"الفنان" محمد الخياري

 في سوق البقر!!

 

محمد العمري

كانت الجلسة التي خصصتها القناة الثانية مشكورة للتعريف بتجربة مسرح البدوي (أو بالسي عبد القادر البدوي على وجه التحديد)، يوم الأربعاء 12يوليوز 2006، تسير بين اليأس والأمل (عدم إقناع ما مضى والتطلع إلى ما يأتي) حتى طلع علينا "الفنان الكبير"، والعهدة على مقدم البرنامج، إذ المقصود هو محمد الخياري؛ أحد أبطال مهزلة رمضان: سير حتى تجي. قدم الفنان الكبير بعض فذلكاته المعهودة القائمة على "التلباق"، ثم شرع في الغناء إلى أن وصل إلى بيت القصيد:

أَنتُُمَا تْخِيْروا فْلَعْيَلاتْ     وَحْنَا شاطْ لِينَا لْوِيلْ

رفع الفنان الكبير عقيرته، وضغط على المقاطع، وأعاد وردد، حتى أزال الشك من ذهن كل من لم يصدق ما سمع. التفت الحاضرون بعضهم إلى بعض مستطلعين أثر هذه القذارة ـ في الذوق والفكر ـ  التي تقذف بها الشاشة الوطنية إلى أعماق البيوت ومجالس الأسر. ثم جاء أول تعليق من ربة البيت: "واشْ هَادْ (... حاشاكم) تَيتخيل راسو فسوق لبقر؟؟ واشْ ما استحيا يعتبر مراتو شياطا وويل؟؟...ما هاد المنكر؟؟"

وتوالت التعليقات، وضربت الأمثلة من سخافات الخياري وسوء ذوقه، من قبيل ترديده لأسماء شخصيات وشعوب يعتقد أنها مثار للسخرية أو الضحك؛ مثل عيسى حياتو ومنديلا...فلضحالة ثقافته لا يدرك مدى خطورة مثل هذه المهاترات، خاصة حين تنطلق من وسائل الإعلام المغربية، وأقل ما يترتب عن ذلك المعاملة بالمثل: فيقال للمغرب كما قال الشاعر القديم: "يا آلَ تَيٍمٍ ألاَ يُنْهَى سَفيكُمُ...؟؟".  فإن لم ينه السفيه، أُخذَ الولي بالمولى.

إن زلة الخياري هذه المرة جاءت بالموزون المقفى، أي "فضيحة بجلاجل"، كما يقول إخواننا المصريون. إذ المفروض في الموزون المقفى أن يكون شعرا. والشعر، كما هو معلوم عند أهله، علم ومعرفة وإحساس إنساني رفيع، الشعر رؤية للكون. وكان من المفترض أن تستوعب هذه الرؤية المسار الحقوقي الإنساني الذي ساهم في بنائه الأنبياء والفلاسفة والمصلحون، واختار  المغرب السير فيه حين انخرط في إصلاح مدونة الأسرة ضمن المسار العام للالتزام بحقوق الإنسان. فتحت أي إغماء كان الخياري وهو ينظم ويقطع ويلحن كلاما لا يمكن أن يصدر عن شخص ينتمي لعالم الفن. ولو سايرنا الخياري في هذيانه وطلبنا منه اقتراحا يحقق العدل بينـ"نا" وبينـ"هم" في هذا المجال فلا يبعد أن يقترح الخلط وإعادة القسمة عن طريق القرعة.

قد يقول قائل: إن الرجل يهذي بما لا يعلم، ويقول ما لا يقصد. والدليل على ذلك أنك لو وخزته في خصوصيته لانتبه، ولو سألته لانقطع وعجز عن الجواب. ونحن لن نخزه احتراما للآخر، ولكننا نسأله عن الآخرين الذين "تخيروا فْلَعيالات" من هم؟ ونحن متأكدون أن لا جواب لديه. ونسأله عن أسس الاختيار، ولن يكون جوابه مقنعا بحال. وإن رأى غير ذلك فها نحن ننتظر.

إن كل ما في الأمر هو أن الرجل وقع فيما يقع فيه "المغفلون" نتيجة هوى نفسي غالب يلغي العقل. فالمغفل، كما هو معلوم في بلاغة السخرية ـ وهو إحدى الشخصيات الأربع الرئيسية المحببة للساخرين وهي المغفل والجشع/البخيل والمدعي والجبارـ ينشغل بالشكل ويغيب عنه المحتوى فيقع في مفارقات مضحكة، ومن الأمثلة القديمة لذلك حكم أحدهم لصالح امرأة اشتكت تعرضها للتقبيل من طرف أحد العابرين، إذ ما كان من الحاكم إلا أن قضى لها بتقبيل ذلك الرجل انتقاما لشرفها. وأسوأ أنواع الغفلة ما كان سيكولوجيا مبنيا على جشع. فكل ما كان يهم الخياري هو تعميق الشعور بالغبن عند فئة من المجتمع يعتبرها جمهوره، ويفترض أنها محرومة من كل شيء جميل، وما دامت المرأة مناطا للجمال فهي من ضمن "الأشياء" التي يمكن سردها وصولا بالمبالغة إلى أقصى درجاتها. وهو هنا امتداد غير واع (بالتحولات) لنزعة كانت تقوم على الوضع السابق الذي عرفه المغرب فيما عرف بعهد الرصاص حيث الآخر هو المخزن وخدمه. في حين أن الأمور صارت اليوم أكثر تعقيدا وتتطلب من الفنان الحقيقي أن يعرف ما يقوله؛ أن يضع النقط على الحروف. لم يعد السؤال اليوم في المغرب مبنيا بشكل بسيط على ثنائية نحن (المظلومون) والآخر (الظالم)، بل صار شديد الالتباس، السؤال المركزي اليوم هو من نحن، ومن الآخر؟ وما مسؤوليتنا وما مسؤولية الآخر؟ وهذا باب واسع جدير بالنقاش بين المثقفين والفنانين.

ومن الغريب أن شخصا بهذا المستوى الفكري، وهذا العياء الفني، يتحدث عن الغبن الذي يعانيه الفنان المغربي (وهو يعني نفسه من خلال الآخرين) مقارنة بشارلي شابلان والسيد بين... صحيح أن الله يرحم من عرف قدره، ولكن هذا لا يعفينا من تنبيه من عدا قدرَه، بأن نقول له: شتان مابين التبر والتراب.

وأشير بالمناسبة إلى أن جلسة الأربعاء حادت عن الغرض منها نتيجة التركيز على التقريظ اللفظي للأستاذ البدوي من طرف أشخاص تعبث بهم اللغة العربية وتنطق بهم بدل أن ينطقوا بها، من أول متدخل إلى آخر متدخلة، وزاد من تشويش الجلسة وتفكيكها طول الأغاني التي أدرجت فيها. والحقيقة أن تجربة البدويين كانت في غنى عن الحذلقة وتزجية الوقت بالأغاني الطوال.

نشر بجريدة الاتحاد الإشتراكي يوم 20.07.2006

http://www.alittihad.press.ma/def.asp?codelangue=6&info=53&date_ar=2006-7-20%2015:00