حوار حول:
واقع الشعر وأفاق
القصيدة الحديثة
الجزء الأخير من حوار أجراه محمد المي
بمناسبة
الملتقى الأول للشعراء العرب بتونس.
ونشر في جريدة الصحافة التونسية 14/11/1997.
1 ـ تتحدث وسائل
الإعلام الغربية عن موت الشعر في زمن الرواية، ما مدى صحة هذا الرأي؟
الشعر شكلٌ من أشكال التعبير
عن جوانب من النفس الإنسانية لم يتيسر التعبيرُ عنها، منذ القدم، بوسائل أخرى.
كانت اللغة وكانت الموسيقى وكان التصوير والأساطير والسحر والأحاجي والخرافة والكهانة،
ومع ذلك، وبرغم كل ذلك، وُجد الشعر.
الشعر محاولة لدمج اللغوي في
الموسيقي في التصويري، ودمج الواقع في الحلم (السحر الأسطورة.. إلخ).
لست أدري ما الذي يجعل هذه
الحاجة التركيبية تموت في إنسان ندعي أنه أكثر تعقيداً من أجداده؟ اعتقد أن المسألة تتعلق بطرق التصريف وأشكال الاستهلاك،
التي يمكن أن نلمسها خلال الحوار.
ولست أدري هل نسير مع الغرب
بنفس الإيقاع إنتاجاً واستهلاكاً، وهل هذا أمر حتمي في مجال الفن والشعر؟
2 ـ هل نفور الناس من الشعر راجع إلى تغير
ذوق المتلقي أم إلى أزمة النفص الشعري؟
أولاً، لا أعتقد أن الناس
ينفرون من الشعر إطلاقاً وبدون قيد، العكس هو ما أكده لي هذا الملتقى. إنهم
يستهلكونه بشغف كلما أتيح لهم، سواء على الشكل الي عشناه هذه الأيام، أو بأشكال
أخرى. يستهلكونه مثلا في الرسوم المتحركة (صورة وموسيقى) ويستهلكونه في الإشهار، ويستهلكونه
في المسرح وفي مشاهد السينما.. وفي الأغنية...إلخ يستهلكونه في مجالات مختلفة
كثيرة.
والنخبة تقبل على القراءات
الشعرية والمهرجانات كما وقع في هذا الملتقى (الملتقى الأول للشعراء العرب بتونس)
وتصفق أحياناً بتفاعل وانفعال وأحيانا مجاملة وأحيانا تصفق إعفاء وطلباً للتخفيف.
فالمسألة ليست مطلقة إذن.
إذا سألت: هل تغير ذوق
المتلقي؟
أجيبك: نعم تغير
وتغير كثيراً. ويمكنك أن تأخذ الجلسة الأخيرة من الملتقى نموذجاً لتأمل علاقة
المتلقي بالأنماط الشعرية. فقد اشتملت هذه الجلسة على ثلاثة أنماط متباينة: 1) نظم
تقليدي رتيب (عمودي) يستجدي العروض، 2) وسرد أفقي مسطح ممتد (نثيرة)، 3) وبين هذين
القطبين نماذج تحاول بتفاوت تحقيق قدر من التناسب الإيقاعي والمفارقة الدلالية في
شكل ومضات في الغالب. وفي هذه المنطقة الوسطى وجد الجمهور نماذج مثيرة تجمع بين
تناسب إيقاعي ومفارقة دلالية، فتفاعل معها.
أتوقع أن يجد النمط
الثاني حظا عند قارئ متأن مثقف، وقد
يحتاج في أجود نماذجه لكي يصل إلى الجمهور إلى مخرج مسرحي مبدع، قد يحتاج هذا
الشعر حين يطول في شكل سردي إلى مَشاهد وقراء ات عدة، ولذلك فإلقاؤه في مهرجان أو
ملتقىً قد لا يكون منصفاً له.
أما النمط الأول فحضوره في
نظري للعبرة فحسب وليست المسألة مسألة وزن فقد رأيت الجمهور في الجلسة نفسها
يتفاعل مع قصيدة منتظمة الوزن. المشكل هو ألا يوجد في المنظومة غير الوزن.
3ـ قصيدة النثر هل هي تجريب أم تخريب؟
كلمةُ تخريب غيرُ مناسبة في
هذا المجال. هناك مرحلة تحول، هناك التباس في كل المجالات في المجال الفكري
والسياسي والاجتماعي فكيف نبحث عن نموذج واحد في مجال الفن والشعر؟
من الأكيد أن هناك تطرفاً
أحيانا، (من وجهة نظرنا) في التعامل مع اللغة، ومع خيال الإنسان العربي الواقعي
ومع ذوقه، ولكن هناك تطرفٌ مضاد، من جهة أخرى، من مواقع تثير الحساسية أو الشبهة
فتؤجج دعوى الرفض وتبررها حين تصدر
أحكام القيمة وتصادر حرية الآخرينز لذلك كنت حريصا، في مقدمة مداخلتي، على التنبيه
إلى ضرورة تنقية المعجم النقدي المحايد من لغة النبوة الحداثية و من التفكير
السلفي. نحن في حاجة إلى طرف ثالث يتحدث لغة علمية ذات مرجعية نظرية قوية تستمد
أسسها من الاجتهادات الكونية مُستوعبة التنويعات المحلية. إن قصيدة المستقبل
ستتنازل بشكل طبيعي عن كثير من الأشياء التي لم تعد تستجيب للحساسية الحديثة
ولكنها لن تتجاهل الإنسان في المكان والزمن إلا إذا زهدت فيه وزهد فيها.
4 ـ تطبيق
المناهج النقدية الغربية كالأس لوبية على نصوص عربية، ألا يعتبر تعسفا
وتقويلا للنص ما لايقوله؟
العلم، بخلاف الفن
والأيديولوجية عامة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، زيتها يضيء في كل مكان وُجد فيه
الأكسوجين. عدو العلم الوحيد هو غياب الأكسوجين. والغريب أن الناس لايتحدثون عن
الشرق والغرب حين يتعلق الأمر بما ينفع أبدانهم من مأكولات ومشروبات ومركوبات. بل
إن توفير هذه الحاجات كثيرا ما أغرى بأدلجة الكسل والخمول الفكري. وحالئذ تبدأ
أسطوانة لعن الغرب.
بعد هذه المقدمة أقول إن الأسلوبية، وقد اُتخِذت مثلا، مبحث
قديم جديد ينشد جديدُه أقصى ما يسمح به موضوعه من العلمية معتزا بكونه علما وصفيا.
إن المسألة بالنسبة إلينا مسألة استيعاب وقدرة على التصريف بيداغوجيا. والفهم
والهضم يتضمنان القدر الواجب من الحذر والاحتياط. فالببغائية لا تقل ضررا عن
الظلامية. وهذا موضوع واسع تطبعه الذات في كثير من الأحيان.