هكذا نطق
عالِمُ المستقبليات
المهدي
المنجرة!
في حفل
التضامن مع الانتفاضة
محمد العمري
12/01/2001
(نشر بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 23/01/2001)
الوقائع:
استدعت اللجنة المنظمة لمهرجانات التضامن مع الشعب الفلسطيني
بالمحدية الدكتور المهدي المنجرة للمساهمة في "ندوة فكرية" حول "الانتفاضة
والشارع العربي"، (أرجو أن يستحضر القارئ هذا العنوان إلى آخر المقال).
ونشير، بالمناسبة، إلى أن هذه اللجنة
تتكون من 28 جمعية متعاونة مع الجمعية
المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، أي أنها تستوعب عن قصد كل حساسيات المجتمع المدني،
لم تكن هناك حاجة لكثافة إعلامية لكي تمتلئ القاعة الكبرى
للمركب الثقافي "بلعربي العلوي" وينتشر
فائض من الجمهور في الكوالس، جمهور
يبدو في أكثره منتقى من نخبة المدينة، ولا يخلو مع ذلك ممن "تُقعقعُ
له الشِّنان"، ويُرقِّصه كل حاوٍ.
ماذا
قال المتدخل الأول الأستاذ المنجرة؟
سب بعضَ الحكام العرب بالاسم واللقب، وسكت عن البعض الآخر
لسبب هو يعلمه، وربما سار في ذلك على طريقة بعض الصحافيين والسَّدَنة (الواقفون
على أبواب الحكام) الذين يميزون بين الحيط القصير والحيط العالي. وعلى الرغم أن
حاكي الكفر ليس كافرا، وفرارا من المساهمة في نشر الرَّفَث وفَساد الذوق نمتنع عن
ذكر الألفاظ والأسماء التي أقحمت في المناسبة. ونكتفي بما يمس جُرحَنا الحالي
المتمثل في تقتيل أطفال الشعب الفلسطيني ومطاردة قياديه سعيا من العدو إلى إخماد جذوة
الانتفاضة. لقد سب "الرجل" منظمة التحرير الفلسطينية ونعتها بالعمالة
للصهيونية وخصَّ الرئيس ياسر عرفات
بالخيانة. ثم انتشرت شتائمه في المحيط
الوطني فسب النخبة المغربية، قائلا إنها "نخخخخخخبة" أي
"تنخيمة". وسبَّ الحداثة، ومدد اللفظ حتى أدلع لسانه خارج فمه مثل طفل
يستفز طفلا آخر. وسبَّ وزير الثقافة المغربي واستطرد إلى كلام مهين، أنزه قلمي عن
خطه وحكايته.....الخ
تعقيبان من المنصة:
تدخل بعده الأستاذ محمود معروف من جريدة القدس العربية، ثم
الأستاذ أنيس بلافريج من الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني. وجد المدخلان
نفسيهما ملزمين بتضييع الوقت والجهد في ردم الهوة السحيقة التي انحط إليها المتدخل
الأول جارًّا معه القضية كلها إلى الحضيض. لقد كانا معا في منتهى الذوق واللباقة،
ولكنهما قالا المهم.
بإشارة خفيفة، فيما يشبه "الذم في معرض المدح"،
سجل محمود معروف روح الشباب التي طبعت خطاب الأستاذ المنجرة رغم أنه بلغ من الكبر
عتيا، حسبَ تصريحه هو نفسه، وهذه الإشارة من محمود معروف تستمد مناسبتها من قول
الشاعر:
فإن يكُ عامرٌ قد جاء جهلا فإن مطية الجهل الشباب
وبعد هذا
"المدح" أعلن المتحدث اختلافه مع كلام المنجرة، من وحيث المبدأ رفعا لكل
لبس حتى لا "يقالَ سمعنا
وسكتنا". وبعد بيان موقع منظمة
التحرير، وصمود المناضلين، مقاتلين ومفاوضين، في الدفاع عن القضية، وعدم التفريط
"ولو لحد الآن" في الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومنها القدس وحق
العودة، تساءلَ: عن معنى الخيانة التي تحدث عنها المنجرة؟ الخيانة إما أن تكون أو
لا تكون، فهي لا تقبل التجزيئي، وإذا كان ياسر عرفات خائنا - كما قال- فالقتل هو
جزاء الخونة؟! ولدقة المناسبة فقد نابت ملامح الرجل عن كلامه في طرح ألفِ سؤالٍ
وتسجيل ألفِ استنكار! شاهد على ذلك العرق المتصبب على جبهته من كل أصقاع صلعته.
وأنا أحييه بحرارة، وأوقع معه بالخَمْس بل بالعشرة. كان خطابه يقول: جئنا من أجل
الوطن، فماذ أسمع؟!
ومن قمة اللحظة الوجدانية التي صنعها محمود معروف، ومن تلك
الفكرة الجوهرية التي تؤطر كلامه التقط أنيس بلافريج الخيط فتحدث عن أهمية
"الوحدة الوطنية". لقد فهم بعمق مغزى حديث المهدي المنجرة، وربط منطوقه
بمسكوته، فعاد به ، كنموذج، إلى الفتنة المصطنة التي أثيرت في بداية الستينات
لإسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، وما تلا ذلك من محن رهنت مستقبل المغرب، ثم عبَر
به التاريخ المغربي مقارنا بين أجواء السبعينات حيث كان التضامن مع الشعب
الفلسطيني عملا سريا، في الوقت الذي نقيم اليوم مهرجانات مفتوحة ومسيرات. وضرب
أمثلة من هنا وهناك حيث ظلت الوحدة الوطنية والتكتل شرطا للخروج من بعض المآزق
التاريخية يكون الوجود فيها مهددا، والاختيار مقيدا.
أما بعد، هذه خلاصة مركزة للوقائع
الأساسية المؤكدة، وقد نزهنا قلمنا عن تصيد هفوات المعرفة والاستطرادات الجانحة
مما قد يقع في حال المشافه ويجر إليه حماس اللحظة. ومن أراد المزيد فما عليه إلا
أن يراجع التسجيلات.
لقد أحسن المنظمون حين قرروا عدم إعطاء الكلمة للجمهور،
واحسن المتدخلان بعد المنجرة حين وضعا النقط على الحروف في لطف يصون حرمة اللحظة،
ويسد باب المهاترة، ولكن بقي في النفس شيء، بقي في النفس هذا السؤال: هل عجز
الأستاذ المهدي المنجرة فعلا عن فهم طبيعة المناسبة ونوع المخاطبين، أو تُراه
" يُسرُّ رَغْوا في احتساء"؟
1 - المناسبة:
هل جهِل أن
المناسبة هي التضامن مع انتفاضة حاسمة يخوضها الشعب الفلسطيني من أقصى يمينه إلى
أقصى يساره، أمام عدو يوزع القمع على القيادة كما يوزعه على أطفال أبرياء يعرفون
شيئا واحدا وَوحيدا: الوطن، ثم الوطن وعلامة النصر التي تلقفوها من إصبعي أبي
عمار، ثم حولوها إلى منجنيق يقض مضجع الظالمين؟
إذا كانت دول
الجوار تعمل من أجل شرذمة الفلسطينيين لاستعمال فلان في الضغط على فلتان، فقد ظلت
خصوصية المغاربة وفضيلتهم كامنة في التعامل مع القضية وليس مع خيار دون آخر. وما
زال التعامل النزيه غير المغرض مع القضية يمر عبر التعامل مع منظمة التحرير
الفلسطينية، ولمنظمة التحرير الفلسطينية قيادة ورئيس، ولتلك القيادة ولذلك الرئيس
مشاكل مع الفرقاء هم وحدهم المخولون بالتحدث عنها، والخوض في شؤونها. وإلا ضاع
الوطن نفسه في حمى الصراع من أجل من سيحكمه عند تحريره. للإسلامي منا أن يتعاطف مع
حماس وللشيوعي أو الاشتراكي أن يتعاطف مع جبهة من الجبهات، ولغيرهما أن يتعاطف مع
فتح أو غير فتح، ولكننا حين ننظم مهرجانا من أجل الدم الفلسطيني في الساحة، من أجل
دم كله أحمر ساخن، سيكون من التشغيب والخذلان ومن سوء التدبير، ولا أقول أكثر من
ذلك، أن نمارس التشويش ونخلط الأوراق. خاصة إذا لبسنا قناع المناضلين بعد الانتهاء
من لعب الرونضة على المائدة القديمة.
2 - المخاطبون
المخاطبون المباشرون هم 28 جمعية من النشطاء في المجال
السياسي والحقوقي والثقافي عامة...الخ. والمخاطبون غير المباشرين هم الشعب
الفلسطيني وكل المتعاطفين معه. أحب الأستاذ المنجرة أم كره فهؤلاء نخبة وهؤلاء
حداثيون؟ وحين يعتبر النخبة تنخيمة ويتلمظ بمخاطه مخرخرأ مغرغرا(وليس بين وجوهنا
نحن ضيوفه وبين وجهه أكثر من مترين)، وحين يدلع لسانه بكلمة حداثة مشمئزا يكون
معنتا لمخاطبيه الذين توسموا فيه حكمة العالم الذي حنكته الحياة. لقد افترض محمود
معروف "عودة الشباب"، ولا بديل لهذا الافتراض غير ظهور بوادر الخرف.
ونحن لا نستبعدهما فرارا من هذا السؤال: ما دام عمل العقلاء منزها عن العبث، ففي
أي حبل يجمع هذا الحطب،؟
لقد أُحرجنا وخاب ظننا. قال أحد اللغويين القدماء :
"كنا نظن الطرمَّاح شيئا حتى قال: ..."الخ. ونحن نقول بصيغة أخرى تحفظ
الماضي وتترك باب مراجعة النفس مفتوحا: كان المهدي المنجرة عالما حتى تصابى في شيخوخته فمال إلى التهريج...الخ
عادت بي الذاكرة إلى ضجتين سابقتين يُتح لي الوصول إلى
فحواهما: الأولى حين ثار الصحفيون لما لحقهم من إهانة من الرجل، ولعله نعتهم
بالعمالة أو الصهينة، والثانية حين شاع الخبر بأن المنجرة غادر المغرب إلى اليابان
لأنه منع من الحديث إلى الطلبة في كلية الآداب بفاس، وسعينا وقتها، ونحن أساتذة
بنفس الكلية، لتبين الأمر، والاحتجاج عليه، ولم نستسغ ما قدم لنا من تبريرات.
ودون أن يكون لدي أي استعداد نفسي أو فكري للتعاطف مع من
يصادرون حق الآخرين في التعبير، أتساءل: لو فرضنا أني كنت أعلم أن المنجرة سيرفث
أمام الطلبة بمثل ما رفث به أمام جمهور المحمدية، هل كنت أنا نفسي سأسهِّل مهمته؟
إنه سؤال المحنة، سؤال الحرية والمسؤولية، أو سؤال الحرية عند انعدام المسؤولية.
من الأكيد أنني ما كنت لأستدعيه لمحفل تعاطفي "جمهوري"، لأن هّذأ المقام
لا يتسع للجدل والخلاف، وإلا ضاع الهدف. ومن الأكيد أنه لو فتح باب النقاش لعمت
الفتنة.
ألسنا في حاجة أيضا لتعريف السفه والجنون؟ فمن المتداول في
كتب القدماء عن المجانين (وعن عقلاء المجانين خاصة) أن المجنون ليس هو من يأتي
بأفكار خاطئة، بل المجنون من يخلط بين المقامات كما خلط الأستاذ المنجرة بين دم
الأطفال الشهداء والزفت العربي والوطني، بكل معاني الزفت في مقام التعاطف مع الدم.
ونتساءل في آخر هذا التعليق الذي نعتبره من باب تبريئ
الدمة: ما الذي يجعل عالم المستقبيات صاحبَ رُؤية وبصيرةٍ إذا كان يخوض في الظلام
كما يخوض فيه أي سياسي مكيافيلي ضحل الثقافة؛ لا يرى غير هدفه الذاتي أو الفئوي؟
ما الذي جناه العالم العربي من التهريج والهتاف ليلَ نهار إشادة ب"السياسة
الرشيدة" وتنديدا ب"الأعداء والخونة" غير إشاعة الأمية الفكرية
والإعاقة السياسية؟ أليس من مهام المفكرين والمثقفين عامة إشاعة الفكر النقدي
الصلب، والتقليل من صفوف المصفِّقين، ليس بأن نقول لهم: "لا تصفقوا.."
كما كنت تقول تاكتيكا ونفاقا بعد استدرار التصفيق واستجدائه، بل بأن نجعلهم يدركون
بحسهم النقدي أن استدراجهم إلى التصفيق بالعنتريات وإيهام الصفاء تحايل على
عقولهم. ألسنا اليوم أمام شعوب تصفق للجزار وتبكي الضحية وتسير في جنازة جلاديها
باكية مترحمة؟ كفى من الكريدا!
ولغيرنا من المناضلين الذين أدوا الثمن في "الزمن
الصعب": زمن دار المقري، زمن درب مولاي الشريف، زمن تازمامرت، وأكدز، وقلعة
مكونة، وغيرها من مقابر الأحياء أن يسألوا هذا المناضل الذي خون الجميع، وتجشأ على
الجميع، أن يخبرهم أين كان في ذلك الزمن؟ لقد كانوا في حاجة إلى بيان صغير من
موقعه الرمزي وشهرته العالمية، ولكنه لم
يَصدر أبدا. فرحم الله من عرف قدره.