المثقفون المغاربة

شيء من التاريخ والجغرافيا

محمد العمري

Zone de Texte: نشر بملحق "فكر وإبداع" بجريدة الاتحاد الاشتراكي 29/10/2006
http://www.alittihad.press.ma/def.asp?codelangue=6&info=55&date_ar=2006-10-29

 

 

 

 

  لعل أول ما يرد على ذهن من يتأمل حال المثقفين المغاربة حاليا هو أنهم بدون هوية جامعة أو قضية شاغلة، ولذلك فهم غائبون أو مغيبون ـ إلى حد ما ـ عما يجري من تحولات. فالكرة طائرة فوق رؤوسهم؛ بين رِجْـلِ المدبر السياسي ورأس المراقب الديني وفضول المعلق الصحفي المشغول بالغريب المثير. والسياسي لا يفكر في المثقف حاليا إلا حينما يقف في وجهه رجل الدين ملوحا ب"خريطةِ الطريق"، أما فيما سوى ذلك فهو ليس في حاجة إلا إلى شغالين منفذين. حتى الأحزاب لم تعد في حاجة إلى وجع الرأس الذي يسببه المثقفون.

لا نحتاج في إدراك هذا الأمر إلى أكثر من تتبع ما يقدمه إعلامنا المرئي والمسموع. فأنت إما في جلسة حوار بين سياسيين وصحفيين (مختلطين أو متواجهين)، أو في جلسة وعظ وفتوى، والباقي خبر وتسلية. وحين يُستحضر المثقف فإنه لا يكون أكثر من "خضرة فوق الطعام". ويكون ـ في الغالب ـ من جوقة مستهلكة مأمونة، أكل عليها الدهر وشرب، أو يكون أمامه صحفي(ة) متعب(ة)، لا في العير ولا في النفير،  يتعثر(تتعثر) في ألفاظ جوفاء.

إن فهم الوضع الثقافي الراهن يستدعي النظر إلى الموضوع نظرة أفقية وعمودية، أي النظر في العوامل الأساسية التي ساهمت في الصورة الراهنة. وهذه العوامل في نظري هي: المدرسة والسلطة والإعلام، تفعل وتتفاعل على مدى نصف قرن. ولأن المناسبة لا تسمح بالتتبع والاستقصاء نكتفي ببعض الملاحظات والتساؤلات.

أـ عرف المغرب قبيل الاستقلال وبعده مباشرة نموذجين متنابذين من التعليم: نمط تقليدي معرب(وسمي تعليما أصيلا في أغلبه)، ونمط عصري مفرنس. وإذا تجاوزنا الحالات الاستثنائية التي استطاع فيها خريجو التعليمين تحقيق اتصال وتصالح نسبي بين المسارين التقليدي والحديث ـ إما بجهود شخصية أو نتيجةً ظروفٍ عائلية أو جمعوية مواتية ـ فإن النتيجة العامة لهذه الوضعية التعليمية تتمثل في ظهور شخصيتين ثقافيتين متناقضتين؛ شخصية تنجذب نحو الشرق بكل علله، وأخرى تنجذب نحو الغرب انجذابا يكاد يقتلع جذورها من أرض المغرب. وقد انعكس هذا الواقع الثقافي على الحياة السياسية في جميع مستوياتها، وعَبْرَ تاريخها، من الاستقلال إلى الآن.

ظهر مع بداية تدبير الاستقلال (المفاوضات)، ثم تعمق حين جاء تدبير شؤون الدولة المستقلة. وقد أشار الفقيه البصري، رحمه الله، في مذكراته إلى هذا الواقع. بل إن هذا التقاطب الثقافي لم يكن غائبا عن انقسام اليسار الماركسي فيما بعد إلى تيارين، 
"23مارس" و"إلى الأمام"، ثم وجد تجليه الحالي الكبير في تعارض حاد بين الديمقراطيين، اشتراكيين وليبراليين، وبين التوجهات الإسلامية بكل أطيافها.

إن أطراف الكتلتين ("الأصلية المعربة" و"الحديثة المعولمة") وتخومهما تتغير وتقرض (أو تقترض) إحداهما من رصيد الأخرى حسب اتجاه الرياح وحركة المد والجزر، لكن مركزيهما ثابتان. وإني لأستشعر هذه المفارقة شخصيا بقوة كبيرة نظرا لأن تكويني الأول والأساس كان أصليا (ولا أقول أصيلا ولا أصوليا)، ثم سعيت بجهودي الخاصة للانفتاح على الفكر الماركسي والوجودي، أولا، ثم على المناهج الدراسية الحديثة بخلفياتها النظرية والفلسفية في مرحلة لاحقة، فوجدت دائما إمكانية لمخاطبة الفئتين، وإدراك الهوة السحيقة التي تفصل بينهما. (وقد انكشفت أمامي حدة هذا الواقع عندما شرعنا في وضع المقررات الجديدة لشعبة اللغة العربية بفاس بداية الثمانينيات، حيث انتهى الأمر إلى تقاطب حاد بين أنصار الأدب القديم وأنصار الأدب الحديث. والتف أنصار القديم على اختلاف ألوانهم في عباءة الدين ومدوا نفوذهم للهيمنة على شعبة الدراسات الإسلامية مستغلين الفراغ، فكان لهم ذلك، في حين وجد أنصار الحديث امتدادهم في شعب اللغات الحية، ومثلت مجلة دراسات أدبية ولسانية ومجلة دراسات سميائية وجها لهذا  الامتداد).

وقد ساعدت ظروف الصراع بين المعارضة اليسارية والمخزن ـ ولجوء هذا الأخير إلى استنبات الفكر الديني لمحاربة الفكر الحداثي المستنير ـ في تحويل الاتجاه الأصلي التقليدي إلى اتجاه أصولي متعدد الألوان، ولكن هذه المكونات جميعا تلتقي في معاداتها للعقل والحرية، وذلك من خلال رفضها لكل تجليات الحداثة، أو تشويهها كما هو ظاهر في عمل طه عبد الرحمن. وكان من الإجراءات العديدة التي اتخذت في هذا المضمار، كما هو معلوم، محاربة الدرس الفلسفي والسوسيولوجي، وتقوية الدرس الديني من خلال إنشاء شعب الدراسات الإسلامية. وهكذا غلفت المحافظة بالغلاف الديني فاقتحمت حتى المجالات التعليمية غير الأصيلة مثل الكليات العلمية والتقنية. يقوي ذلك ويدعمه الوضع المأساوي الذي عرفه/ويعرفه الشرق العربي على كل المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية؛ الشرق بكل جراحه.

وهكذا صرنا أمام مغاربة يعادون كل شيء ينتمي إلى المغرب بقدر ما يعادون الغرب، حتى الجُبَّةُ المغربية عوضت باللباس الأفغاني الهجين، هذا اللباس الذي لا ينتمي لا إلى المغرب ولا إلى الغرب: جاكيت فوق القشاب.

وقد يعتقد الآن أن المغرب في طريق الخروج من هذه الازدواجية الناتجة عن اللقاء الصدامي بين الشرق والغرب، منذ أكثر من نصف قرن، وذلك بالعمل على تقريب التعليم الأصيل من التعليم العصري، والواقع أن الأمر يتحول اليوم إلى الأسوأ، فقد انضاف إلى ذلك التقاطب عنصر التعليم الحر الذي صارت تتحكم فيه الأهواء الفئوية والطائفية أكثر مما تتحكم فيه برامج الوزارة الوصية. فهناك مؤسسات يتعلم فيها الأطفال اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية قبل أن ينطقوا جملة واحدة بالعربية، وتصر عائلاتهم على تكريس هذا الواقع في المنزل، وهناك مؤسسات تقضي أكثر أوقاتها في الأناشيد والمحفوظات الدينية والقصص والخرافات المحسوبة على التراث الديني، ويكمل الدور في المنازل حيث جهاز التلفاز من المحرمات، عدا قناة أو قناتين تسيران في نفس الاتجاه.

ب ـ أما العلاقة مع السلطة؛ سلطة الدولة وسلطة الجماعة والحزب فقد لعبت هي الأخرى دورا سلبيا في تكوين طليعة ثقافية فاعلة في استقلال عن الضغوط.

لقد كان من نتائج القطيعة بين الحركة الوطنية التي عملت من أجل الاستقلال وبين النظام المخزني أن وجد المثقفون أنفسهم عبر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في مواجهة مباشرة مع المخزن، بل في عداوة راسخة، فهم في أغلبهم قوميون أو اشتراكيون (ماركسيون أو إسلاميون). كان هؤلاء جميعا منخرطين في حركة تحرر عالمية معادية للإمبريالية والصهيونية ومن يعمل في خدمتهما من الأنظمة العربية، وكان المغرب في هذا الموقع السيئ الذي مازال يجر عليه الويلات (قضية الصحراء مثلا)؛ فالمغرب كان معروفا في العالم بجريمة قتل المهدي بنبركة، حيث تتداخل الخيوط مع الصهيونية والإمبريالية، أكثر مما هو معروف بطبيعته الجميلة وتاريخه المديد.

وقد تميزت المعارضة الوطنية ثم الاشتراكية بكفاءة استقطابية عالية، لا تضاهيها إلا قدرتها على تلطيخ سمعة كل من يتعامل مع المخزن. فأقفرت ساحة المخزن من المثقفين، وحتى من تعامل معه كان يتقنع ويتستر. وفي هذا الجو يفهم تقسيم الأستاذ عباس الجراري للمثقفين، في بداية السبعينيات، إلى تكنوقراط لا أفق لهم وطليعة اشتراكية مستنيرة ومرتزقة، والمرتزقة هم الذين يتعاملون مع المخزن. وأذكر أن حديثي في مقدمة كتابي: في بلاغة الخطاب الإقناعي، عن "العلماء الخدم" قد آلم الكثيرين وجلب علي العتاب.

 فباستثناء مجموعة محدودة ـ منحدرة في الغالب من حزب الشورى ـ كانت الوزراء والمسؤولون الكبار في الدولة، مدنيين وعسكريين، يعجزون عن تركيب جملة مفيدة باللغة العربية، بل حتى بالدارجة العامة المنقحة التي يفهمها الجمهور، فكانت الدولة تبدو أمية لغة وفكرا. وقد ضغطت المعارضة على هذا الجرح من خلال النكت القاتلة التي الجارحة التي نسجتها حول الكثير من الشخصيات، وكان النموذج البارز لذلك المغفور له أرسلان الجديدي. وهو لم يكن إلا نموذجا، (وقد ساهمت الفضائيات العربية أخيرا في كشف شيئ من معجم إدريس البصري، حيث يستعمل معجما ركيكا من قبيل "هادوك الگنوگ  الكبار". وهو معجم يتداوله الشباب اليوم عن طريق البريد الإلكتروني ساخرين يملؤهم العجب من مغرب كان يحكمه هؤلاء الأميون).

كان المجال الثقافي، وهو امتداد للمجال التعليمي، خارجا عن سيطرة المخزن (وكنت أود أن أقول الدولة)، ولذلك كان من يلتحق به يُعتبر مرتدا فيحاصَر ويضيق عليه الخناق. من هنا جاءت خطط تحطيم رجال التعليم في جميع مستوياته، وذلك بالإفقار المادي والإرهاق المعنوي. والكل يتذكر الصفة التي وصف بها الملك الراحل، غفر الله له، رجال التعليم في خطابه بعد أحداث 1965: أشباه المثقفين.

وقد بلغت سياسة ضرب المجال الثقافي/التعليمي غايتها بضرب الأجهزة النقابية (المحرضة)، فضُرب أولا الإتحاد الوطني لطلبة المغرب ضربة قاضية، أوائل السبعينيات، ثم ضُربت النقابة الوطنية للتعليم، بعد ذلك، في نهاية السبعينيات.

وبموازاة مع الضغوط المادية والمعنوية فتحت الأبواب للالتحاق بالمخزن عبر بوابة الأحزاب الإدارية والجمعيات الجهوية التي سميت جمعيات الهضاب والسهول. وفي هذا الوقت كان الحصول على وصل إيداع ملف إنشاء جمعية ثقافية أو حتى جمعيةٍ للقاطنين تعنى بشؤون الحي من باب المستحيلات، وفي هذا الظرف أيضا عمدت وزارة الداخلية إلى إيقاف ثماني مجلات ثقافية مرة واحدة. ولقد كان السيد أجار صريحا وشجاعا في حواره الإذاعي الأخير، حين صرح بوجود نزوع داخل حزب الأحرار للخروج من الإطار الإداري الذي أنشئ فيه الحزب من طرف المخزن.

وفي الوقت الذي شرعت الدولة في فتح الأبواب وتقديم الإغراءات للمثقفين وأساتذة الجامعة كانت الأحزاب السياسية تَضيق درعا بمثقفيها، وتجد صعوبة في الاستماع إليهم، فكان ما كان مما يحسن السكوت عنه حاليا.

ومن غرائب مرحلة القطيعة أن المخزن كان يتعامل مع مجموعة من المثقفين والفنانين من وراء حجاب رغبا حينا، وتوريطا حينا آخر. وقد رأى بعض هؤلاء أخيرا أن الوقت حان لرفع السرية عن هذه العلاقة، فبدأوا يتحدثون، فذكر الطيب الصديقي، مثلا، أنه كان يلعب دور البهلوان أو المهرج.

ج ـ أما في المجال الإعلامي فمن المعروف أن الإعلام لعب (وما زال يلعب) دورا سلبيا في المجال الثقافي، وذلك لسببين على الأقل: التبعية وضعف التأطير:

1ـ التبعية، ظلت وسائل الإعلام السمعية والبصرية محرمة على المثقفين المغاربة حينا ومقاطعة من طرفهم حينا آخر. وعندما بدأ الاتصال الحذر من خلال بعض البرامج ظلت هناك لائحة سوداء بالأسماء التي لا ينبغي أن تظهر على الشاشة أو يسمع صوتها على الأثير. وأذكر شخصيا أنني سجلت ثلاث حلقات في برنامجين ثقافيين مختلفين أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. واحدة بمناسبة صدور مجلة دراسات أدبية ولسانية، والثانية عند صدور كتابي في بلاغة الخطاب الإقناعي، والثالثة بعد الحصول على جائزة المغرب سنة 1990. وقد ظلت هذه الحوارات حبيسة أدراج إدارة القناة الأولى، لم يذع أي واحد منها. والغالب أن لهذا الموقف علاقة بما كنت أكتبه في زاوية "شبه جملة" بجريدة الاتحاد الاشتراكي. وهذه حال الكثير من المثقفين، فمنهم من أثار القضية في حينها ومنهم من سكت.

التأطير، لا أعتقد أن هناك حاليا سياسة ممنهجة لإقصاء الثقافة والمثقفين، بل يتعلق الأمر بعاهات قديمة حديثة. فالعاهة القديمة تتمثل في استمرار عناصر زمان في مواقع المسؤولية خاصة في القناة الأولى، ومن شب على سيء شاب عليه، وفاقد الشيء لا يعطيه. والعاهة الثانية تتعلق بالمستوى الثقافي المتواضع لأغلب الصحفيين، خاصة المكلفين بالبرامج المتصلة بالتنشيط. وهذا موضوع جدير بمقال خاص.

 ويزيد الأمر سوءا بالدور السلبي المثبط الذي تلعبه الصحافة المكتوبة في متابعة عمل الإعلام الوطني السمعي البصري، حيث تنعدم الموضوعية ويعم التحريف وتصفية الحسابات. وأحدث مثال لذلك تعليق كل من جريدتي التجديد والأحداث المغربية على الحلقة الأخيرة من برنامج لكل الناس المخصصة للإرهاب.

أما بعد، فهذا المقال يتكامل مع مقال نشرناه منذ بضع سنوات بعنوان: "المهام الآنية للمثقفين المغاربة". ونظرا لأننا لا نتحرك كثير إلى الأمام، وأن ثلاجتنا شديدة البرودة، فإن المقال المذكور مازال يحتفظ بطراوته. يمكن الاطلاع عليه في موقعنا على الأنتيرنيت في الرابط التالي: http://medelomari.free.fr/thaqafa.htm