بلاغة الخطاب السياسي

الهوية والرسالة

محمد العمري

[ألقي هذا العرض يوم الأربعاء 26/09/2007 بدار الثقافة بالمحمدية

بمناسبة افتتاح السنة الثقافية لأنشطة مكتب فرع اتحاد كتاب المغرب بالمحمدية

ونشرت بجريدة الإتحاد الإشتراكي يوم 02/10/2007]

 

1ـ الهوية البلاغية للخطاب السياسي

يتسع الخطاب السياسي لأنواع عديدة من التناول الفلسفي والسوسيولوجي واللساني والأنتروبولوجي  حسب الزاوية التي ينظر منها الدارس: أي الثقافة التي تؤطره والأسئلة التي تقوده والمتن الذي يختاره.

غير أن الوظيفةَ الإقناعية لهذا الخطاب، وطبيعته الحجاجيةَ، تجعل المدخلَ الرئيسي إليه هو المدخلَ البلاغي،  في حين تظل المداخل الأخرى المذكورة ثانوية أوجانبية. ومن المهم، في هذا الصدد، أن المدخل البلاغي لا يستبعد المداخل الأخرى بل يوظفها ويستفيد منها في حدود ما يتطلبه إبراز الخصوصية الجوهرية للخطاب السياسي. فالخطاب السياسي ينتمي إذن إلى المجال البلاغي باعتباره خطابا ينشد التأثير والاستمالة قصد الانخراط أو الفعل.

ولا بد أن نفتح قوسا هنا لنتواصل حول ما نقصده بالبلاغة. للبلاغة معنيان: فهي في معناها الأول ممارسةٌ نصية إنشائية (تخييل شعري وحجاج خطابي)، تقوم هذه الممارسة على الاحتمال وتنشد التأثير، وذلك حسب سلم من ظهور القصد وخفائه واسع الدرجات. وفي معاناها الثاني اللغةُ الواصفة لهذه الممارسة الخِطابية، أي علم النص. فنحن إذن نتحدث عن بلاغة عامة تمتد بين قطبين: قطب التخييل الشعري وقطب التداول الخطابي الحجاجي.

ومن المعروف تاريخيا أن القطب الثاني، أي القطب التداولي، هو الذي كان يحمل الإسم الإغريقي  اللاتيني ريطوريكي أو ريطوريك (وفي الفرنسية والإنجليزية rhétorique و rhetoric ) وهو اللفظ الذي تقابله الآن الكلمة العربية "بلاغة"[1]. وقد ترجمت الكلمة إلى العربية في مبدأ الأمر بصورتها الصوتية الريطوريقا، كما ترجمت بفن الخطابة. وظل تقسيم أرسطو لهذا القطب إلى ثلاثة أجناس خطابية مهيمنا: 1) خطابة تقييمية محفلية تهتم بالتزيين والتقبيح، تلقى في الأماكن العامة، وهي أقرب إلى المجال التخييلي، وتعتبر أدبية لاعتمادها على الصور الأسلوبية، 2) وخطابة قضائية (أو مشاجرة حسب ترجمة القدماء) تجري في المحاكم، ناظرة في الوقائع الماضية من وجهة العدل والظلم، وتعتمد الأقيسة الخطابية أساسا، 3) وخطابة استشارية سياسية تنظر في القضايا المستقبلية من زاوية النفع والضرر، وتعتمد المثل بوجه أساسي.

ويمثل الخطاب السياسي مركز بلاغة الحجاج، وذلك باعتباره الفضاء اللغوي الذي تنشر فيه وتبسط كل قضايا تدبير الحياة المدنية، أي كل ما يتعلق بتنظيم حياة إنسانية جماعية، من جهة، ولكون الجنسين الآخرين اللذين يقتسمان معه الموضوع (أي الخطاب التقييمي المحفلي والخطاب القضائي) يمتدان إما نحو التخييل الشعري (التقريظ) أو البرهنة والاستدلال.

بناء على ما تقدم كان من الطبيعي أن تكون بلاغة الخطاب الاستشاري أي السياسي هي بلاغة الحوار، أي العلم الذي يتناول مكونات الحوار وأخلاقياته وآليات اشتغاله. وهي تنتمي إلى النظرية العامة للإقناع التي هي فرع من البلاغة العامة، (أو البلاغة، دون زيادة).

 ويجري الحوار السياسي داخل دائرة الممكن كما وصفناها في كتابنا "دائرة الحوار ومزالق العنف" الذي نقتطف منه الفقرة التالية:

"دائرة الحوار هي دائرةُ الممكن، دائرة ما يتطلب إنجازه أخذ "الآخر" بعين الاعتبار. متعاونا (مشاورات) أو منازعا (مناظرات)، أو منقادا دون روية (استهواء). وخارج هذه الدائرة توجد دائرة المطلق (أو المطلقات). لكل صيغة من صيغ  الحوار، أو جنس من أجناسه امتداد: ففي امتداد التشاور توجد المعرفة في بعدها التخزيني، أي نشاط الذاكرة بشكل أساسي، وفي امتداد المناظرة يوجد التأمل والاعتبار والمعرفة المنطقية والبرهانية، أي نشاط العقل بصفة أساسية. وفي امتداد الاستهواء يوجد العنف السيكولوجي والرمزي، أي نشاط الوجدان بشكل أساسي".

يجري الحوار إذن داخل دائرة الممكن، ولكنه قد ينزلق خارج الدائرة حين يصادر أحد الطرفين حق الآخر في المعرفة أو النظر أو الاعتبار (حيث يستغفله أو يستخف به). وقد يتم الانزلاق من مقام إلى مقام فيختل الحوار أو يضطرب، كما يحدث حين القفز من المشاورة إلى المنازعة، أو من المناظرة إلى الاستهواء.  وقد بينا هذه القضايا في مناسبات سابقة.

2 ـ موضوع الحوار: في ماذا نتحاور؟

موضوع الحوار والسياسي هو تحويل القيم من قيم مطلقة إلى ممارسة نسبية مقبولة وذلك بترتيبها ترتيبها في سلم الترجيح. يستحضر علماء الحجاج في هذا المجال مقطعا لطيفا من محاورة أفلاطون أوطيفرون: "

قال سقراط لأوطيفرون:

"وأي ضرب من الخلاف يولد العداوة والغضب؟ افرض مثلا، يا صديقي العزيز، أنك اختلفت وإياي على عدد، هل هذا النوع من الخلاف يعادي بيننا، ويفرق أحدنا عن الآخر؟ ألسنا نلجأ من فورنا إلى الحساب ونفض ما بيننا من خلاف بعملية حسابية؟

أوطيفرون:  هذا حق.

سقراط:

أو هبنا اختلفنا على طولٍ، ألسنا نسارع إلى القياس لنفض الخلاف؟

أوطيفرون:  جد صحيح.

سقراط:

 كما نمحو ما بيننا من تضاد حول الثقيل والخفيف بأن نلجأ إلى آلة وازنة؟

أوطيفرون:  لا ريب في ذلك.

 سقراط:

 ولكن أي أنواع الخلاف لا يمكن تسويتها على هذا النحو، وأيها إذن يثير فينا الغضب ويوقفنا موقف العداوة أحدا منا من الآخر؟ أعتقد أن الجواب لا يحضرك الآن، وعلى ذلك فأنا أبسط رأيي بأن هذه العداوة إنما تنشأ حينما يكون الخلاف هو العادل والظالم والخيِّر والشرير، والرفيع والوضيع [من الأمور]. أليست هذه نقط الخلاف بين الناس والتي نشتجر بسببها، إذ نشتجر أنا وأنت وكلنا جميعا، حينما نعجز عن تسوية وجوه الخلاف تسوية مرضية؟"[2].

فحيث يمكن إجراء قياس مادي موضوعي يكون حسم النزاع يسيرا، وإنما يتعقد الأمر حين تقاس الأشياء بالنظر إلى مواقع المتحاورين ومصالحهم، أي في المجال المدني. فحين يوضع مفهوم العدل والحرية مثلا (وقد لا ينازع أحد فيهما مبدئيا) على مائدة المفاوضات بين أطراف متعارضة المصالح مثل العمال وأرباب العمل يصبحان نسبيين: ما يراه العامل عدلا يراه رب العمل مسا بحريته في المبادرة والكسب، وتطاولا على ملكه الخاص، والعكس صحيح. وتلافيا للمواجهة العنيفة التي تضيع فيها مصالح الطرفين يبدأ الحوار بين الطرفين يعقبه تنازل متبادل. وتنتهي المفاوضات بعدل نسبي وحرية مقيدة، أي بعدل وحرية مرتبطين بالظروف المحيطة، وحالما تتغير الظروف يستأنف الحوار لتعديل الاتفاق، وهكذا. وهنا يستعين المتحاوران بالأعراف والدساتير وتجارب الأمم.

وبهذه الطبيعة النسبية يبتعد الخطاب السياسي خاصة ـ والخطاب البلاغي عامة ـ عن خطابات تحتكم إلى مقاييس عقلية رياضية أو مخبرية تجريبية ، كما يختلف عن الخطاب الديني الذي يطلب التلاؤم مع المتعالي، مع الوحي. وهو ـ أي الخطاب السياسي ـ  يقترب من الخطاب الفلسفي ويتقاطع مع الخطاب الشعري في منطقة واسعة ولكنه يختلف عنهما من جهات أخرى كما سنعرج على ذلك في نهاية هذا المقال، بعد أن نقف على بعض الإشكاليات التي يطرحها الخطاب الديني في السياق الوطني والقومي الراهن، نعرض لذلك في سياق الحديث عن الهوية.

  3ـ وظيفة الخطاب السياسي

يقول أحد الدارسين المحدثين: "إن الرهان الأسمى للخطاب السياسي ليس، كما يمكن أن يُعتقد، هو حملَ رسالة أو نشرَ أيديولوجية، أو التحريكَ من أجل فعل، بل هو تأكيد هوية خطيب من أجل تسهيل انخراط مستمَع"[3].

وهذا رأي قابل للتصديق إذا فهمناه على أساس المفاضلة بين عدة وظائف ينجزها الخطاب السياسي في سياقات مختلفة، لا على أساس إلغاء هذه الوظيفة أو تلك. ومعنى ذلك أن الخطاب السياسي يحمل رسالة فعلا، وينشر أيديولوحيا مهما كانت صراحتها، ويحرك نحو الفعل مباشرة أو تمهيدا، ولكنه يهتم أكثر من ذلك، أو بالأحرى من خلال ذلك، ببناء هويةِ خطيب أو مجموعة سياسية. ذلك أن الرسالة والأيديولوجيا حين تترجمان واقعيا تعنيان المضامين والبرامج، والمضامين والبرامج جزء من الهوية، كما أن الفعل هو المصب النهائي لكل ذلك. فالتفريق بين الرسالة والهوية اجتهاد ينطوي على تسامح من أجل بيان أهمية الهوية في الخطاب السياسي الحديث).

ولمزيد من توضيح مفهوم الهوية في هذا الخطاب نقول بأن الغرض من الخطاب السياسي هو خلق فضاء لساني يستقطب مجموعة ذات تصور مشترك (أو يخلق ذلك التصور) من أجل الفعل في الحياة الجماعية، فضاء يتعارف فيه الأعضاء ويتماسكون من خلاله (أي أن كل من يتكلم ذلك الخطاب يكشف عن ذلك الانتماء ويهيئ انتماء الآخرين). فالكيان السياسي لغة وكلام، أي خطاب، قبل أن يكون أشخاصا ومقرات ومنابر.

 ولا شك أن الاهتمام بالهوية راجع إلى أن الخطاب السياسي الحديث لا يمكن أن يكون إلا "متحيزا إلى فئة"، أي خطابا حزبيا. (فالذين يكفرون الأحزاب من السلفيين المعاصرين يعرفون ما يفعلون، إنهم يرفضون عصرا يحكِّم الناس، في حين أن الحكم لله).

 واعتبارا لهذا الطابع "التحيزي (من الانتماء لحيز معين) للعصر الحديث فإن أي خطاب يخوض في تدبير الشأن العام متحدثا من خارج المواقع الحزبية وجهات النظر الخاصة في سياق تاريخي محدد لا يعدو أن يكون خطابا توجيهيا أو وعظيا متعاليا، ولذلك يلزمه الامتناعُ عن الخوض في القضايا التطبيقية، أي في السياسة، بحيث لا يتجاوز  تحلية القيم المطلقة إيجابا أو سلبا: يمدح الخير ويذم الشر، ويترك للسياسيين تحديد المقادير والكيفيات. هذا مثلا هو المقدار المتاح للخطاب الديني في الجمع والأعياد وغيرها من المناسبات، إذ البديل لذلك (أي الخوض في الخلافيات) هو أن يؤسس كل حزب مسجده، أو يصلي البعض في المسجد والبعض في العراء كما وقع في غزة أخيرا، أو تتبادل الكلمة بين الإمام والمصلين، وقد يكون من بينهم من يفوقه علما ويختلف معه رأيا. وفي هذا السياق يفسر معنى كون الخطابات الملكية في البرلمان لا تناقش. ولا نلتفت إلى الأنظمة ما قبل الحزبية فحسابها مع التاريخ.

ومهما يكن هناك من فرق بين مقدس ومقدس؛ مقدس منزه عن الشريك والمشير؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومقدس يستعين بالمستشارين والخبراء المعرضين للخطأ والغش أحيانا فإني أتساءل  مثل ما قد تتساءلون: إلى أي حد يمكن للخطاب السياسي ألا يتموقع، أي أن يكون بدون لون؟!  (ونسمع في الواقع المغربي أحيا خطابا سياسيا سرياليا: حين يقول زعماء أحزاب إنهم سيحكمون ليطبقوا سياسة صاحب الجلالة، إنه اعتراف صريح بانعدام الهوية السياسية، والأولى بمن يقول مثل هذا الكلام أن يعلن إفلاسه).

ونظرا لأن الهويات الخطابية الكبرى في العصر الحديث آخذة في التبلور نحو ثنائيات: "يمين" و"يسار"، مع تنويعات خِطابية جانبية في أقصي اليمين واليسار وفي الوسط أحيانا، فإن تشتت الخارطة المغربية إلى ثلاثة وثلاثين حزبا يكشف عما يمكن أن يكون هناك من أزمة هوية. إذ لا تعدو هوية بعض الأحزاب رمزها الانتخابي، ثم تستعير ما سوى ذلك من الأحزاب الأخرى الأكثر تجذرا في العمل السياسي، حتى الأسماء متناسخة. هذه حال الكثير من الأحزاب التي سبق وجودُها ماهيتها. وهذه حالة شاذة الزمن كفيل بمعالجتها. ومع ذلك لا تفهم هذه (الأحزاب) سبب فشلها في إنتاج صحافة مقروءَة تتحدث باسمها أوتتعاطف معها، ولا تفهم لماذا لا تستطيع أن تكون صوتا معارضا متميزا.

والذي يثير الاهتمام أكثر في مجال الحديث عن الخطاب السياسي باعتباره فضاء للهوية هو طغيان العناصر الذاتية (الوجدانية والدينية والآسطورية...) على العناصر الواقعية (البرامج والمقترحات). حيث يكون المهم هو تنمية اَلْـ"نحن" ضد "الآخر".  يقع هذا في المنعرجات الكبرى حيث تقوم دعوى سياسية على مجموع شعارات غائية من قبيل: الثورة والإنقاذ، والتصحيح...الخ في مقابل الإفلاس والسقوط وغياب الأيديولوجية والتغريب والانحراف عن الطريق القويم..الخ وأنا أحيل هنا على بعض الألفاظ التي أنتجها الخطاب اليساري الماركسي من أواخر الستينيات وطوال السبعينيات وينتجها الخطاب الديني الآن. إنه خطاب عماده (+الذات ـ الآخر")، من ذلك مثلا أننا سمعنا في الحملة الانتخابية الأخيرة وما أعقبها من نتائج غير مرضية بالنسبة للبعض عبارات من قبيل: "كنا في مقابل تجار المال"، "من وجد أحسن منا فليصوت عليه"، "نحن نقترح أناسا صالحين وهم يقترحون الفاسدين المفسدين"، وما يشبه ذلك من عبارات تزكية الذات وتأثيم الآخر على الإطلاق، ودون تمييز. (فالعبارة الأولى تجعل الآخرين بدون استثناء تجار انتخابات فاسدين. والثانية تنطوي على تحد، أو تعجير: ليس أحد أحسن منا، وهكذا. وهذا مستوى من الخطاب الساذج الذي يَنتج ويُنتج مع الأسف في البيئة الفقيرة مادة وفكرا، وهذا مرجع نعته بالشعبوية).

هذا في الوقت الذي لا تجد، لا في خطابنا نحن ماركسيي السبعينيات، ولا في خطاب إسلاميي هذا الزمن أجوبة دقيقة عن أسئلة العصر السياسية والاقتصادية...الخ ولذلك كثيرا ما نسمع محاوري زعماءِ الحركات الإسلامية من صحافيين وخصوم يتهمونهم بغياب برنامج سياسي دقيق واقعي يتعاطى مع الإشكاليات الحية. ومن جملة الأسئلة التي تطرح في هذا السياق قضية تطبيق الحدود الشرعية. فقد سجل مرارا التباس الخطاب السياسي الإسلامي حيث يقدم هويات غامضة سياسيا ملتبسة بالخطاب الدعوي التبشيري والوعظي. إذ يتم تأخير البت في القضايا العملية والتطبيقية إلى حين الإمساك بمقاليد الأمور، إذ يجعلون تطبيق حد قطع يد السارق مثلا موقوفا لحين تحقق المجتمع الإسلامي الحق. وقس على ذلك حكم الرق فهو لم يحرم، لحد الآن من داخل المنظومة الفقهية الإسلامية بل فرض من الخارج.

وسدا لباب المهاترة لا بد من توضيح المقصود من "التلاؤم مع الوحي" الذي يصادم طبيعة الخطاب السياسي. فمن الطبيعي أن يأخذ المسلم ثقافته الدينية بعين الاعتبار، كما يفعل أي متدين بدين آخر عن وعي أو غير وعي، ومن الطبيعي أن يسعى لعدم مناقضة مقاصدها العليا ومبادئها الكبرى، ويبذل قصارى جهده (في الإطار الوطني والكوني) لإقناع محاوريه (شركائه) من ذوي المرجعيات الأخرى الدينية والدنيوية (العلمانية) إقناعا عقليا وواقعيا بجدوى مضمراته دون أن يكون بحاجة إلى التلويح بالنصوص وكشف المرجعيات. إن هذا المسعى مشروع ومحبذ، غير أنه تحدٍّ كبير يتجاوز إمكانيات الحركات الإسلامية لأسباب ذاتية واستراتيجية (ضعف أطرها والمنتمين إليها من الناحية الفلسفية والمعرفية عامة، وكذا استعجال النتائج والخوف من الذوبان). أما التلاؤم الذي يصادم روح الخطاب السياسي  فهو ما يعنيه السلفيون المعاصرون حين يرفضون استعمال الرأي والتأويل في تنزيل الأحكام مشهرين قوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم".  فهم يسدون باب الحوار حول ما يعتبرونه صريح الشرع، ثم يَعْدون ذلك لتكفير الفرق الإسلامية التي تخالفهم في فهم النصوص الدينية.

والفرق بين الخطابين في مجال الممارسة هو الفرق بين من يقول (ولو من باب التقية): نحن حزب سياسي، أو حزب مدني بمرجعية إسلامية، ولا نعتزم تطبيق الشريعة الآن لعدم توفر شروطها (ولكننا لا نشطب شيئا منها)، وبين من يقول انطلاقا من الآية السابقة: لا اجتهاد مع النص، لا بد من تطبيق النصوص على وجهها حتى ولو لم تظهر الحكمة من أحكامها، فالله أعلم بمصلحة خلقه: المصلحة ستظهر بعد التطبيق لا قبله، ولذلك لا مجال لإفساد النصوص باجتهاد عقول قاصرة.

إن غاية الخطيب من هذا الخطاب الهوياتي الذي يعطي الأسبقية للعناصر الذاتية والأسطورية هو إقامة شخصية أخلاقية ethos وطمأنة المستَمع بالانتماء إلى مجموعة من الأفكار والكلمات: ديموقراطي، لبرالي، إسلامي. ولذلك يقال بأن الهوية السياسية هي على الدوام هوية خطابية ناشئة عن تصور ذاتي (مبني): ما يتصوره الأفراد والجماعات عن أنفسهم، حين ينسجون قصصا يروونها، أو خرافات ورُئً يتداولونها، يحفظون بها البقاء إلى حين، (والمهدوية أحسن مثال في هذا الصدد). يكون هذا الأمر سهلا بالنسبة للأحزاب العتيدة فعلا، أو تلك التي استطاعت (أو حكمت لها الظروف) بأن تبقى الوريث الوحيد الذي ظل في بيت العائلة الكبيرة بعد مغادرة جميع الورثة، فيظل يقتات من الأمجاد القديمة حتى يأتي عليها: يأكل من البرذعة كما يقال. وفي الحركات المعارضة كثيرا ما يكون العنصر الخطابي الموحد لهوية المجموعة عنصرا مأساويا: تعميق الشعور بالظلم، وهو عنصر كان دائما أساسيا في مقاومة المستبدين: وهو العنصر الموحد في خطاب السلفيين حين يتحدثون عن "الطاغوت" والمستضعفين، كما كان طوال التاريخ في مركز الهوية الشيعية.

نعود، بعد هذه الوقفة المطولة نسبيا عند العلاقة بين الخطاب السياسي والديني، إلى ما وعدنا به سابقا من بيان وجه اختلاف الخطاب الحواري السياسي عن كل من الخطاب الفلسفي والخطاب الشعري. فإذا جاز القول بأن الخطاب الفلسفي هو أيضا خطاب حواري فإن الفرق بين حواريته وحوارية الخطاب السياسي، والإقناعي عامة، يكمن في أن الخطاب السياسي يتداول في  "قضايا" propositions في حين أن الخطاب الفلسفي يفحص "أطروحات"  theses. فالفيلسوف يحاور نفسه أولا عارضا ومعترضا ساعيا للملاءمة بين المعطيات في إطار نظام العقل. أما الخطيب فإن همه كله ينصب على ملاءمة أدواته الحجاجية للمقام وأحوال المخاطبين (المستمَع auditoire). على أن المسافة قد تضاءلت حديثا بين الخطاب الفلسفي والخطاب البلاغي (وفي مركزه الخطاب السياسي) نتيجة اهتمام الفلاسفة بقضايا اللغة وأساليبها في علاقتها بالتكوينات الذهنية الشعورية واللاشعورية، من جهة، وانفتاح البلاغة على المجالات المعرفية المجاورة وتناولها لقضايا الحياة المختلفة حتى صارت لغة مشتركة بين المعارف المختلفة، من جهة أخرى.

أما الخطاب الشعري فبرغم التقائه مع الخطاب الحواري السياسي في كونهما خطابين بلاغيين يقومان على الاحتمال ويرصدان تواصلا مؤثرا فإنهما يختلفان في "زاوية الاحتمال" و"قصدية التأثير". فالخطاب السياسي يدعي الصدق (الواقعية) ويحتمل الكذب والخطاب الشعري يدعي الكذب (التخييل) ويحتمل الصدق. ولا شك أن القصدية تتضاءل في الخطاب الشعري حتى لتكاد تضمحل عند قطبه الأقصى وتتعالى في الخطاب السياسي لتكون دعوة صريحة إلى الفعل: التهييج، ثم يتداخل التطابان في منطقة واسعة؛ فيخطب الشاعر ويشعر الخطيب.

أما بعد

فإن صعوبة الحديث عن الخطاب السياسي تكمن في التباس النظر العلمي بالممارسة العملية، فأنت حين تتحدث عن الخطاب لا تلبث أن تجد نفسك تتحدث عن وقائع وكيانات حية وكأنك تتخذ مواقف منها تدينها أو تنوه بها، وهذا ما لا يستسيغه المتلقون لأنه يمس مصالح عملية آنية. وقد ثارت هذه القضية عندما قدمت الفصل الأول من "دائرة الحوار" للنشر في مجلة المناهل ـ قبل صدور الكتاب طبعا ـ وذلك بطلب من أستاذنا أحمد اليابوري. فقد رأت هيئة التحرير أن تحذف الأمثلة المغربية الحية، فلم أقبل ذلك فأقصي المقال. ومن ألطف ما سمعته من الزميل العزيز الذي انتدبته المجلة لمحاورتي، بعد اشتداد النقاش بيننا في مكتب شعبة اللغة العربية بالرباط قوله: "أنت تريد أن تمارس السياسة بالعلم، وهذا شأنك". وعلى إثر ذلك هيأت محاضرة بعنوان: صور التعرض لنقد الخطاب التداولي. ألحقت مادتها الأساسية بمقال: بلاغة الحوار، المجال والحدود. مما جاء فيها:

كان يبدو بديهيا أثناء (تاليف كتاب دائرة الحوار)، أن القراء المستهدفين سيميزون تلقائيا بين التحليل البلاغي العلمي والموقف السياسي، غير أنني فوجئت بوجود من التبست عليه هذه الحدود، أو فرضت عليه الظروف تجاهلها تمثلا بالحكمة: "الباب اللي يجيك منو الريح سدو واستريح"، فوجب البيان.

وقد بينا هناك أنواع التعرض الممكنة من داخل الخطاب وخارجه، ما نعتبره وجيها وما نراه شاردا. والمقال جاهز على الأنتيرنيت، والأعمال بالنيات.



[1] ـ انظر تدقيق المسألة في كتابنا البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول. طبع إفريقيا الشرق.

[2] ـ أوطفرون. ضمن: محاورات أفلاطون. ترجمة زكي نجيب محمود. مكتبة النهضة المصرية.1963. ص 30-31.

 

[3] ـ Damon Mayaffere. Dire son identité. Etude du discours politique français aux XXsiècle. Cahier de la Méditérrané. Vol 66. L’autre et l’image de soi.

WWW.cdlm.revues.org/document.htm?id=119