أما قبل،
وأنا
أتابع هذه الأيام اجتهادات "الزمرة" نفسها التي وضعت المغرب في آخر
الترتيب وهي تبسط لحاف المقدس ليغطي الأحجار والأزياء وأرقام الميزانية
و"اليوميات"، وأنا أتابع البلاهة وهي تستل لسان الكاريكاتير، تذكرت
الهوة السحيقة التي هوى إليها المغرب في نهاية السبعينيات؛ في سياق الهجمة الشرسة
على رجال التعليم والنقابيين عامة. وكان من جملة الأعلام المنشورة في سماء القمع وقتها
تهمة إهانة المقدسات. تذكرت تلك الأيام السوداء التي أوصلت المغرب إلى باب
الهاوية، وتذكرت معها حدثا كنت سجلته فيها يشبه المذكرات، نقتطف منه للمناسبة هذه
الفقرات عن ضحايا الكسكس، قلت:
"من
يصدق أن الامتناع عن أكل الكسكس يمكن أن يُكيَّفَ إلى تهمة "إهانة المقدسات"؟
صدِّق أو لا تصدق، لقد وقع ذلك فعلا في المغرب منذ بضع وعشرين سنة! أنا لا أستغرب
لأني سمعت ورأيت.
إذن
سأتلو عليكم نبأ الفتية الذين استخفُّوا بالكسكس. ودافعوا عن الدجاج، فوجدوا
أنفسهم في الزنزانة رقم 6 بالجناح الأوروبي، بالسجن المدني بالدار البيضاء وصار
لهم عنوان واحد: "بَدْرانْ ومن معه".
يروى ـ والأعراب بالباب والمحاضر في ابتدائية
الدار البيضاء ـ أن طلبة المركز التربوي الجهوي للرياضة بعين السبع فوجئوا بالكسكس
يوم الأربعاء على غير عادة ودون
توقع، إذ موعد الكسكس عيدُ المؤمنين: الجمعة.
وقف أحدهم على الطاولة وقال: ما هذا، الكسكس في
يوم الجمباز؟! هذا غير معقول!
قال إداري عنده علم بالمطلوب: لقد قدَّمنا الكسكسَ، وأخرنا الدجاجَ لأن الجمعة ستصادف يوما
وطنيا، وسنحتفل بالدجاج.
قال طلاب الرياضة "على نيتهم": ولكن
الكسكس لا يناسب القفز والتهْزاز، وكلَّ ماتقتضيه حصةُ الجمباز!
قال الإداري المتربص، وقيل المدسوس: أنتم إذن
تهينون المقدسات؟… وقال الذين من شيعته: سمعنا كلَّ ما سمِع سيادتُه وتوخَّاه ورضي
به، وبه نَلْقَى المحققين. رفع سعادته السماعة وأدار رقما محفورا في ذاكرته: ألو
ألو عندي بضاعة من العينة نفسها (رجال التعليم المساخط).
هكذا كُتب محضرُ الفتية وأُودعوا السجن. وبدأت
أصداء "الدلالة" تصل إلى الزنزانة مع كل زيارة: شهر شهران ثلاثة، سنة /
مليون مليونان ثلاثة. ثم كان ما كان مما لست أذكره إلا رمزا.
والذي كان هو: أربعة ناقص ثلاثة يساوي واحدًا. خرج ثلاثة بعد
ثلاثة أشهر، وبقي واحد، بقي هذا الواحد المسكين يتسلى بوجودنا نحن رهوطَ النقابة،
حتى خرجنا وتركناه هناك. لقد ضُرب المسكين بسنة سجنا نافذا، لكي يفهم هو وأبوه
(الضابط في الشؤطة) الرافض للتفاهم أن الخروج من الجماعة يجعل الشاطر يتغذى في
السوق مرتين. كان عليه أن يؤدي وحده ما أداه الآخرون مجتمعين لكي يأخذ كل "ذي
حق حقه"! وتعود المياه إلى مجاريها، وتنال المقدسات المفترى عليها الاحترامَ
اللازم! وخرج المسكين من المصيدة مجهدا وهو يلهث. وبكل وفاء زارني قبل
الصيف(1979). وقص علي القصص فقلت:
نجوت من القوم الظالمين. وبقية القصة عنده…
وعلى هامش أصحاب الكسكس صادفتُ هناك في قبو
المحكمة معتقلا اسمه حسن. ذكر حسن بعفوية، وبدهشة من لا يصدق ما وقع له، أن أصحابه
بالحي المحمدي ضايقوه يوما بالمناداة عليه، وهو يهم بركوب الحافلة:
"وَاحَسَنْ، وَاَحَسَنْ..." بالتكبير، ثم بالتصغير
واحويسيس...
فتبرأ
من اسمه ـ وربما لعنه ـ لكل ما جلب له من التشهير والإزعاج. وفي رمشة وجد نفسه في
الطريق إلى السجن بتهمة إهانة المقدسات.
قال حسن: إذا كنت أنا نفسي أقسم أمامهم بالله
أنني إنما أقصد نفسي، (عندما نطقت لفظ حسن)، فلماذا يصرون على تقويلي ما لم أنويه؟
قال الذي عنده علم "بقوالبهم": "يَمْكَنْ باغيين
فيك الخدمة لشي حاجَة خْرى"؟
قال حسن بكل براءة: "كلهم بَغيين فيا الخدمة؟! علاش ...؟ علاش...؟ شكون أنا...
تندير السياسة بحالكم؟!"
أما بعد،
فواقعة الكسكس لا تختلف عن واقعة الحجر المقدس، وواقعةُ حسن لا تختلف
عن واقعة بوجمهة الوردي إلا في انتماء الأولى إلى القرن الماضي والثانية إلى القرن
الحالي؛ الأول كان في الزمن المدان؛ زمن إدريس البصري والحاج محمد مصطفى ثابت،
والثانية في زمن الأمل، هذا الزمن الذي نتمنى ألا ينكشف غباره عن وهم.
لم أتجرأ يوما أن أعقب على عمل القضاء وأحكام
القضاة، حتى ولو غابت عني الحكمة المتوخاة، احتراما للمؤسسة، ولكن هذه الحادثة
تستفز العقل! فالمادة المختلف بشأنها هي "يومية" ككل اليوميات، وموضوع
الاختلاف هو الإكراه على الشراء (وهو الأجدر بالتجريم لو كنا في دولة تحترم
المواطن)، والانفعال (الذي أبداه الوردي) متوجه صوب الإكراه ومنبعث من الإحساس
بالابتزاز (فضلا عن الحالة المادية للمعني بالأمر التي تستدعي المساعدة).
فكيف يمكن عقليا تحويل هذا الحدث عن
مساره؟ إنها مأساة يجب استنكارها يوما بيوم وبملايين الأصوات حتى يسترجع الوردي
حريته ويعود المرجفون إلى رشدهم، فصبرا آل ياسر.