(من كتاب:
دائرة الحوار ومزالق العنف
صدر عن إفريقيا
الشرق. الدار البيضاء. 2002.)
تقديم
أ ـ من أدبيات
تاريخ البلاغة الغربية أن الريطورية ("فن الخطابة" أو "بلاغة
الخطاب الإقناعي") نشأت عند اليونان من الحاجة إلى تعليم الفلاحين كيفية
إقناع القضاة بملكيتهم للأراضي التي أخذت منهم غصبا. فلهؤلاء وضع كوراكس القواعد
الأولى للحجاج، وكوَّن التلاميذ النبهاء للدفاع نيابة عن الفلاحين عديمي الحيلة.
غير أن هذه المهارة الكلامية سرعان ما صادفت في طريقها من لم يجد غضاضة في تسخيرها
لمغالطة الآخرين والإيقاع بهم (على مذهب السفسطائيين). وقُلْ مِثلَ ذلك في تاريخ
الخطابة العربية، ابتداء من سجع الكهان وخطب المتنبئيين وصولا إلى أقاويل
"المشككين" و"المُبطلين" من خصوم الدعوة الإسلامية.
وقد أدى انحراف الأقاويل الخطابية في الحالة الأولى ـ بعد
صراع بين الخطباء والفلاسفة ـ إلى ظهور ريطورية ارسطو، وهي بلاغة تجمع بين
الاهتمام بالتقنية والحصانة الأخلاقية، كما أدى في الحالة الثنية (العربية) إلى
الاهتمام ببلاغة الإقناع في إطار "البيان" والمناظرة، وهما يتكاملان في
التعريف بوسائل الإقناع وأخلاق الحوار.
ولا شك أن منظري البيان وعلم الكلام العرب قد استفادوا من
التراث اليوناني في هذا المجال استفادة كبيرة، وطوروه في اتجاه المنظومة
اللغوية/الفكرية للعرب والمسلمين.
ب ـ وها نحن اليوم
أمام مسؤولية مشابهة تقتضينا المساهمة في صيانة المكاسب الجديدة في مجال حرية
الرأي حتى لا نكون كمن يشرق بجرعة ماء يطلب بها الحياة؛ لا ينبغى أن تختلط علينا
الأمور وينزل "الحوار" نحو العنف بشتى أشكاله اللغوية وغير اللغوية،
فيكون سوء الاستعمال مبررا للحجر.
كان ازدهار الخطابة عند اليونان نتاجَ شكل من أشكال
الديموقراطية، وكان ازدهارها في هذا المجال العربي نتاجَ الصراع حول الخلافة من
مراكزَ ذاتِ ولاءات متعددة، ثم كانت نِتاجَ نُضج فكري يسمح بتعدد المذاهب ولو في
إطار التعاقب على الهيمنة حسب الأحوال السياسية (بين السنة والمعتزلة خاصة).
واليوم نعيش وضعية تكاد تجمع كل تلك العناصر، فقد عرفت جهات
من العالم العربي منذ منتصف التسعينات انفتاحا لا يُنكر، والمغرب نموذجٌ لا غبار عليه. لقد فشلت
المعالجة الأمنية الخالصة، إذ لم تعد
كافية ولا مقبولة أمامَ التطور الذي عرفه العالم منذئذٍ؛ سواء في مستوى مطالب
الديموقراطية وحقوق الإنسان أو في مستوى ظهور الحركات الأصولية المتطرفة التي أتت
بخطاب (فَتَويٌّ) مُطلق يلغي خطابَ السلطة والمعارضة معا، ويدفعهما إلى إنتاج خطاب
نسبي؛ سمي التوافق. ثم اكتمل الأمر بانفجار المجال الإعلامي الذي غمر الساحة
بالصور والصوت، مقتحما البيوت بدون استئذان؛ يواجه المشاهد اليوم حوارا مفتوحا في
كل الفضائيات. إن الطابع المُهيمن على هذه المرحلة (وليس الوحيد طبعا) هو السعي الحثيث، بكل الوسائل، لتأويل الماضي
الوطني والقومي والديني، وتقويم التجارب الماضية،
لصالح أطروحات سياسية صريحة حينا وضمنية أحيانا. وفي عملية التأويل هذه
تمارس شتى الانزلاقات الخطابية.
وقد حاولنا في هذا العمل تقديم خطاطة عامة شاملة ترسم حدا
فاصلا بين الحوار بكل ألوانه والعنفِ بكل أقنعته، خطاطة مبسطة إلى أقصى حد ممكن،
ودعَّمنا هذا العمل النظري بتطبيقات واسعة في متناول طلاب المعرفة؛ من طلبة وصحافيين
وسياسيين لم يقطعوا الصلة بعدُ بالعلم وأهله.
المحمدية
23/11/2000
(من المبحث الأول)
دَائرةُ الحِـوار
تدبيرُ الاختلاف وانزلاقـاتُ الخطـاب
اقتراح تعريف للحوار
الحوار
خطاب (أوتخاطب) من أجل الإقناع بقضية أو فعل. وبعبارة أدق: الحوار هو: كل خطاب يتوخى
تجاوبَ متلقٍّ
مُعين، ويأخذ رده بعين الاعتبار من أجل تكوين موقف في نقطة غير معينة سلفا بين
المتحاورين؛ قريبة من هذا الطرف أو ذاك، أو في منتصف الطريق بينهما([1]). صورتُه المُثلى مناقشةٌ بين
طرفين أو أكثر، وقد يكون تعقيبا بعد حين على صفحات الجرائد أو غيرها من وسائط
الاتصال التي تتيح فرصة للتعليق على رأي الآخرين، وقد يكون في أي صيغة أخرى. وبهذا
المعنى نعتبر استعمال كلمة "حوار" بمعنى استجواب ـ أي طلب الجواب دون
تدخل فعلي في المقول ـ استعمالا جزئيا يراعي الشكل. والفرق بينهما هو، تقريبا،
القرق بين الكلمتين الفرنسيتين: dialogue
وَ
interview.
ودعْكَ من كلمة استنطاق، أي طلب النطق كَرْها لكشف المخبوء، فذاك نقيض مفهومنا،
وغريمُ همِّنا.
تكاد
كلمة "حوار" اليوم، مع امتداد القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان تجسد
المعنى النضالي الذي كان لكلمات أخرى فيما مضى: مثل الجهاد والثورة والمقاومة
المسلحة. إنها لا تحمل نقيضا لهذه المعاني بل تقترح بديلا يُحِلُّ التكافؤَ محلَّ الولاء، وتُترجِمُ
الدعوةُ إليه رفضاً للتعسف والحيف. ولذلك قد يستعملُه حتى من لا يؤمن به. فلا
تستغربْ، إذن، أن تجد مَقالا يُفتتح بالشكوى من انعدام الحوار ويُختتم بتكفير
المحاورين المفترضين وإباحة دمائهم. ذاك شكل من الانزلاق متوقع.
بل إن كلمة "تناوب" على السلطة، أو
"تداول" الحكم، ليستا إلا الترجمة العملية للقيمة الحجاجية والأخلاقية
للحوار. ونقيضُ هذه القيمة احتكارُ، السلطة والاستبداد بالرأي، أي احتكار الحقيقة
النافعة.
وما
دامت هذه القيمة صريحةً مُهيمنةً؛ يطالبُ بها من يؤمن بالحوار مَبْدئيا كمن يؤمن
بجدواه مرحليا، رأينا من واجبنا معرفيا وأخلاقيا أن نساهم في إبراز شروط الحوار
وأدبياته، وكشف بعض مزالقه، تنويراً لذوي النوايا الحسنة من طلاب المعرفة.
ولا بد من التنبيه ـ في هذه المناسبة ـ إلى أن
الحوار هو لغة الوسطية التي تضم السواد الأعظم من الفاعلين الذين يسعون، أو يظهرون
السعي، نحو حلولٍ تراعي أكثر ما يمكن من مطالب كل الأطراف. أما المتطرفون، في أقصى
اليمين واليسار، ألئك الذين يتقاذفون فيما بينهم، ويقذفون خصومهم بعبوات التكفير
والتجهيل فالأكيد أن الحوار المنمِّي للعقول المنتمي للمقام العام، أي الموجه
للمستَمع الكوني، هو أحسنُ وسيلة لتضييق مجال نشاطهم، وتقليل جمهورهم، إن لم أقل
ضحاياهم. نبدأ أولا برسم دائرة الحوار لبيان ما ليس منه، وما يتم من تداخل وانزلاق بين مكوناته داخل الدائرة نفسها. (انظر
الرسم في الصفحة التالية).
دائرة الحوار هي ـ كما تقدم
في مقترحات التعريف ـ دائرةُ الممكن، دائرة ما يتطلب إنجازه أخذ "الآخر"
بعين الاعتبار. متعاونا (مشاورات) أو منازعا (مناظرات)، أو منقادا دون روية
(استهواء). وخارج هذه الدائرة توجد دائرة المطلق (أو المطلقات). لكل صيغة من
صيغ الحوار، أو جنس من أجناسه امتداد: ففي
امتداد التشاور توجد المعرفة في بعدها التخزيني، أي نشاط الذاكرة بشكل أساسي، وفي
امتداد المناظرة يوجد التأمل والاعتبار والمعرفة المنطقية والبرهانية، أي نشاط
العقل بصفة أساسية. وفي امتداد الاستهواء يوجد العنف السيكولوجي والرمزي، أي نشاط
الوجدان بشكل أساسي. ولمزيدٍ من التشخيص نستعين بالجدول التالي.
دائرة الحوار أو دائرة الممكن |
محيط دائرة الحوار أو دائرة المطلق |
||
ـ 1
ـ مشاورات |
مجالاتها: 1 ـ استشارة
: بين مدبر وخبير لتوظيف
المعرفة.. 2 ـ تشاور
(بين أنداد): تدبير موقف: فئوي. ـ فحص
اختيارٍ مشترك |
المعرفة (تداولها) |
1 ـ تخزين المعارف واسترجاعها قصد الاستثمار، من
أي مصدر علمي. 2 ـ استعلام
(لتحصيل المعرفة من
خبير) |
ـ 2
ـ مناظرات: |
1 ـ مفاوضات (حول مطالب). 2 ـ منازعات (في مواقف
وآراء) 3 ـ فحص أطروحات ومذاهب |
النظر العقلي البرهاني |
صناعة ذهنية تنظر
في الموضوع دون النظر في المحتوى.(الجدل للفحص) |
ـ 3
ـ استهواء: |
1 ـ استمالة (بالمخيلات)، 2 ـ استغفال
(مغالطة). |
العنف |
1 ـ تخييلي شعري 2 ـ
ومرجعي: كذب،
قذف، تهديد... |
من الأكيد أن ادعاء الفصل بين هذه المكونات أو الصيغ شبيه
بادعاء الفصل بين الذاكرة والعقل والوجدان. إن الاهتمام بذلك يشغل محلل الخطاب
المنجز عن الـمُهم، ويقذف به في مبحث آخر له أهله وحدوده ونتائجه. الأجدى من ذلك
أن نبحثَ في علاقة هذه الأنواع الحوارية بالمقامات التي تُنتجُ فيها، وبصُور
التداخل بينها، وما يترتب عن الانتقال من نوع إلى آخر من آثار إيجابية أو سلبية في
تدبير الشؤون المدنية. وذلك كله في ضوء الواقع الخطابي الراهن. فمبحث الحوار هو
مبحث علمي، لغوي وأخلاقي منذ كان، وسيظل كذلك([2]).
ما
الاستهواء؟
لعل
القارئ لا يجد صعوبة في فهم المقصود عامة من الاستشارة والمناظرة، فلا مانع من
الربط ـ موقتا ـ بين ما يلوح من مفهوميهما هنا وبين الخطابة الاستشارية والقضائية عند أرسطو. كما
أنه لا مانع من انصراف الذهن موقتا إلى مفهوم المناظرة في
التراث العربي وعلاقتها بالجدل، لا مانع من كل ذلك ما لم يفكر في المطابقة بين هذا
وذاك، وإلا صارت تلك المُلابِسات (بالكسر) عائقاً للفهم، لأن هناك فروقا جوهرية
ستتضح شيئا فشيئا من خلال الحديث عن الانزلاقات التي هي مدار هذا المقال . ولكن
الذي لا يقبل التأخير هو مفهوم "الاستهواء"، فما الاستهواء؟
حاولنا
أن نجد كلمة تستوعب ما لا يستوعبُه الاستعلامُ والتشاور، من جهة، والمنازعةُ
الحِجاجية المحتكمة إلى العقل والمسلماتِ المشتركة للطرفين، من جهة أخرى، فكاد ذلك
يتعذر. وترجع هذه الصعوبة إلى أن مكونات المنطقة التي لا يُغطيها التشاورُ
والتناظر مختلفةٌ في طبيعتها، متباينة في قيمتها الوجدانية والأخلاقية؛ فيها
الاستمالة والمشاحنة والمغالطة. وبعد تأمل طويل استقر رأينا على كلمة
"استهواء" من الهوى أي الميل النفسي، في مقابل إتباع العقل والعرف وما
هو مشترك.
ففي
لسان العرب(هوي):
"الهوى، مقصور: هوى النفس ... والجمع
أهواء... قال الله عز وجل: "ونهى النفس عن الهوى"؛ معناها عن شهواتها
وما تدعو إليه من معاصي الله عز وجل".
"واستهوته
الشياطين: ذهبت بهواه وعقله..وقيل استهوته: استهامته وحيرته، وقيل: زينت الشياطين
هواه".
"ومتى تُكُلِّمَ بالهوى مطلقا لم يتكلم إلا
مذموما حتى ينعت بما يُخرِج معناه، كقولهم: هَوًى حسن، وهوى موافق للصواب".
ونحن
نستعمل الاستهواء بالمعنيين: بالمعنى المطلق أساساً وبالمعنى المقيد استثناء.
والاستهواء منطقة ملتبسة بين الإقناعِ الـِحجاجي
بمعناه الدقيق، وبين العنف اللغوي التخييلي والمرجعي، وهو إيجابِيٌّ
الدلالة لكونه بديلا حضاريا للعنف في موقع يُشرف على تلك الصفات([3]).
وللقارئ
أن يفكر في سُلَّم يتَدرج من التشاور إلى المنازعة (المناظرة) إلى الاستهواء
(تخييلا وتغليطأ). فحيث ينفع التشاور لا تكون حاجة إلى المناظرة، وحيث يعمل الحجاج
لا تكون حاجة إلى الاستهواء. والاستهواء أنفعُ إذا كان البديلَ الوحيد الممكن
للعنف المرجعي بشتى أشكاله.
لهذه
التراتبية ميز بيرلمان وأولبريشت بين الإقناع persuasion)) والاقتناع (conviction) الذي ينتج عن مخاطبة مستمع كوني. فالاقتناع هو
موضوع الحجاج بمعناه الحق؛ في إطاره تتحقق الحرية: "إن الحجاج غير الملزم Non contraignant
وغير الاعتباطي هو وحده القمين بأن يحقق الحرية الإنسانية من حيث هي ممارسة
لاختيار عاقل. فأن تكون الحرية تسليما اضطراريا [إلزاميا] بنظام طبيعي معطى سلفا
معناه انعدام كل اختيار يكون ضربا من الخور، ويستحيل إلى حكم اعتباطي"[4].
إن
صواب هذا النظر الفلسفي (وهو يدمج العلمي والخلقي) لا يمكن أن يشغل البلاغي
(والبلاغي الواصف على وجه التحديد) عن واقع إنتاج الخطاب وأحوال متلقيهز ويظل
الحوار النقدي الذي يجري في المقام الكوني حيث تلتقي العقول غاية يسعى البلاغي
نحوها دون أن يرتهن بها وجودا وعدما. فقديما لاحظ أرسطو أن الحاجة إلى الأسلوب
نابعة من أن عامة الناس "يتأثرون بمشاعرهم اكثر مما يتاثرون بعقولهم"،
كما قال ارسطو[5].
انزلاقات
الخطاب
يجري
الحوار، حسب التعريف والرسم السابقين، داخل دائرة الممكن، ولكنه قد ينزلق خارج
الدائرة حين يصادر أحد الطرفين حق الآخر في المعرفة أو النظر أو الاعتبار (حيث
يستغفله أو يستخف به). وهذا ما نسميه الخروج من دائرة الحوار، وهو أخطر الانزلاقات
لكونه يضرب المبدأ. أما الحوار الذي يجري داخل الدائرة فمختلف الطبائع بدوه حسب
المقامات الحوارية كما سبق، ولكن الاختلاف بين المقامات لا يمنع التداخل بين
الأنماط، بل قد يحدث ما هو أكثر من التداخل، أي الانزلاق من نمط إلى آخر، وبالتالي
الانتقال من لغة إلى لغة.
.............................الخ
[1] ـ الذي يشغلني وأنا
أقترح هذه التعاريف التقريبية هو المفهوم الذي أبنيه لاحقا في خطاطة تقريبية.
ولذلك لم أعتمد تعريفا سابقا يقيدني بمرجعيته أو مجال تطبيقه. وأحيل، قصد
الاستئناس، على تعريف دوكلاس والتون Douglas WALTON
لاهتمامه بالأنماط الحافة بالحوار النقدي المتداخلة معه مثل: المناقشات والمفاوضات
والتحقيقات والمشاحنات. “Types de dialogues
et glissement dialectique en argumentation”.p. 227-239.
[2] ـ نشير هنا إلى ما
ذكره بيرلمان في مقدمة L’Empire rhétorique من أنه وصل إلى فن الخطابة عند أرسطو من مدخل
البحث في الأخلاق.
[3] ـ وعلى القارئ غير المطلع على مفاهيم الشعرية
وألفاظها المفسرة للفاعلية التخييلية أن يضع في اعتباره أن هناك معجما يفسر ما نقصده بالعنف التخييلي.
من تلك الألفاظ: الانزياح والانحراف والخرق والغرابة والشذوذ إلى آخر اللائحة.
وهذه معاني إيجابية.
[4] ـ Traité de
l’argumentation .p. 682.) ) عن ترجمة عبد الله
صولة في "الحجاج أطره ومنطلقاته" ضمن: أهم نظريات الحجاج. 301. وانظر
عرض الفكرة هناك.
[5] ـ اظر كتابنا: في
بلاغة الخطاب اإقناعي. 87.