الخطابة والسياسة
أخلاقٌ وتقنيات
أجرى هذا الحوار الأستاذ حسن نجمي.
ونشر
بجريدة: الاتحاد الاشتراكي.
في العددين: 2 ، 4/10/1999
الخطبة والخطابة والخطاب
ضمن اهتماماتنا بمكونات
الثقافة السياسية بالمغرب لا نعير اهتماما كبيرا للخطبة السياسية، سواء على مستوى
البحث العلمي أو على المستوى الإعلامي. في نظرك الأستاذ العمري، ما هي مقومات
الخطبة أنت التي درستها في أكثر من مناسبة، وكرست للخطبة في الثقافة العربية
الإسلامية القديمة كتابا كاملا؟
أقترح تعويض كلمة خطبة بكلمة
خطابة فنتحدث عن الخطابة السياسية.
هل تطرح كلمة خطبة مُشكلا؟
لا، لا تطرح مشكلا بالنسبة للمتمرس
بالدرس البلاغي، المتمرس الذي يطلق الجزء ويريد الكل، فيقول: القصيدة العربية
الحديثة، وهو يريد القصيد، أو الشعر الحديث على العموم، ويطلق خطبة ويريد الظاهرة.
ولكني أفضل، مع ذلك، ألا يرتبط ذهن القارئ بالخطبة الشفوية التي تلقى في مُستَمَع
حاضر عيانا على الطريقة الكلاسيكية.
إذن كيف توفر كلمة خطابة الخروج من
هذا المفهوم؟
بدل التفكير في الخطبة كحدث ننظر
إليها كوظيفة من وظائف القول. كل قول يهدف إلى التأثير والتفعيل في المسافة
الواسعة الواقعة بين التخييل والبرهان سواء كان شفوياً أو مكتوباً فهو قول خطابي.
الخطابة هي كل قول شفوي أو مكتوب، أي كل قول موجهٍ إلى متلقٍّ مستحضر عيانا أو
افتراضاً، المهم هو الاستحضار. هذا من جهة، وأريد، من جهة أخرى، الابتعاد عن كلمة
"خطاب"، حيث نقول مثلا: الخطاب السياسي الرأسمالي أو العربي أو الإسلامي
فيتجه الذهن نحو المحتوى. الخطابة منطقة بين الخطبة والخطاب، الخطاب أوسع والخطبة
أضيق مما نريد. الخطابة ملتبسة بين النتاج الكلامي ووصفه (أي البلاغة)، بين النص و
التقنية. و لذلك تلاحظ صعوبة ترجمة كلمة "ريطوريك" في التقليد الغربي،
إلى اللغة العربية، إذ تترجم أحيانا ببلاغة وأحيانا بِخطابة، فهي تترجح بينهما حسب
السياق.
الخطابة السياسية استشارية
هذا بخصوص كلمة خطابة، فهل
هناك، بالمناسبة، لَبسٌ أو ضرورة توضيح وتخصيص بالنسبة للسياسة حين تُقرن
بالخطابة، فيقال: "الخطابة السياسية".
أعتقد ذلك.. أعتقد أن كلمة
سياسية حين تقرن بكلمة خطابة تستدعي بدورها بديلا لها وهو التشاور والاستشارة،
فالخطابة السياسية تقايض بالخطابة الاستشارية أو المشورية حسب ترجمة القدماء لكلام
أرسطو. فمن المعلوم أن أرسطو قسم الخطابة إلى مشاجرية (وهي التي تجري في المحاكم
وتنظر في الوقائع الماضية) ومشورية أو استشارية (وهي التي تجري في الجمعيات مثل
البرلمان وتنظر في القضايا المستقبلية) وتثبيتية (وتلقى في المحافل العامة للتحسين
والتقبيح)، والصنف الأول أقرب إلى المنطق والجدل والثالث أقرب إلى الأدب والصنف
الثاني المشوري في موقع بينهما. إن اقتران كلمتة بلاغة بكلمة سياسة يغير معنييهما
معا ويجعلهما أكثر غنى ومرونة: الخطابة تنجذب نحو البلاغة والسياسة تنجذب نحو
التشاور.
فالمفروض
في الخطابة السياسية أن تكون حواراً في القضايا التي تهم تسيير الحياة المدنية
للناس والدول. إن الذي أفسد سمعة الخطابة العربية هو هيمنة الخطابة المنبرية
الوعظية والتوجيهية طول عصور الانحطاط. وقد تحولت سلطة المنبر الديني إلى المنبر
السياسي. فصار الناس لا يفكرون في الخطابة إلا من هذا المنظور السلطوي الذي يستبدل
التشاور بالترغيب والترهيب، أي بحديث العاطفة من إغواء وتهديد. وحين بدأت مرحلة
الحوار الديمقراطي كان مدخله من بوابة الغش والتزييف…الخ.
إن
الخطابة لكي تكون سياسية بمعنى الكلمة لابد أن تكون استشارية و لااستشارية حقيقية
مع الاستبداد والتزوير. فهل توجد لدينا فعلا خطابة سياسية؟
من أين نبدأ إذن…؟
طبعاً لا يمكن الانتظار حتى توجد
سياسة مدنية لكي تكون الخطابة استشارية بل ينبغي النضال حالا من أجل خطاب بمصداقية
خطابة منطقية أخلاقية بالمفهوم الذي طالب به ابن رشد. ومن هنا يأخذ البحث العلمي
منحى إيجابيا في دعم المسار الإيجابي وكشف الانحرافات التضليلية و القمعية معا، إن
عظمة أفلاطون و أرسطو تعود في جانب كبير منها لمقارعة الخطاب المغالط التضليلي.
هل الخطابة مجرد تقنية؟
ولكن أليست الخطابة تقنية للدفاع
عن أي موقف؟ أليس هذا هو المفهوم الذي رسخه أرسطو نفسه؟ وبعبارة أخرى: يقال ضمن
العبارات الجاهزة: "لكل مقام مقال". فهل السياق مهم لدرجة يصبح معها
المقول في درجة ثانية من حيث الأهمية، أم إن المقال أيضا ينبغي أن يفعل في السياق
ويؤثر فيه؟
سأبدأ من الأخير، بتوضيح حول
المقام والسياق. المقام مهم وأساسي في المستوى البيداغوجي الإقناعي لا في مستوى
المبدأ والانتماء الفكري. نسمع أحيانا، في مقام القدح، عبارات من قبيل: "فلان
لا تعول على ما يقول، فلكل مقام عنده مقال". طبعا هذا ما ندعوه انتهازية
ونفاقا، أو يدعى من هذا شأنه إمَّعة. هناك المقام الحضاري الذي يشترك فيه الخطيب
والشاعر والفيلسوف، المقام المستمد من منطق التاريخ في مساره العام. المسار العام
الذي تتخلف عنه أمم وتتقدم أمم، التاريخ لا يرجع إلى الوراء، الأمم هي التي تتقهقر
ويستلم بعضها المشعل من بعض. (هذا المفهوم للمقام الحضاري ليس ابن هذه اللحظة
للجواب على سؤال طارئ بل هو من التعديلات التي أغنيت بها تصوري في كتاب بلاغة
الخطاب الإقناعي وهو مدون بين أيدي الطلبة منذ سنوات). وهذا يعيدنا إلى الصيغة
الأولى للسؤال، نقول:
صحيح مازال تعريف أرسطو
قائماً، ولكن هذا التعريف لا يمثل غير الخطوة الأولى من برنامج أرسطو نفسه. أما
الخطوة الثانية فهي الإيمان بانتصار الخير والعدل والجمال كما يشهد تاريخ التقدم
البشري وهذا ظاهر في بلاغة أرسطو، يكفي أن تجد المعاني الشريفة من يدافع عنها بنفس
الكفاءة لكي تنتصر على المعاني الخسيسة، لا تمر المعاني والقيم الخسيسة والرجعية
إلا عبر التدليس والتضليل، ولذلك يلزم الحركات الخيرة والديمقراطية عدم الخوف من
الخطابة، وعدم الاستهانة كذلك بها بل ينبغي اتخاذ العدة. إن الخطابة حسب عبارة ابن
رشد هي إحدى الخيرات التي متع الله بها الإنسان مثل الصحة والجلد والسلطان واليسار،
فقد ينفع بها الإنسان أبناء جلدته إذا تحرى العدل، ويضرهم إذا مال عن العدل وجار،
بل يشبه الخطابة بالطب فهو يقدم وسائل الإبراء وليس الإبراء ضرورة. ولا شك عندي أن
ابن رشد كان يقرأ ارسطو مستحضرا علم الكلام وتصور البلاغيين الأوائل مثل الجاحظ
لدور الكلام في رد الحيل المضللة. وقد اشتهر في هذا المجال قول الجاحظ: "لولا
الكلام …[لما] بانت (أي
تميزت) الحجة من الحيلة والدليل من الشبهة".
ربما يتعلق الأمر بأفكار نيرة في
الموضوع ولكنها تظل جزئية بالنظر إلى ما نحتاجه اليوم من صياغات منسجمة مقنعة ذات
بعد فلسفي. فهل هناك مجال للحديث عن تخليق الخطاب في الأجواء الليبرالية الحديثة؟
هذه هي مهمة العلماء والمثقفين،
وقد كانت فيما مضى مهمةً للأنبياء والمصلحين، أتذكر هنا استشهاد أبي علي اليوسي في
مقدمة إحدى رسائله التي واجه بها الملك إسماعيل (إن لم تخني الذاكرة) بحديث نبوي مجمل معناه أن علماء أمة محمد
كأنبياء بني إسرائيل. يالها من أمانة ثقيلة رغب عنها أكثر العلماء!
وأعود
فأقول: النقص موجود في المجال العربي، هذا صحيح، لقد ظلت أفكار ابن رشد والفارابي
والفلاسفة على هامش الفكر البلاغي فيما يخصّ تخليق الخطابة. والبلاغة التي هيمنت بل
الوحيدة المعروفة هي بلاغة جزئية بلاغة صور التعبير، بلاغة الشعر. والأمر بخلاف
ذلك تماما في الثقافة الغربية التي أعادت إلى البلاغة مجدها. فمن الطريف مثلا أن
نجد علماً من أعلام نظرية البلاغة والحجاج في العصر الحديث، أقصد بيرلمان، يكتشف
بلاغة أرسطو ـ كما يحكي في مقدمة إمراطورية البلاغة ـ من خلال البحث عن منطق
للقيم، ينتهي إلى أن منطق القيم الوحيد الممكن هو الذي شرعة أرسطو في فن الخطابة،
فأرسطو حين قسم الخطابة إلى مشاجرية (قضائية) واستشارية (سياسية) وتثبيتية
(تقويمية) كان يفكر في الدفاع عن قيم العدل والخير والجمال على الترتيب.
إن
أشهر كتاب وأقدم كتاب في قضايا الخطابة العربية وثقافة الخطيب هو كتاب البيان
والتبيين للجاحظ، هو كتاب أنتج في سياق الدفاع عن الدين بالنظر العقلي، أي في سياق
الجدل الخطابي، كما سبق.
الديني والسياسي:
أية علاقة؟
عندما نقرأ تاريخ الخطبة السياسية
في المغرب، خاصة خطب الحركة الوطنية المغربية، نجد دائما تقاطعا بين البعدين
السياسي والديني. وأظن أن الأمر يعكس طبيعة النسق الفكري والثقافي السائد آنذاك،
لكن أيضا ربما كان الأمر يتعلق باستحضار نموذج الخطبة في التراث العربي الإسلامي.
من المعروف أن الخطابة هي الأداة
الأولى المثالية بالنسبة للدعوات، ومنها الدعوة الدينية وقد احتلت الخطابة في
الإسلام، كما مضي، مكانة خاصة باعتباره جزءاً من العبادة. وحين تراجع الصراع
السياسي حول الخلافة والجدل حول الدين انكمشت الخطابة وانحصرت في المجال الديني في
خطب الجمعة والعيدين وجلسات الوعظ. فالنموذج الذي كان مهيمنا معجما ومحتوى في
العربية هو هذا النموذج. أضف إلى ذلك أن الحديث الديني يلعب دور التأطير الوجداني
للخطبة في مقدمتها وخاتمتها على الأقل: الحمد والدعاء والاستغفار إلى آخر ما هنالك
من المعاني التي يلجأ إليها الخطيب لكسب ثقة المخاطبين وتعاطفهم السياسي والديني
ناصحا أو مخادعا.
وفضلا
عن ذلك فإن الدين كان أحد وسائل النضال ضد الاستعمار في المغرب خاصة حين لجأ، أي
الاستعمار، إلى محاربة العَربية متوسلا بالخصوصيات الإثنوثقافية.
أما
اليوم فإن المعاني الدينية كثيراً ما استعملت من طرف خصوم الديمقراطية. …وهروبا من كيد المكفرين
والمنفرين صار إدخال العبارات الدينية في الخطاب نوعا من التقية بل الاتقاء، الذي
قد يصل أحيانا إلى الهجوم من أجل
الدفاع، صارت هناك مزايدات مفهومة للجميع ومشروعة أيضا ما دام الأمر يتعلق بأقنعة
مصنعة أو مستوردة.
ومع
كل هذا فإن الخطاب السياسي إجمالا في المغرب أكثر واقعية منه في كثير من البلاد
العربية حيث تهيمن الذاكرة على العقل فتقطع صلة الحوار بينه وبين الواقع. على أن
الازدواجية صارت واضحة للعيان.
الخطبة الحديثة
والزخرف البديعي القديم؟
الخطيب السياسي القديم كان له حرص
على تزيين خطبته بالمحسنات البلاغية والبديعية. فهل ترى أن هناك حاجة لذلك في
إنتاج الخطبة بالنسبة للخطيب المعاصر؟
الخطبة السياسية العربية القديمة لم
تكن نتاج مجتمع ديمقراطي تشاوري كما كان عليه الحال في المجتمع اليوناني. وإنما
كانت نتيجة تناحر، كانت الكلمة فيه تؤخذ بحد السيف (وكنا أوضحنا هذه الإشكالية في
كتابنا في بلاغة الخطاب الإقناعي منذ أكثر من خمس عشرة سنة). ولذلك كانت النماذج
الحوارية الاستشارية في ذلك التراث قليلة أو زائفة، أي قائمة على حوار شكلي ظاهري
يطل السيف والعنف من تضاعيفه، من نمط خطبة ابن المقنع في جلسة التشاور حول عقد
ولاية العهد ليزيد بن معاوية، حيث رد على المتشككين بخطبة قصيرة تكاملت فيها
الكلمة والإشارة، قال، فيما أذكر: "أمير المؤمنين هذا ( وأشار إلى معاوية)،
فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد)، فمن أبى فهذا (وأشهر سيفه)"، وهي خطبة نالت
إعجاب المستشير (طالب الاستشارة)، معاوية بن أبي سفيان فقال له: اجلس فإنك سيد
الخطباء. (اسمح لي أن أتذكر هنا، بين قوسين، أحد الاجتماعات العربية في القاهرة
بعد النكسة حيث دخل الرؤساء العرب قاعة الاجتماع مدججين بالسلاح فرفض المرحوم
الملك فيصل " التشاور " معهم وهم مدججون بالسلاح، وربما غادر القاعة ولم
يعد إليها إلا حين وصل المرحوم جمال عبد الناصر، بعد مفاوضات، إلى حل وسط معهم بأن
علقوا أسلحتهم على جدران القاعة. هذا الخبر الذي قرأته في الصحافة وقتذاك ما انفك
يذكر بمجلس عمرو بن هند في استقباله لعمرو بن كلثوم…
ولذلك
فأكثر الخطب السياسية خطب منافرة ومفاخرة قوامها الوعد والوعيد، أي أنها تنتمي إلى
ما دعوته في مناسبة سابقة "الإقماع" في مقابل "الإقناع". وهي
(أي الخطب السياسية العربية) إن لم تكن إقماعاً كانت استمالة ومداهنة للأصحاب
والأتباع كخطب أبي حمزة الخارجي في أصحابه. ولذلك فإنها تمتح من ديوان الشعر
العربي القديم في غرضيه الرئيسيين المدح والهجاء.
لهذه الأسباب اعتمدت
الوسائل التحسينية أكثر من اعتماد العناصر الحجاجية، على نحو ما نقرأ ي خطب
الحجاج. وقد اعتبر ابن رشد هذه الوسائل التزيينية بالإضافة إلى الوسائل
السيكولوجية المقامية عناصر خارجية غير معتبرة في "عمود البلاغة" الذي
يرجع إلى الوسائل الحجاجية التصديقية الشبيهة بالبرهان. وقد حذر القدماء أنفسهم من
كثرة المحسنات حتى لا يؤدي ذلك إلى ظهور التكلف.
من
الأكيد أن هناك ضرورة لقدر من التوازن والتناغم خاصة حين يتعلق الأمر بالإلقاء
الشفوي للخطبة كما أن وسائل التمثيل و التشخيص ذات تأثير واضح قديما وحديثا.
أما بالنسبة للحديث والحداثة
ـ ونربط هنا مع شطر من ديباجة السؤال الذي بدأ به هذا الحوار ـ فيمكن القول بأن
هناك فراغاً وحاجة.
يتجلى
الفراغ في أننا نجد اهتماماً بالقول التخييلي الشعري والسردي والمسرحي والسينمائي
كما نجد اهتماماً نظريا محدوداً بالمنطق في بعديه البرهاني والجدلي ولكننا لا نجد
اهتماماً نظرياً أو تطبيقياً ملموساً في مجال تحليل القول الخطابي عامة والسياسي
خاصة. وهو الذي يهمنا أكثر من غيره في هذا الظرف.
الخطابة معلومة كالمجهولة!
هل هناك أسباب خاصة ملموسة يمكن
إرجاع عدم الاهتمام إليها، هذا ما توخيته بالسؤال التمهيدي؟
يبدو أن هذا الميدان صار من شدة الجهل به
كالمعلوم بالضرورة الذي لا حاجة إلى بذل الجهد في البحث عن آليات علمية لتناوله… الخطابة هي الخطابة … الكل يخطب؛ العالِمُ والجاهل، فليست لهذا المجال خصوصية الشعر والسرد
حيث تكون للشاعر والسارد والسينمائي صفة اعتبارية مميزة اجتماعيا. ونظراً للإحساس
بإباحة الموضوع للبرلماني والمرشح للمجلس البلدي و كل متسلقي السلم الاجتماعي عن
جدارة أو بدونها ساد الإحساس بعدم الحاجة إلى تأمل هذا الخطاب وكشف آلياته، ولعل
أكثر الخطباء يعيشون بحال السيد جوردان الذي اكتشف فجأة أن كلامه العادي البسيط
نثر! لا أعتقد أن السيد "س" وهو يخطب في جمع من المواطنين في قرية
"ص" يضع في اعتباره أن كلامه يستحق أن يكون موضوع دراسة و تحليل من طرف
الأكادميين الذين لا ينازعونه لا في مقعده ولا في مركبه، ولو فكر في ذلك أو واجهه
في وسائل الإعلام التي تصل إليه لربما غير شيئا في سلوكه. وَ حين يتقاطع
الأكاديميون في الدراسات التداولية والسميائية عامة مع الخطاب السياسي فإنهم
يكتفون بما تقدمه الكتب من أمثلة مجتلبة من "الكواكب البعيدة"، وكأن تلك
النظريات مصنوعة للمجتمعات المتقدمة التي توفر ظروف الحوار الديمقراطي…و لامجال فيها لحجج السيد أحرضان أو شواهد السيد عرشان، و
الواقع أن ما يقدمه هؤلاء الزعماء أجدر بالتحليل و الدراسة، ونفض الغبار، حتى لا
تعمى الأبصار.
أخشى ألا يكون هذا الاغتراب
علمياً بحثا…
الجانب العلمي فيه قوي وذلك
بسبب غياب هذا المبحث عن مقررات الجامعة من جهة وتخلف الدرس البلاغي القائم من جهة
أخرى… ولكن هذا لا يخفي جانب أزمة الثقافي والسياسي في ممارسة العلماء
والمثقفين في المغرب خاصة في المؤسسات الجامعية، فالخطاب السياسي كما هو حال
الخطاب حول الجنس لم يطَبَّع بعدُ، أو لم يطبع بما فيه الكفاية، لا في ذهن السياسي
ولا في ذهن العالم الناقد المناضل و لا في ذهن الجمهور، ولذلك فحين يتناول هذان
الموضوعان يُتناولان بتجاوزات، بدأنا نلاحظها بشكل ملموس في شكل فضائحية مجانية من
جهة الخطاب حول الجنس وسفسطائية تضليلية حول الخطاب السياسي. لقد اكتشف بعض الكتبة
أن هناك إمكانية لاجتلاب القراء أو ضرب الخصوم من خلال سحر الكلمة والصورة…
إننا
ننتظر أن يظهر عندنا السياسي الذي يستطيع الابتعاد عن ذاته ليتأملها مع الناس من
خلال نقدهم له بالكلمة والرسم، كما ننتظر أن يوجد عندنا الصحفي المثقف في المستوى
العالي، الصحفي القادر على كشف المغالطات وإبطال الأحابيل والفخاف الذي ينصبها
الخطاب لجمهور القراء في حواراتهم وكتاباتهم وخطبهم المباشرة فضلا عن الاحتراز من
الوقوع في إغراء الكلمة.
الحاجة قائمة دائما في أي
مجتمع، فهل هناك خصوصية للحظة؟
لا ريب في ذلك! اللحظة استثنائية
لقد توسع مجال القول كما وكيفاً بشكل يتطلب الإسراع بمواكبة المنتوج الخطبي
بالتحليل والنقد: خفت الرقابة الأمنية العمياء التي تسوي بين الماء
والخشبة، بل تنفي الماء وتحتفظ بالخشبة، وينبغي إزالة مبررات عودتها بقيام عملية
حضارية برقابة علمية وحضارية. و حين استعمل كلمة حضارية إنما أفر من سوء تأويل
كلمتي "أخلاقية" و "وطنية" اللتين نفتقر إلى محتواهما.
ألا يمكن الاقتراب من الواقع اكثر؟
هل هناك أمثلة و وقائع ملموسة؟
كثيرة جدا، أقف عند نموذجين:
أحدهما شفوي والثاني مكتوب. هما آخر النماذج التي تقتضي الكثير من النقد في نظري:
أولهما:
الحوار الذي جري بين مجموعة من الصحفيين والسيد عبد الله القادري الكاتب العام
للحزب الوطني الديموقراطي ضمن برنامج "في الواجهة" بالقناة الثانية
ويمكن أن يتخذ نموذجا لمُستوى من الحوار الذي يطرح على محللي الخطاب قبل السياسيين
ورجال القانون مسؤولية عظيمة! ربما كان في الحدث الكبير الذي رافقه ما يبرر عدم
تعريضه للنقد والتحليل على صفحات الجرائد إلى اليوم بعد المناقشة الشفوية الأولية
التي قام بها الصحفيون([1])، ولكن ذلك لا يعفي الآن من العودة إلى مثل هذا الخطاب لبيان محتواه
ودلالاته لجمهور المستمعين.
والنموذج
الثاني مكتوب وهو أيضا من آخر ما صدر:
تعليقات السيد عبد اللطيف جبرو على ما ورد في مذكرات السي محمد الفقيه
البصري الذي عنونه:" "الحقيقة أولا" لعبد اللطيف جبرو". وهذا
النص يهمني جدا وأنا بصدد تجميع ملاحظات عن حلقاته، ومن الصدف المفيدة أني كنت
أخذت معي إلى مدينة المحمدية كتابا جماعيا توصلت به من الصديق العزيز الدكتور
حمادي صمود وهو بعنوان "الحجاج من أرسطو إلى اليوم"، وفيه مادة ضافية عن
أساليب الحجاج والسفسطة فما كدت انتهي من قراءة الكتاب حتى بدأتِ الحلقات تتوالى
على صفحات الأحداث المغربية، فكنت أعود إلى الكتاب ومنه إلى مصادره وأستحث الذاكرة
على استرجاع قراءات قديمة، خاصة محاورات أفلاطون و جرجياس …
إن ما كتبه السيد جبرو
يقدم للطلبة الباحثين في نظرية الخطاب أبسط الأمثلة للانزلاقات السفسطائية وأساليب
التهويل والتقويل والإعنات استخفافا بالقارئ. وقد نضيفه مستقبلا إلى تطبيقات مادة
تحليل الخطاب (الجدل والمناظرة) تمثيلا للسفسطة. على أن اهتمامي الأكاديمي بهذا
المتن "الجديد" في الخطاب السياسي المغربي قد نُغص على المستوى الشخصي
بالبعد المأساتوي للحدث، لكونه ينطوي من الناحية السيكولوجية والأخلاقية على لغة
"الغربان والرخَم"، وعدم التورع عن إحراق غابة من أجل شجرة لم يرق لونها
أو ثمرها! وسأصوغ ما كتبت في الموضوع صياغة تصلح للنشر الصحفي قبل إثقاله بالعتاد
النظري، مع مكافحة الاندماج الذاتي في الموضوع إلى حد ما في مشروع كتيب مازلت أحلم
به في مجال الخطاب الإقناعي الحديث تكميلا لما بدأته في كتاب في بلاغة الخطاب
الإقناعي الذي كان تطبيقه على الخطابة العربية القديمة.
أضف
إلى ذلك الحرج الذي يواجهه الدارس حين يتحدث عن كلام أصحاب "السلطة" في
مجتمع غير ديموقراطي.
الصورة والموسيقى
في الخطبة الحديثة؟
قلت فيما سبق من كلامك إن
البعض اكتشف سحر "سحر الكلمة والصورة"، ونحن بصدد الخطبة أو الخطابة،
كما تشاء، نود مزيدا من التوضيح بالنسبة للصورة، ما دورها في الخطبة الحديثة؟
نعم هذه إحدى خصوصيات
الخطابة الحديثة المكتوبة. فإذا كان الجاحظ تحدث في القديم عن الإشارة باعتبارها
شريكا للفظ، ونعم الشريك. فيمكن القول اليوم عن الصورة إنها الشريك الأول للفظ في
الخطبة الحديثة. ولعل المجال الرائد اليوم في استعمال الصورة كشريك للفظ هو
الإشهار. تساهم الصورة في الخطابة الحديثة من عدة زوايا لا يتسع المقام لسردها
منها: التأطير (حجي وعاطفي) والتمرير (تلبيس ومغالطة) والتوصيل (البيداغوجي)
والاستشهاد(الإثبات). فحالة التأطير العاطفي لا تحتاج إلى بيان كثير فالتجمعات
الخطابية والمسيرات والمؤتمرات تستفيد إلى حد كبير من هذا الإطار الذي تسترجع فيه
الذاكرة، وتطلق مكنونات وتدفع شبهات. مازلت استرجع الهزة العاطفية التي انتابتني
أول مرة رأيت فيها صورة الفقيه بلعربي العلوي في تجمع للاتحاد الاشتراكي بفاس في
أوائل الثمانينات بالبطحاء بمدينة فاس وبجانبها صورة الشهيد عمر بن جلون تترجحان
فوق رؤوس الجمهور. الخطاب الذي سيأتي بعد ذلك بالألفاظ سيؤول في المسافة الممتد
بين شهيد الطبقة العاملة وشيخ الإسلام، لقد رسمت الصورتان مسافة التلقي. بالنسب
للتمرير المغالط القائم على الالتباس استحضر استعمال الصورة في مقالات عبد اللطيف
جبرو في مناقشة مذكرات الفقيه البصري وقد عرضت لذلك في مكان آخر بما يغني عن
العودة إليه. واسترجع هنا ما سمتعه في أوائل الستينات بالدار البيضاء من أحد
الهسكوريين وقد عاد لتوه من تجمع بملعب الحي المحمدي (ملعب الطاس) حيث ذكر،
والعهدة عليه، وهو حي يرزق، أنه كلما ذكر الخطيب لفظ كديرة (رحمه الله) رفع بعضهم
قدرا أسود على عمود، فصاح الجميع: يسقط. وهكذا بالنسبة لباقي الوظائف.
الإشهار يتكئ أيضا على الموسيقى، فأين
موقعها في الخطبة السياسية؟
ما يقال عن الصورة يقال عن
الموسيقى. في القديم كان الصوت الوحيد هو صوت الخطيب ولذلك أخذ كل العناية. أما
اليوم فينبغي أن نولي عناية أيضا للأصوات المصاحبة للخطبة، للموسيقى المهيئة. في
فاتح ماي الماضي بقي في مدينة فاس بعض الزملاء الباحثين من المشرق العربي، من
الخليج ممن حضروا ملتقى الشعر. الشيء الذي أثار انتباههم بقوة، وهم يرقبون
التجهيزات، هو صوت فيروز يصدح في تجمع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل قبيل انطلاق
الخطباء في إلقاء كلماتهم. هم يعرفون الكنفدرالية وعلاقتها بالاتحاد الاشتراكي
وبالتنظيمات الديمقراطية والأكثر يسارية من الاتحاد الاشتراكي، بل ربما ما زالت
كلمة اشتراكي تحيل على شيوعي وشيوع تحيل على العنف الثوري والتقشف، وفيروز لا تبدو
لهم من هذا السياق! ولكننا أخذنا وقتا كافيا لمناقشة المسار المغربي حيث يقوم
المغاربة اليوم برياضة التعود على سماع كل الأصوات كتربية سواء في السلم الموسيقي
أو السلم الفكري والأيديولوجي. سيكون من الطريف دراسة الموسيقى التي استعملت في
التجمهرات العمالية من الاستقلال إلى اليوم.
العامية والابتذال؟
هناك نقاش بين الخطباء اليوم حول
فعالية العامية في التواصل، غير أن الخوف من الابتذال يدفعهم دائما نحو
"التفصيح" . كيف يرى د.العمري موضوع الفصحى والعامية في نسج وكتابة
الخطبة؟
برغم الحاجة إلى القيام
بدراسة ميدانية تتناول عينات من الخطب و الخطباء لدى فئات الجمهور المستهدف قبل
الحديث في فعالية العامية ومحاذر الابتذال فيمكن مبدئيا النظر إلى الموضوع من
زاويتين:
زاوية
المقامات الخطابية حيث ننظر إلى الخطبة باعتبارها حدثا تفاعليا في الزمن والمكان،
فالخطبة تلقى في جمهور في زمن و مكان محددين، أي جمهور بثقافة وأسئلة محددة. وهذا
ما نسميه في البلاغة الحديث مُستمَع على وزن مجتمع. ترجمة
لكلمة auditoire
زاوية مستويات العامية و الخاصية
(الفصاحة). ونحن دائما بصدد الخطاب السياسي الذي قد يكون في جمعية ذات طبيعة
انتقائية و قد يكون في جمهور يوضع موضعها. والسؤال موجه في الغالب إلى حالة
الجمهور.
قد
يقال بأن الجمعية (البرلمان مثلا) هي أيضا خليط، نعم ولكن هذا عطب تاريخي ينبغي
إصلاحه تدريجيا و يصدق عليه في هذه الحالة ما يصدق على العامية والخليط إلى أن
يتحول إلى مستوى الجمعية المنسجمة إلي حد ما، يظهر أن الخطاب في الجمعيات يتجه نحو
الفصيح الميسر أي المدرج حيث يهيمن السكون و حذف الروابط. إلا في الحالات الرسمية
التي لا يكون المضمون هو الغرض بل الحدث في ذاته: الافتتاح الاختتام التوجيه…الخ
ينبغي
أن نعترف أن التزام الإعراب قد صار يعرقل انطلاق الخطيب السياسي خاصة في المغرب
حيث يتم الانتقال من الفصحى العالمة ذات التقطيع الصرفي الحاد، الفحصى
"المجودة" المغناة إلى العامية المشوشة بمعجم خليط وعبارات ساقطة أحيانا
من نوع "الشماكرية" و"الشفارة". هذا فضلا عن استبدال كلمات
سائرة ومعروفة في العربية بكلمات غير عربية كاستعمال الضموبيل بدل السيارة
والسبيطار بدل المستشفى…
فضلا عن عقدة "تذريح" العربية بكلمات وأنصاف جمل فرنسية. إلى آخر هذه
اللائحة غير الضرورية من المعوقات التي يحاول الخطيب التخلص منها حين يواجه مقاما
خطابيا محترما فيضطرب ويرتج عليه. يمكن أن تلاحظ مثلا كيف صارت هذه الدواخل تحول
اليوم بين جمهور المغاربيين وبين التدخل البسيط والسهل في المناقشات السياسية التي
تجري في الفضائيات العربية. بل تلاحظ قبل ذلك كيف يضطرب الناس في الشارع، في أبواب
الجامعات ودور العرض السينمائي حين يفاجئهم المكروفون. أكثرهم يقول كلمة أو كلمتين
ثم يطلب الإعفاء والرحمة، الكل مقتنع بأن اللغة الخليط غير مناسبة في التوجه إلى
الجمهور، أي للخطابة.
إن
هذا الانتقال الحاد من الفصحى إلى العامية (بمعنى الخليط المعجمى والضعف الحجاجي
والمعاني الساقطة المجافية للذوق) هو المشكل حقا. نحن في حاجة إلى لغة وسط تتلافى
الصعوبات والنقائص المشار إليها في الفصحى والعامية على حد سواء. والمسألة مرتبطة
بمحاربة الأميات (بالجمع) وكل أساليب مصادرة الإرادة والرأي.
أود أن أشير هنا إلى أن بعض
المسرحيين يزيدون الطين بلة في الوقت الذي ينتظر منهم المساهمة في الخروج من
الهجنة، يبحثون عن الفاحش والركيك والسخيف، أغلب كلامهم من قاع الخابية حيث تترسب
الأوساخ.
كيف ينبغي في نظرك تشييد الخطبة بالنسبة
للقائد السياسي؟ هل ثمة من ضوابط ضرورية أم إن الأمر ينبغي أن يكون متروكا لمزاج
وإبداعية وقدرات المتكلم؟
مع ما ينطوي عليه الأمر من
جرأة على السياسيين الذين يعرفون ما يصلح لهم أكثر من غيرهم (خاصة حين يصلون إلى
السلطة) فإن تجربة المغرب الخطابية تبين أن الموضوع جدير بالتناول ولو من زاوية
ضيقة نكون فيها معنيين ومعياريين أكثر من كوننا واصفين. يمكن للمرء أن يتحدث في
سياق الظرفية الراهنة التي يقال إن الأدوار تبودلت فيها تحت مصطلح التناوب. (وقد
قلت: "يقال" في انتظار أن تبلور المعارضة الجديدة خطابها على أسس حزبية
تستند إلى مبادئ وخطط ومخططات، وقاعدة مدنية لنتأكد من حقيقة المتبادل معه، وفي
انتظار انتخابات نزيهة تعطي الخريطة السياسية على وحهها الحقيقي).
نتكلم في هذا الموضوع متوجهين إلى مخاطب
مضمر يقف رقيبا، أو يترض أنه رقيب، وهو الحزب الذي ينتمي إليه الخطيب. فالخطيب
السياسي الحديث متحدث باسم حزب (أو دولة، ونهتم بالمتحدث باسم الحزب في انتظار أن
يتاح للأحزاب الحديث باسم الدولة). ولذلك فالجانب الفردي من خطابه محدود في
المستوى التقني (أوالإخراج) ومراقب المحتوى. الخطيب السياسي الحديث لا يستطيع، مثل
الحجاج بن يوسف الثقفي أو زياد بن أبيه، أن يقطف الثمار التي تحلو له. لا بد من
الملاءمة بين الموقف والمقعد، ينبغي ألا يتحدث المقعد نيابة عن الموقع. لأن ذلك
يعنت جمهور المناضلين الذين يستمد منهم قوته ومشروعية خطابه. وتكون المهمة صعبة
حين يحتاح الخطيب إلى إقناع الأنصار قبل الخصوم. أو يبرز في صفوففه من يتصدى
لخطابه بالتفنيد متهما بعدم التمثيلية دو أن يجد من القاعدة من يناصره، أو يضطر
إلى شراء النصرة فيفسد اللعبة كلها.
في
اللحظات الانتقالية كالتي نحن فيها يصبح تدبيج خطبة أو إجراء حوار أو التعبير عن
رأي في الأشخاص الفاعلين في الزمن الماضي، بالنسبة للمعارض القديم المتحدر من
الحركة الوطنية أمرا دقيقا بل عسيرا. فهو مراقب بتاريخ الحزب وشعاراته، لا ينبغي
أن يكون في الخطبة ما يشعر بالتنكر للتاريخ أو للشعارات حتى ما خرج منها من محك
الواقع والتطبيق وصار جزءا من التاريخ، لأن ذلك التاريخ مرصع بأسماء الرجال الذين
ضحوا بالراحة أو الروح . أولئك الذين ترفع صورهم في التظاهرات.
النقد الذاتي ممكن ولكنه ليس عملا فرديا
في هذا المجال إلا في الحدود الشخصية والذاتية، والصفح من أجل المستقبل ممكن ولكن
لا مجال للنسيان، النسيان سذاجة بل انتحار، هذه هي الحكمة التي عبد بها مانديلا
منعرجا سياسيا بزاوية حادة أكثر مما يستوعبه العقل العربي المنتقم. إعادة قراءة
التاريخ لا تتم إلا بخطى متوزانة متوازية، بتنازلات من كل الأطراف.
والواقع
هو أننا نتحدث في العراء ويتحدث الاخرون "من وراء حجاب".
ليس
من الخافي على خطباء اليوم أن عهد الشفوية قد ولى، فحتى الخطب والحوارات الشفوية
تسجل ويعاد الاستماع إليها عدة مرات فتصبح محاسبة كالمكتوب أو أشد. فالمقام العابر
يصير مقاما مُقيما، والحجة المعنتة (كبطاقة مقاوم) تكون نعمة لبضع ساعات ثم تصير
نقمة. وما ينظر إليه على أنه شأن داخلي قد يصير بتدخل وصائل الإعلام شأنا عاما.
هذا
حسب توجيهي لسؤالك نحو ما يهمنا في اللحظة الحالية، أما إذا أردنا وصف الواقع ففيه
نوادر وعجائب. هناك، كما تعلم، أحزاب "عتيدة" يصاغ توجهها بحسب آخر خطبة
"لصاحب الحزب". وهناك من يعتبر الاستماع لرئيس الحزب من باب التبرك
بالسن كما سمعت مرة على أمواج الجزيرة(بصدد الدكتور الخطيب وشركائه الجدد).
وشهد شاهد
من أهلها:
بعد صدور هذا الحوار
بشهور عديدة قرأتُ للسيد سعيد أمسكان، من قياديي الحركة الشعبية قولَه:
"لقد كنا في حزب لم يكن في الواقع حزبنا، ولقد كنا مجرد أنصار لشخص أَحَرْضانْ...فلم يكن هناك لا مكتبٌ سياسي ولا
لجنةٌ مركزية للحزب"([2]). وكنتُ
سمعتُ مثلَ هذا الكلام بعدَ الانفصال مباشرة من السيد بناصر أحجيل بعبارة أعنف
وأقذع، وكان بدور ـ حسب ما ذكر لي ـ على وشك إنشاء حزب حين طلب منه التريث إلى
إشعار آخر، فلم يأت الإشعار فيما يبدو، أو وجه إلى جهة أخرى! وأقدم من ذلك ساقتني
الظروف سنة 1977 إلى محيط "حلقة" من المثقين الماركسيين والانتهازيين
كانت تستطلع أجواء تكوين الحكومة وإمكانية ملء الخانات الفارغة في الوزارات
المقترحة على الحركة الشعبية، وكانت هذه الحركة وقتها آتية من الفراغ قاعا صفصفا
من المثقفين، وقد طلب أحدهم من الزعيم تمكين المجموعة من وثائق الحزب لصياغة
أيديولوجيا وخط سياسي واضح، فكان جواب القائد حسب ما رَوَوْه باتفاق: وثائقي هي
عمائم الرجال، كونوا رجالة.