الإفــــراني

 مثقف ضد التيار[1]

 

 

(هذه محاضرة ألقيت في تاريخ سابق بدار الثقافة بمراكش تحت إشراف جمعية الإمام الجزولي.

 واحتفالي بالإفراني مرتبط باحتفالي بالتوجه الذي سارت فيه مدرسة الدراية المشبعة بالروح الصوفية،

 مدرسة أبي علي اليوسي )

 

تمهيد

عاش أبو عبد الله محمد الصغير الإفراني المراكشي في ملتقى القرنين  الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، فقد استمرت أخباره إلى حدود سنة 1156هـ. أي أنه ينتمي علميا إلى القرن الثاني عشر الهجري،( بين القرنين17 وَ 18م).

فإذا ما نظر إلى هذه الفترة من زاوية التاريخ العربي عامة فهي مدرجة في خضم ماسمي بعصر، أو عصور، الانحطاط. وإذا ما نظر إليها في إطار التاريخ المغربي الخاص فيمكن القول بأنه عاش في فترة مخاضٍ عنيفٍ، مخاض  تأسيس الدولة المركزية التي حاولَ المولى إسماعيل وأخوه المولى الرشيد، من قبله، بناءها على أنقاض كيانات إقليمية كان لبعضها طابع السلطة المعرفية الدينية والعلمية؛ أقصد الزاوية الدلائية[2]. كانت الإجراءات مثيرة كما هو معلوم، خصوصا بالنسبة لعلماء الزاوية الذين حاولت السلطة الجديدة استيعابهم تحت المراقبة بنقلهم إلى مدينة فاس.

ويمكن أن نجتزئ الكلام فنقول إنه عاش في عَهدِ الملك إسماعيل. وهذا سيطرح سؤال الانتماء مُباشرة بالنسبة للعارفين بطابع المرحلة. فالوضع الجديد لم يكن يقبل الغموض، هناك ملفات لابد من الحسم بشأنها يمكن إجمالها في السؤال التالي:

    ـ لمن الولاء؟

طرحت هذه المسألة من عدة أوجه: السلطة والقبيلة،  السلطة والزوايا،  السلطة والمعرفة (الدينية خاصة)؟

هناك، من جهة، الملكُ إسماعيل ومهام الدولة المركزية القوية في مواجهة تركة عصور ضعف جعلت جسد المغرب مخترقاً متخرقا من شرقه (مطامع الأتراك) وشماله وغربه (الغرب الناهض)، وكانت النماذج ماثلة بل جاهزة. هناك النموذج العسكري التركي، والنموذج البلاطي الفرنسي (لويس الرابع عشر)، غير أن هناك أيضا الواقع المغربي بمكوناته الخاصة وآليات عمله التي لا تسمح بالانتقال السريع والهادئ. فإلى جانب الولاءات التي تقف حجر عثرة في وجه عملية التوحيد، كانت أجهزة الدولة، في حد ذاتها، مَصدرَ إزعاج وشَغَب، كما بينت الأحداث المتوالية.

لقد ساهمت هذه المفارقات التي ميزت تاريخ المغرب في بروز نموذج للمثقف الملتزم بقضايا عصره[3]. المثقف الذي يصادم، مثل اليوسي وعبد السلام جسوس، والمثقف الذي يدعم ويرثى الضحايا مثل علي مصباح الزرويلي. المثقف الذي يبتعد عن مركز الدولة ليتآمر عليها كما هو حال العلماء الذين انضموا إلى محمد العالم بن إسماعيل وانتقلوا معه إلى الجنوب (مراكش وتارودانت). والمثقف الذي يهجر ويهاجر (الكثير من الصوفية الذين قصدوا الشرق واستقروا فيه بأرواحهم أو أجسادهم).

وحين استقرت الدولة ولم تعد إجراءاتُها موضعَ أخذ ورد تركز الصراع بين بقايا وامتدادات الاتجاه المتفتح الملتزم (أصحاب الدراية) وبين الفقهاء المحافظين (أصحاب الرواية) المنتفعين من العمل في أجهزة الدولة أو امتدادتها كالكراسي العلمية، والمنافع الحبسية. وكان الإفراني نموذجا مثاليا لمثقف هذه المرحلة في حين كان اليوسي ممثلا للمرحلة الأولى.

ما هي الصفة الشاملة  لشخصية الإفراني؟ لايكفي أن يقال: فقيه لأنه أديب ومؤرخ أيضا، وليست صفة العالم على عمومها كافية، لأنه عالم عامل. من هنا فضلنا دائما كلمة مثقف، لما تعنيه من تقويم واستقامة أساسهما المعرفة. إن المثقف عندنا هو من يدعوه القدماء: العالمَُ العاملَُ.

ونحن نواجه في حياتنا دائما صنفين من (العلماء): علماء يرون أن مهمتهم تنتهي عند التحصيل والتوصيل، وعلماء يحسون بضرورة الاختيار والتدخل في طبيعة المعرفة وتفعيلها في الواقع. أي أن وراء العمل المعرفي حرقةً أو شحنة وجدانية. هذه الشحنة الوجدانية موجودة وبعيدة الغور في أعماق الإفراني، وهي ذات ظلال مأساوية. تشدنا إليه لأنه استطاع أن يحولها من الآني إلى الأبدي، ومن الموطني إلى الكوني. وذلك بدفاعه عن مفاهيم وقيم سامية (وظيفة الأدب، احترام العقل، العدل..الخ) في عصر طغى فيه التقليد والتزمت. ولابد لمن خالطت علمه هذه الشحنة أن يكون مستعداً لمواجهة الزوابع لأنه سيُسير ضد التيار.

إن في شخصية الإفراني ظلالا وتلوينات لا يمكن فهم عمله ومواقفه دون أخذها بعين الاعتبار. يمكن رصد بعض هذه المؤشرات في اهتماماته العلمية الأولى، في قراءاته وتلخيصاته.

انفتح الإفراني، أول ما انفتح، على الأندلس، وعلى التراث الأندلسي؛ من خلال نفح الطيب وأزهار الرياض وأعمال ابن سعيد وابن خلدون وغيرها، وحرر كراسة في التعريف بالمقري اعترافا بأهميته في تخليد الأندلس من خلال موسوعتة الضخمة: نفح الطيب. ثم كرس جهده لشرح نص أندلسي يحمل كل خصوصية الأندلس، هو موشح ابن سهل:

هل درى ظبي الحمى أن قد حمى    قلب صب حلـه عن مكنـس

 وكانت الموشحات متهمة، كما سيأتي، وكانت الأندلس ما تزال وقتها جُرحاً مفتوحاً.

هل هي جاذبية المأساة أم جاذبية الحياة؟ أم هي عملية استرجاع المفقود؟

ثم نراه يحرر كراسة أخرى في الاستدلال على ثبوت توبة الزمخشري من الاعتزال. لقد كان الزمخشري يغري ببراعته في التحليل البلاغي، ويُقلق بإشاراته الاعتزالية. فلابد إذن من استرجاعه، بافتراض توبته من الاعتزال، حتى لا يبقى الخلاف المذهبي عائقا في طريق الفائدة العلمية. هل هذه قضية بسيطة؟ هل هي مجرد فضول علمي؟ لا، إنها مفارقة حية؛ فلا أرى الإفراني مشغولاً بجوهر الأفكار المدانة، بل يهمه عدم تشويه صورة هذا العالم البارع، وعدم تنغيص لحظة اللقاء به من طرف متزمتين يتمسكون بكل الشبه للطعن وتكفير كل من يتحداهم بالعقل. إنها عملية سحب البساط. إنها تهييئ موقع عن الأشياء الجميلة للنفس قبل الغير. وقُلْ مثل ذلك عن إثارته لإسلام ابن سهل في أول المسلك؛ دفع المنغصات. وإلى جانب المفقودات الصريحة التي يسترجعها بهذا الأسلوب أوذاك هناك الحاضر المغيب غير المتحدث عنه بالاسم، إنه الزاوية الدلائية التي هدمتها السلطة القائمة.

التقى الإفراني مع مأساة الزاوية الدلائية في فاس. وذلك بمعايشة شيوخها، أو تلاميذهم المباشرين الذين استقروا بفاس مثل محمد بن أحمد المسناوي. وهو صاحب "مقامة" أدبية جميلة تصف رحلة خيالية إلى أطلال الزاوية الدلائية[4]. ولا شك أن رائية اليوسي في رثاء الزاوية الدلائية قد رسمت طريقا لأدب المأساة في هذا العصر، ثم عَبَّدهُ شُراحُها فأصبح سالكا مَسلوكا[5]. "و قد ظلت الزاوية الدلائية ـ كما سبق أن قلت (في الإفراني... )ـ مأوى لأفئدة أدباء العصر الإسماعيلي، بل تعداهم ذلك إلى أدباء لم يَرَوْا الزاوية، ولا عاشوا في أكنافها، مثل الأديب المؤرخ محمد الإفراني الذي أشاد بها وبرجالها"[6].

نقول، عوداً على بدءٍ، إن تلك الشحنة الوجدانية كانت جاهزة في النفس للاشتغال بالتعاضد مع مثيرات أخرى؛ إنها الحالة المهيئة.

ويبدو أن الوقوف على أطلال مراكش كان المناسبة المباحة، غير المراقبة، في الظاهر، لتركيز كل أحاسيس الفقد واسترجاع كل المفقودات، ولا غرو أن يُوقف على أطلالِها بالشعر الذي وُقف به على أطلال الأندلس.       

فمن سوء حظ هذه المدينة أن ارتبطت في هذه المرحلة الانتقالية بالمعارضة، بل الثورة، سواء انطلقت من جبال الأطلس أو من السوس: تارودانت (ثورة محمد العالم) فمركز التصادم هو مراكش، وما زال الأمر كذلك حتى انتقلت عاصمة الدولة إليها في عهد محمد بن عبد الله. كان حالُها بالنسبة لمؤرخ يسترجع مجدها حالَ مأساةٍ مجسَّدةٍ. لنستمع إلى ما قاله عند معاينته ما آل إليه حالُها عند عودته من رحلة الطلب الطويلة بفاس: "ولما دخلت البديع، مقفلي من الرحلة، ورأيت ما هالني، قرأت علها أبياتا أنشأها محيي الدين بنُ عربي في كتاب المسامراتِ لما دخل الزاهرة فوجدها مُتهدمةً:

ديارٌ بأكنافِ الملاعبِ تلمعُ
ينوحُ عليها الطيرُ من كل جانبٍ
فخاطبتُ منها طائراً متفرداً
فقلتُ: على ماذا تَنوحُ وتَشتكي؟

 

وما إن بها من ساكنٍ وهي بَلقعُ
فتصمُتُ أحياناً وحِينا ترجِّعُ
له شجنٌ في القلبِ، وهو مروَّعُ
فقال على دهرٍ مضى ليسَ يَرجعُ[7]

وأنشد شعراً آخرَ في هذا المعنى.

إن هذه الشحنة الوجدانية التي تندفع في كل الزوايا لاستبدال الأدنى بالذي هو خير (على ضد ما يفهم من الآية القرآنية) تستحضر على الدوام ـ حتى وإن لم تصرح ـ بذلك القوةَ المضادة، وهي مستعدة للفضح والاقتصاص قصد العبرة والاعتبار. سيكون الاصطدام بفقهاء مراكش فرصة للتعبير الصريح عن الآخر الكامن، وسنقف على ذلك في حينه. أما الآن فنعرض حدثا يبدو عابرا ولكنه ذو أبعاد صريحة ورمزية يُلقي الضوء على جوانب من شخصية الإفراني.

مات أحد قضاة فاس المشهورين بالانحراف عن شرف أخلاق المهنة، فقال فيه أحد الفقهاء الشعراء:

تولَّــى الحُميــدِي وأحزابُــه
وم
ــاتَ وخفَّـــت موازينُـــه

 

وأيـــامُ دولتِـــه الغاويــهْ
وصـــار إلى أُمِّـــهِ الهاويــــهْ

وعندما وقع البيتان في يد الإفراني بخط الفقيه كان أحدهم قد شُطب عليهما بالحمرة، أي أن مقص الرقابة الخفي الذي يجري بين الصفحات والسطور قد ألغاهما إلى الأبد. لم يرض هذا السلوك الإفراني فقرر تجاوز هذه السلطة بإعادة الحياة إلى البيتين، بإعادة إظهارهما. يقول إنه فعل ذلك "لوجه لا يخفى  على من له ممارسة بالعلم[8]".

لقد كان قول هذا الشاعر نوعاً من العِقاب أو القصاص الذي لا ينبغي تعطيله. هذا العقاب الذي أكملهُ الإفراني بذكر النهاية المأساوية التي آل إليها أمر القاضي، النهاية التي تعاون، القدر والخيال، بدون شك، في تدبيج نهايتها، إذ صارت بنت القاضي خادمة في البيوت بعد أن كانت تنوء بثقل حُليها.

في هذه الحادثة العابرة على الورق مفتاح هام من مفاتيح شخصية الإفراني. لقد وجدَ نفسه في وضع الشاهد على حقائق كثيرة تتعرض للضياع، كان في موقع المُحقق بالنسبة لبعضها، و في موقع الموثق بالنسبة للبعض، وفي موقع المجدد بالنسبة للبعض الآخر. أشياء كثيرة تتعرض للإتلاف منها تاريخ مراكش، بمآثيره المهمة، ومنها حقيقة الإنسان في بعديه الخيالي (الوظيفة الأدبية) والعقلي (الاجتهاد في ملاءمة الدين للحياة). في النضال لاسترجاع هذه المعالم المهددة بالضياع اصطدم مع قوى المحافظة متحالفة مع السلطة الدنيوية.

سنحاول تلمس ذلك من خلال ثلاث زاويا:

1 ـ الدفاع عن الأدب ووظيفته

2 ـ الاجتهاد في المجال الديني

3ـ الهجرة أو التصعيد.

وهي قضايا يوصل بعضها إلى بعض فلا يبعد أن يكون اشتغاله بالأدب وسبق شهرته به هو السبب الظاهري في رفض معاصريه لاشتغاله بالاجتهاد في الدين (باعتبار المحتوى الأدبي للمسلك، وهو الغزل والأخبار الأدبية الطريفة). أما الهجرة فهي نتيجة المعاناة التي سببها العنصران، الأول والثاني.

 

1 ـ الدفاع عن الأدب والوظيفة الأدبية في الحياة

اشتهر الإفراني عند الدارسين المحدثين مؤرخا من خلال كتابه نزهة الحادي في أخبار ملوك القرن االحادي. وهو كتاب لا جدال في قيمته شكلا ومحتوى. كما اشتهر بكتاب الصفوة، وروضة التعريف، في مستوى أقل. غير أن للإفراني بعدًا آخَرَ يجعله علامة متميزة في عصره على المستوى الوطني والعربي على حد سواء، يتجلى ذلك في انجازه الأدبي والبلاغي على وجه التحديد. وسنقتصر في هذا السياق الخاص على بيان فهمه لطبيعة الأدب، ودفاعه عن الوظيفة الأدبية من خلال كتابه: المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل. فعمله في هذا المجال يشكل خروجا عن التقليد الثقافي السائد الموصل إلى الرتب والمنافع. بل ربما كان مجلبة للاتهام والمضايقة.

يُعتبرُ الاشتغالُ بشرح نصٍّ غزلي من جنس الموشحات في البيئة الفقهية "المتزمتة" عملا جريئا، ليس لأن الفقهاء لا يستهلكون المادة الأدبية الدائرة حول الغزل والمجون بل لاعتبارهم أنفسهم محصنين وذوي مناعة. والحقيقة أنهم يرون في الأدب إذا ما انشغل به الغير جُرْأة على هيبتهم.  وبذلك لا يجوز ترويجه. إنها الثقافة المستوردة تحت الخطوط الحمراء، الثقافة المشطوبة التي تلوح فتقرأ خارج الشرعية. لمحوِ هذه الخطوط الحمراء رأى الإفراني أنه لابد من الرجوع إلى طبيعة الإنسان وفطرته والتحرر من التقليد وغشاوته، لابد من الاحتكام إلى صفاء السريرة وإسقاط الأقنعة.

في هذا السياق تحدث الإفراني عن دور الأدب في استكمال إنسانية الإنسان. فقال:

"كأني بمتعسف، ممتلئ الصدر بالأضغان والإحن، ينكر إكبابي على إيضاح مغفل هذه الموشحة، ويحتج بأنها مشتملة على وصف الخدود والقدود، والمبالغة في وصف الراح، وكل ذلك مما هو حرام في الشريعة[9]". ويجيب عن هذه الاتهامات مضمنا قولَ ابن الوردي: "أن الصحابة كانوا ينثرون ويشعرون، ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون[10]".

في هذه العبارة تورية تجعل الشعرَ مقايضاً للإحساسِ، فقوله: لا يشعرون، تنجذب بالسياق الخاص نحو الشعر، لذكرها مع النثر في حين أن الغرض الذي يلائم السياق العام هو الشعور أي الإحساس. فالشعر من الإنسان بموقع الشعور والحس، من يفقدْه يصرْ جماداً أو بهيمة، وهذا صريح من أول الكتاب.

"ولَعَمْرِي إِنَّ كُلَّ مّنْ لاَ يَتَعَاطَى الأَدَبَ، وَلاَ يَنْسُلُ لاجْتِلاَءِ غُرَرِهْ وَاجْتِلاَبِ دُرَرِهْ مِنْ كُلِّ حَدَبْ، مَا هُوَ إِلاَّ صُورَةٌ مُمَثَّلَهْ، أَوْ بَهِيمَة مُرسَلهْ[11]".

فالإنسان عنده حيوان متأدب، وهذه مسألة جديرة بالاعتبار لأن الأدب شيء زائد على الحاجات البيولوجية الدنيا، وإذا ما أخذنا الأدب بالمفهوم الخاص الذي يمارس في المسلك السهل، حيث يقترب مع الحرية، فإننا نفهم أن الدفاع عن الأدب هو ثورة على التزمت والقهر الفكري والعاطفي.

هذا في المستوى الأول ثم نجده يجعله مزية للتفاوت بين بني البشر؛ يرفع بعض الناس فوق بعض درجات. يقول:

"والرضا على من كُملَ نوعُ إنسانيته بخاصية الأدب، ففُضِّل بها على أبناء جنسه[12]".

وتتم هذه الوظيفة عن طريق الاختيار والنقد والتعبير والاحتجاج. ومن هنا يكون كلام البلغاء علاجاً للنفوس. يقول معدداً النِّعمَ التي حبا الله بها أهل البيان:

"وخص كلمتهم برقية النفوس، فلو رقَوْا بها مريضاً ما طرق ساحته السأم، وأدار عليهم راحَ المُلَحِ في حان الخلاعة، فاصبحوا حيارى، وترى الناس سُكارى، وما هم بسُكارى[13]".

فالأدب رُقْيَةٌ تعالج النفوس، وسَكْرةٌ بدون مسكر: "سُكارى وما هم بسكارى". يقوم الأدب بهذه الوظيفة باعتباره عملا خياليا أو تخييليا لا ينضبط لمقاييس المنطق والواقع ولا ينبغي أخذ معانية حرفيا، وقد تناول هذه القضية بشكل مباشر حين أثيرت قضية الشكوى من الدهر.

قال: "ومن الشائع عند الشعراء "لَحَا اللهُ دَهراً"، و"لَحَا اللهُ الزمنَ". وأنكرَ ذلك جماعة من العلماء" واستدلوا بالحديث: "لا تسبوا الدهرَ فإن الله هو الدهرُ[14]". يقول: وما زال أشياخنا ينكرون قول السعد في طالعة المطول: "فلقد جرَّد الدهرُ على أهلها سيفَ العدوان [15]".

وبعد إيراد الآراء المخالفة بأمانة يختار الرأي المتسامح، وهو رأي ابن عبد البر:

"ولم أرَ، في هذه المسألة، أحسنَ من كلام حافظ المغرب والمشرق أبي عمر ابن عبد البر، ونصه على حديث الموطأ، بعد أن ساق ما وقع فيه من أشعار الجاهلية والإسلام، قال: وأشعارهم في هذا أكثر من أن تحصى، خرجت كلها على المجاز والاستعارة. والفضلاء والأخيار من المسلمين استعملوا ذلك في أشعارهم على دينهم وإيمانهم، جريا في ذلك على عادتهم، وعلما بالمراد، وأن هذا مفهوم معلوم لايشكل على ذي لُبٍّ[16]".  

ولم تقف دعوته عند طلب تحرير الأدب من المعايير الاعتقادية، باعتباره فنا تخييليا، بل طالب بإعفائه من صرامة المنطق وحرفية الواقع، فقد علق بعض "علماء الفن" على قول ابن بقي:

باعدتَه عن أضلعٍ تشتاقُه

 

كي لا ينامَ على وسادٍ خافقِ

فرأوا عدم ملاءمة جعل نفسه وِساداً وكذا مباعدته له وهو يشتاقه . وممن عاب ذلك الصفدي في قوله شعرا:

أبعدتَه من بعدِ ما زحزحتَه

 

ما أنتَ عند ذوي الغرامِ بعاشقِ

قال الإفراني: "والحق أن أبيات ابن بقي في غاية الجزالة والحُسن، لكن جرت عادة الصلاح بالمناقشة، فلا تراه يسامح في شيء، و معاني الأدب محمولةٌ على الإغضاءِ "[17]. بل هي "ريْحانةٌ تشمُّ ولا تُفركُ[18]".

ولقد تجلى هذا الموقف في مجموع المتن الشعري والخبري الذي أورده في المسلك السهل، وهو متن ينبذ الحشمة الزائفة بل يشاكسها ويتحرش بها. وكان الإفراني في منحاه هذا جاحظياًّ يفهم الإنسان ويسخرُ من مراوغاته وحيله وحشمته الزائفة.

والحقيقة أن هذا الاتجاه الذي سار فيه الإفراني كان قد انتبه إلى ضرورة تنميته، باعتباره جزءً من حقيقة الإنسان، علماء آخرون مثل القاضي النواجي صاحب حلبة الكميت ومراتع الغزلان، كما سار فيه من زواية أخرى ابن قيم الجوزية في أخبار (الحمقى والمغفلين). فهناك مجال للاشتراك حول الهزل المنشط للإنسان المنبه للعلل الداعي إلى الاتعاظ. إنه الهزل الذي يراد به الجد، من بعيد أو من قريب. ومن ثم صار رقية للنفوس المريضة، وصار فرقا بين الإنسان والبهيمة.

2 ـ الاجتهاد في الدين

حين رجع الإفراني إلى مراكش بعد سنوات الطلب الطوال تصدى لتفسير القرآن، فثار في وجهه من بقي هناك من الفقهاء والطلبة ممن لم تشملهم التصفيات[19]. وهم في الغالب من مراتب متأخرة. إذ لم يخلف أحد منهم عملا يسمح له بالاندراج في صفوف العلماء. كان هؤلاء الفقهاء/الطلبة على الرأي القائل بسدِّ باب الاجتهاد لذهاب أهله، والاقتصار على الفروع والتقنيات الفقهية. وقد وصف لنا صاحب "رحلة الوافد" هذه المعركة الشرسة التي انقسم فيها طلبة مراكش إلى مؤيد ومعارض، وصفا حيا نقتطف فقرة منه:

"حين رجع (الإفراني) من فاس لموضعه بمراكش، وذلك عام ثلاثين بعد المائة والألف، وتصدر لقراءة التفسير وصحيح الإمام البخاري، اجتمعت عليه طلبة الحمراء بكثرة البحث والجدل في مجلس إقرائه وتدريسه، ورموه بالزندقة والجهل بأحكامها وعدم توفر شروطها حينئذ"، و رفعوا أمره للقاضي والخليفة (خليفة السلطان)، "وقالوا إن التفسير متى قرئ بمراكش يكون به الجوع لامحالة[20]".

تحدى الإفراني خصومه في مجلس الدرس، كما تحداهم بالتأليف، فألف كتابه: فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث، داحضا ادعاءاتهم. وحين انتقل الأمر إلى العنف و"المضاربة" في مجلسه تدخل الحاكم فأوقف "قراءة التفسير" وأمر بـِ "الاقتصار على ما يتعاطاه الناس". "و امتثل أمره[21]".

إن عبارة ما يتعاطاه الناس هي التي تشغل بالنا في هذا السياق. فلم يكن البحث العلمي  في يوم من الأيام مما يتعاطاه الناس، أو مما يقننه الحكام والباشوات. إن هذا الاضطهاد الذي تعرض له هذا العالم الشاب المتحمس الصبور هو نفس الاضطهاد الذي تعرض له الشيخ، بل شيخ شيوخ الإفراني، في عاصمة العلم فاس. مع اختلاف في أسلوب المعالجة تبعا لطبيعة المدينتين: القتل بالسم أو بالهراوة. "تعددت الأسباب والموت واحد"، كما قال الشاعر.

  لم تَبقَ أصداءُ هذه الخصومة داخل أسوار مراكش بل ترددت في أماكن أخرى، خاصة حيث يوجد علماء مراكشيون. و ممن تأثروا بها تأثرا قويا قاضي تارودانت محمد بن أحمد التفنگلتي المراكشي الذي ذكَّره حال الإفراني في مراكش بحال النبي، أولَ دعوته، في الوسط الكافر، فقال: "بِحَسْبِ طلبةِ الحمراءِ وعلمائها، لو كان الإنصاف، الوقوفُ عند أَماراتِك، والاستفادةُ من لَحْظِ إشاراتك، لا ما بلغنا واستفاضَ ذكرُه هنا عنهم معك، ومن تمشدقهم عليك، وتجلدك وصبرك، فلا حول ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم: "لم يأتِ أحدٌ بما أتيت به إلا عُودي[22]"".

لم يكن في وسع الإفراني أمامَ تحالف القوتين (الفقهاء والسلطة) إلا أن يسلم أمره لله ويطوي أوراقه، وكان من ضمنها جذاذاتُ كتابه: نزهة الحادي، ليعيش أزمة خانقة مادية ومعنوية.

"ولما ألمتْ بنا تلك المصيبة الفادحة، ورمتنا بأسهمها التي في عِرض الدين قادحة...نبذتُ تلك التقاييد بزوايا الهِجران، حتى نسجت عليها عناكبُ النسيان، وصرتُ إذا وجهتُ الوجهةَ لإكمال تلك "النزهة" أنشدَ لسانُ الحالِ والجدِّ العاثرِ:

هـذا زمانُ دراهـمٍ لا غيرِها

 

فـدعِ الدفاتـرَ للزمـانِ الفاتــرِ"[23]

3 ـ الهجرة أو التعويض

لاحظنا في البداية كيف أن الإفراني كان يجد في التاريخ الأندلسي وتاريخ الأدب العربي عموما بديلا عن الواقع الذي لم يكن يستجيب لطموحه. ولا شك أن ظروف "الغربة الجالبة للمرء غاية الكربة"، كما قال في المسلك، كانت حاضرة ومؤثرة. كان من المتوقع أن تخف، ويعود إليه الاطمئنان بالرجوع إلى مراكش، غير أن أمله قد ضاع مع الأسف وتضاعفت غربته فانفصل، ولو مرحليا، عن واقع تنكر لمواهبه، وسافر في الفضاء الواسع الذي لا رقابة لأحد عليه. كانت هجرته في اتجاهين: 

3 ـ 1 ـ هجرة إلى عالم التصوف ورجاله،

 في هذا الإطار ألف كتابه: صفوة ما انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر. (1137هـ). ويمكن أن يساعدنا هذا السياق في فهم تفتيشه عن المخفي تحت الخطوط الحمراء كما تقدم. إن صوفية الإفراني ليست صوفية استسلام وهروب من الواقع، بل هي إدانة لهذا الواقع نفسه. ويفهم من بعض مؤلفاته، من الدرجة الثانية، أنه حاول أن يجد منطقة للالتقاء مع القوتين المتحكمتين (الفقهاء والسلطة)، قبل أن يستسلم لهذه الهجرة الروحية والزمانية، وكان من آثار ذلك تأليف كتابه روضة التعريف بمفاخر مولاي إسماعيل بن الشريف. (1133هـ) . ولكن يظهر أن الڤيتُو كان أقوى. وهو كتاب اعتبره الإفراني من باب المدح المشروع. ثم ألف كتابه: فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث. (1134)، ولكنه اكتشف، مرة أخرى، أن المسألة ليست مسألة فتوى وإقناع بل هي مسألة مصالح تُعمي وتُصم.

و في إطار هذا التوجه وهذا الواقع الذي فُرض عليه تَـقوَّت، من جديد، علاقته برجال الزوايا خاصة زاوية أبي الجعد، وكان على معرفة سابقة برئيسها محمد الصالح االشرقي، إذ هو صاحب أقدم نسخة من نسخ المسلك السهل؛ انتهى من نسخها بعد أسبوعين من انتهاء الإفراني من تبييض الكتاب، فلعله كان زميلا له بالمدرسة الرشيدية.

إن توجه الإفراني نحو التصوف ورجاله هو هروب من رجال أعمت الدنيا بصائرهم، "ابيضت لحاهم واسودت قلوبهم"، كما قال في مقدمة الصفوة.

3 ـ 2 ـ الهجرة إلى زمن الأدب والثقافة في بلاط المنصور.

وحين نتأمل تواريخ مؤلفات الإفراني نلاحظ أنه أَلَّفَ، في ظلِّ أزمتِه، اثنين من أهم كتبه، وهما معاً في تاريخ القرن الحادي عشر: أحدهما في التاريخ السياسي (النزهة) والثاني في التاريخ الثقافي (الصفوة). وبمقارنة الطريقة التي تحدث بها الافراني عن عهد المنصور الذهبي ومجده ومحيطه العلمي ، في النزهة، بالطريقة التي ألف بها كتاب روضة التعريف نقتنع، لا محالة، بأن الرجل كان قد رحل بكل كيانه الفكري والعاطفي عن العصر الذي يعيش فيه جسديا، العصر الذي  تنكَّرَ لمواهبه كما تقدم.

إن تتبع الحوار بين الإفراني وواقع عصره هو الكفيل بتفسير اهتماماته العلمية وتوجهه في التأليف بعيدا عن أي اعتبارات إقليمية أو غيرها.

 

 


 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر و المراجع

اعتمدنا في هذا البحث على خلاصات بحثنا في كتابنا: الإفراني وقضايا الثقافة والأدب في مغرب القرنين 17و18 . طبع الدار العلمية للكتاب بالدار البضاء 1992. ولم نحل إلا على الكتب الثلاثة الأساسية من مؤلفات الإفراني، وهي:

ـ المسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل. طبعة وزارة الوقتف والشؤون الإسلامية. الرباط 1997.

ـ نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي. مطبعة دار الطالب. الرباط.

ـ صفوة ما انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر. الطبعة الحجرية.

ولاستكمال هذا العرض حول الإفراني والثقافة و مراكش انظر مقالنا: الإفراني والحالة الثقافية بمراكش في عصره. ضمن أعمال ندوة: من جامععة ابن يوسف إلى جامعة القاضي عياض. مجلة كلية الآداب بمراكش . العدد6/1990.

 



الحواشي

[1] ـ ألقي هذا العرض يوم 24 أبريل 1997 بدار الثقافة بمراكش ضمن أنشطة ودادية سيدي بن سليمان الجزولي.

[2] ـ يقول محمد بن الشريف العلوي (من مؤسسي الدولة العلوية) في رسالة إلى محمد الحاج الدلائي:

"لم يعرفكم أهل المغرب إلا بإطعام قصاع العصائد، وهجوِ بعضكم لبعض بما لا يسمع من بشيع القصائد، أما العلوم فقد أقررنا لكم فيها إنصافا بالتسليم، لو قصدتم بها العمل وأجرَ التعليم". (الاستقصاء 7/17)

[3] ـ لا تتسع هذه المناسبة للحديث عن الظروف العامة التي هيأت ظهور نهضة علمية وأدبية في هذا العصر، وقد عرضنا لبعضها في كتابنا الإفراني وقضايا الثقافة...الخ. ومن أهم ذلك جهود الزاوية الدلائية وتوجهها العام، وحالة الاستقرار التي وفرتها الدولة الجديدة على طول عهد المولى إسماعيل.

[4] ـ انظرها في البدور الضاوية 573. وفي كتابنا الإفراني 20-21.مقتطف منها.

[5] ـ "ولا شك أن هذه القصيدة كانت ذات صدى في العصر عند أبناء الزاوية، إذ لم يمض غير وقت قصير حتى تصدى لها عالمان دلائيان بالشرح في مجلد كامل، وهما محمد الشاذلي ومحمد البكري. والقصيدة تصور الضياع والخسارة التي لم يستطع اليوسي أن يدارِيَها برغم ما كان يعلم من صرامة موقف رجال الدولة الناهضة بهذا الصدد". (الإفراني 18).

[6] ـ الإفراني ص

[7] ـ نزهة الحادي 114.

[8] ـ الصفوة 97.

[9] ـ المسللك السهل ص143.

[10] ـ نفسه .

[11] ـ نفسه 53.

[12] ـ  نفسه 53.

[13] ـ المسلك السهل 52.

[14] ـ نفسه 268.

[15] ـ نفسه 268.

[16] ـ المسلك السهل ص 269. وقد أورد ابن عبد البر أشعارا للصحابة والتابعين مثل سابق البربري الذي قال:

المرء يجمع والزمان يفرق   ويظل يرقع والخطوب تمزق

ثم انتهى إلى القول: "والأبيات في المعنى لأهل الخير والصلاح كثيرة. و مرة يضيفون ذلك للدهر ، وللزمان. وكل ذلك محمول على ما فسرنا".(نفسه 270).

[17] ـ المسلك السهل ص 170. وأنشد بالمناسبة:

فسامح ولا تستوف حقك كله   وأغـض، فلم يستوف قط كريم

[18] ـ المسلك السهل ص 168.

[19] ـ انظر مقالنا في مجلة كلية الآداب مراكش.

[20] ـ رحلة الوافد 196.

[21] ـ نفسه.

[22] ـ رحلة الوافد 195.

[23] ـ نزهة الحادي 310.