيخ أمين الذي أصدر دروسه في علوم البلاغة تحت عنوان عام: البلاغة في ثوبها الجديد ( 1979). وقد يكون البصر كليلا فيشتري المرء ثوبا خلقاً يظنه جديدا. وما زلت أذكر إحساس الخيبة الذي أحسست به يوم حملت تلك الكتب بلهفة من المكتبي بالجامعة إلى البيت، واختليت بها للاستماع إلى الجديد.. !

ومن هذا المنحى عنوان كتاب للدكتور رفيق خليل عطوي: صناعة الكتابة، بخط بارز يخفي عنوانا ثانويا صغيرا: علم البيان وعلم المعاني وعلم البديع (1989). ونخرج من الثمانينات إلى التسعينات لنجد اللون الأحمر يدخل معركة التجديد، نقرأ على صدر كتاب الدكتور مصطفى الصاوي الجويني: البلاغة العربية (بالأزرق) تأصيل وتجديد (بالأحمر).. وحين قرأت التأصيل، وقبل أن أعبر إلى التجديد قلت: لعل هذا العنوان الفرعي موجه إلى ثيران البلاغة.. فانتقلت إلى الكتاب الثاني للمؤلف بعنوان: المعاني: علم الأسلوب.. فوجدت نفس التأصيل "الثوري" ولم أجد الأسلوب. وقد صدر هذا الكتاب سنة 1996 (نعم 1996  في ظهر الورقة ووجهها [ونحن وقتها ما نزال في سنة 1995])، فهو ثوري حقا، سبق زمنه.

أما كتاب علم الجمال اللغوي (المعاني، البيان، والبديع) للدكتور محمد سليمان ياقوت في جزأين (صدر 1995) فمن الأمانة أن أقول إني لم أفهم عن أي شيء يتحدث بالنظر إلى العنوان.

لا جدال في أن هذا المنحى التضليلي جدير بالشجب، لأن المسألة لا تتصل بالاجتهاد أو الكفاءة بل تمس الأخلاق؛ فقد يعذر الإنسان في الأولى ولا يعذر في الثانية.

ولا بد أن نلاحظ مع ذلك أن مجال التأليف البلاغي في الإطار المدرسي، وحسب الخطة المدرسية، بدأ يستهوي بعض المطلعين أو الطامحين للاستفادة من الدراسات الحديثة وهذا ما نسجله للجهد الذي بذله الأزهر الزناد في كتابه: دروس في البلاغة العربية نحو رؤية جديدة (1992)، يظهر ذلك في بعض التحليلات (الاستعارة ـ التجنيس)، وقد حاول المؤلف الإشارة إلى همه من خلال لائحة المراجع الحديثة والمعتمدة.

غير أن هذا العمل يمكن أن يعتبر، هو الآخر، رقصا في الأغلال. إذ المطلوب هو إعادة النظر في مفهوم البلاغة، وإخراجها من الأسر الذي وقعت فيه منذ قرون لإعادة العلاقات مع الإمبراطورية القديمة.

وهذا الأمر لن يتحقق مادامت الجامعات تلقي الحبل على الغارب فيما يخص الأدب وعلوم الأدب، ومادام الأساتذة في أكثرهم يؤثرون استهلاك الجاهز ويرتابون من الجديد والمجددين. إن الجامعات تصم آذانها عما يجري حولها من بحوث فردية جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار، والحال أن هذه الجهود تمثل اللبنات الأولى لإعادة القراءة للخروج بكتاب مدرسي جديد يستوعب معطيات الماضي في أسئلة الحاضر. لقد حان الوقت ليقول طلبتنا: "كان السكاكي رحمه الله قد صاغ جهود المتقدمين على نحو كذا، في حين صاغها حازم على شكل كذا، وكان التراث العربي أوسع من أن يستوعب في هذه القراءة أو تلك، ولذلك اقترح الدارس المحدث قراءة أخرى أساسها كذا وكذا وجدواها كذا وكذا". والله أعلم .