وجـوه وظـلال
اِستوقفتني
في العدد16 من الأسبوعية الجديدة وجوه لها في الذاكرة ظلال؛ ظلال من حياة معشية أو
تجربة فكرية متابعة. سَرح ذهني لحظة مع كل وجه مقابلا بين الماضي والحاضر يحفزه في
ذلك ما قيل وما يقال. وعندما انتهيتُ من قراءة العدد قلت لماذا لا أبوح لهؤلاء
الآساتذة والأصدقاء بهذه التواردات، بل لماذا لا نشرك قراء الجريدة في تلك الرحلة
التذكرية الانتقائية، لماذا نحن المغاربة مبتلون بالتكتم والمحو واللامبالاة.
***
أحمد الدغيرني رفيق الدراسة في المعهد
الإسلامي بتارودانت، كان عُروبيا قبلنا. بين يديه رأيت كتابا لطه حسين لأول مرة في
منتصف الستينيات، فانسللتُ إلى مكتبة المعهد أبحث عن هذا "الطه حسين"
الذي سبق إليه أحمد الدغيرني وحسَّن به إنشاءَه، وهناك وقعت على كتاب في الأدب
الجاهلي.. ثم شد انتباهي كتاب الحصري عن القومية العربية. قرأت الكتابين بدهشة من
يكتشف قارة مجهولة، وتباهيت بمعرفة أسرار القومية وخدع التاريخ، ووصلت بي الجرأة
أن ألقيت "محاضرة"(هكذا) لعموم الطلبة والأساتذة بين صلاة المغرب
والعشاء بمسجد المعهد؛ لخصت فيها كتاب "في الأدب الجاهلي" تلخيصاً.
عندما أجرى أستاذ الفزياء (نجمي) تجربة لتفاعل بعض الجزيئات في
أنبوب زجاجي شفاف طلب منا وصف العملية وصفا أدبيا، فجاء وصف الدغيرني شاعريا
معبرا، أـذكر منه هذه العبارة: "كانت الحبيبات تتراقص…". كان إعجاب الأستاذ نجمي بهذه الاستعارة
الراقصة، وتلك العبارة العربية الفصيحة كبيرا. ولا شك أنه تنبأ له بمستقبل؛
والأغلب أن يكون ذلك في اللغة العربية. أما الحساب وعليه سند الفزياء فلا أذكر أن
الزميل الدغيرني كان من المتفوقين فيه، أو ربما كان يحسب وحده، بعيدا عنا.
كانت العروبة الناصرية قد أقامت في المعهد
الإسلامي إذاعة حقيقية تتصادى مع أمواج صوت العرب من القاهرة، تحت رعاية الأساتذة
المصريين. ثم تغيرت الأحوال وكان السي أحمد الدغيرني رئيسا لودادية التلاميذ التي
تسهر على أنشطتهم، وكنت أنا وقتها رئيسا للجنة الثقافية التي أصدرت مجلة تهتم
بإبداعات التلاميذ. كان هذا كله في امتداد الوقفة الحازمة لجمعيه علماء سوس ضد
"فرنسة الأصقاع السوسية"، كما جاء في رسالتهم إلى الملك محمد الخامس.
فسبحان الله هذه صفحة طواها الزمان في غفلة منا.
كان وجه التلميذ أحمد الدغيرني صبوحاً طريا
وسيما، كان ضحوكا ينم عن شيء من الطيبة مخلوط ببعض من دهاء يتكشف شيئا فشيئا، كانت
له قدرة على استقطاب عينات خاصة من التلاميذ؛ عينة هادئة ولكنها غير فاعلة في
الغالب! فهل تراه يلتقط أيضا أوراقا من هذا الزمان فات تاريخ استعمالها.
أما اليوم فصار وجهه مثل وجوهنا، يحمل آثارَ
عوامل التعرية، وكدمات الجولات الخاسرة: جبهة تنداح إلى الوراء أمام قوة الرياح،
وحاجبان انتصر الشيب فيهما على سواد الشباب، إنما الأنف شامخ كمنقار نسر استقر فوق
صخرة عالية، والعينان سابحتان في مغارة. حذار من الطمع يا صاحبي، فقد لا يسعف
الجسد في إنجاز الخطوة الواسعة، إنها مهمة صعبة أن يتحمل أحد أوزار أوفقير،
أويتكفل ببعث الحياة في جسد أحرضان. المهم الأمازيغية بريئة من أوزار أفقير و(ما)
شاكل أفقير.
***
أول مرة التقطت عيني صورةً لعبد الصمد
بلكبير كانت في تجمع عام للطلبة بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس في الموسم الجامعي
68-1969. كان النقاش وقتها شديداً حول المطالب والتحالفات. وكان هو يسعى لنوع خاص
من الرقص على نغمات العود والجزبد مرة واحدة. جاءت في تدخله أيضا استعارة مثل
استعارة الدغيرني في ترقيص الجزيئات، غير أن استعارته كانت صريحة لم ترسخ إلا في
بعض الأذهان المهيأة لذلك. طالب عبد الصمد باستبعاد منطق: إما "أبيض" أو
ّأسود"، إذ قد تكون هناك ألوان رمادية مقبولة؛ أميل إلى السواد أو البياض أو
بينهما، لا يهم. ويظهر أن الأخ بلكبير قد عمق هذه القناعة القديمة. فانتقل من مد
الجسور بين "يسار اليسار" ويمينه، إلى الطمع في التقريب بين اليسار
و"اللا يمين ولا يسار" حيث تضيع الألوان:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرَكَ اللهُ كيف يلتقيان؟
وآخر مرة رأيت فيها عبد الصمد في العهد
الطلابي كانت لحظة توديع الجامعة للالتحاق بالعمل في التعليم الثانوي سنة 1972.
كان ذلك في اجتماع ضيق لمجموعة من المناضلين في غرفة بالحي الجامعي للتشاور، وكان
المشكل مرة أخرى يتعلق بالتحالف النقابي الممكن في المجال المهني، لم يقع اختلاف
كبير في ضرورة الالتحاق بالجماهير حيث توجد، مع السعي لحفظ الوحدة النقابية ما
أمكن. غير أننا عندما طرقنا أبواب الاتحاد المغربي للشغل كانت الأبواب قد شمعت
بالأحمر. أقول: نعم للعمل حيث توجد الجماهير، ونعم للتحالف حين يكون ممكنا،
"إنما للصبر حدود".
إن النقاش حول تأثيم ضحايا كارثة تسونامي لا يخلط الألوان، كما
جاء في كلامك بل يفرزها، وهو ليس نقاشاً تافها بأي مقياس. ولعلك قرأت كلمة نور
الدين الزاهي "فرقعات النهاية" المنشورة مباشرة تحت كلمتك، وهي كلمة
شديدة التركيز ترقب الواقع بتفاؤل، فتقول شيئا آخر ولكنه مؤسس. أما كلمة عبد
العالي بن عمور "وجودهم هامشي وموقت" المنشورة على يسارك فلها نفس قوة
رأيك في الاتجاه المضاد. فوجب قول: "الله أعلم"! ولأن "يشد المرء
الأرض أحيانا خير من الضرب فيها على غير هدى ". وهذه الحكمة صالحة حتى لكلمة أستاذنا
الجليل عابد الجابري: "هادوك غير لحماق!"، فالحكم عليها لا يمكن أن يكون
إلا موقوف التنفيذ، مثل الحكم المتشائم الذي عبر عنه في أحد حواراته التلفزية حول
قوة اليسار وقوة الإسلاميين!!!
***
*كان الأستاذ اليابوري مُندمجاً في موضوعه
مهتما بإشراك الطلبة في النقاش حول حركة تجديد الشعر العربي الحديث، في أواخر
الستينيات، ندٌَ مني استخفاف بتدخل أحد الطلبة دون تقديم ما يقدم النقاش، فنظر إلي
ثم صرف النظر إلى جهة أخرى وقال: "بعض الناس يجلسون وكأنهم نساك في أبراج
عاجيةً"! بذلت جهدا بعدها حتى لا تكون القطيعة. وعندما تصديت للتدريس أدركت وجاهة
تدخله. من الأفكار النيرة التي التقطتها بعمق من اللقاءات الأولى بالأستاذ
اليابوري حديثه عن دور تقديس الأفراد (من رجال السياسة والدين خاصة) في تخلف
العالم العربي. كان لابد لهضم هذه المقولة النيرة من القيام بإعادة ترتيب داخل ذهن
تسكنه الرموز والمقدسات. كان الأستاذ اليابوري أحد الأساتذة القلائل الذين يحترمون
أنفسهم ويبذلون قصارى جهدهم لكي يكون ما يقدمونه مفيداً، وكان توليه تسيير شؤون كلية الآداب بفاس
امتحانا آخر أبان فيه، كما أبان في غيره، عن صفاء معدنه.
هذا أول لقاء، أما آخر اتصال لي به فكان رسالة منه يعتذر فيها بألم
عن عدم إمكان نشر دراسة لي عن الحوار والعنف في العدد الخاص من مجلة المناهل
التابعة لوزارة الثقافة، وهي الدراسة نفسها التي نشرت كفصل أول من كتابي دائرة
الحوار. وجاء في آخر رسالته: "أخي الفاضل، إنك تعرف، دون مجاملة، مدى تقديري
لمشاريعك الفكرية والنقدية، ولاشك أنك تقدر موقفي حق قدره، وأنا أردد مع أبي حيان
التوحيدي: "يا هذا، الحديث ذو شجون، والقلب طافح بالظنون، بما لعله يكون أو
لا يكون" (7/2/2001). وكان سبب تردد هيئة التحرير التي استند الأستاذ إلى
رأيها هو احتواء المقال على أسماء وأمثلة حية حديثة، الهيئة في غنى عن استثارتها
في مجلة "رسمية"، والأسماء المعنية هي: الفزازي، والزمزامي، ، وطه عبد
الرحمان، والقرضاوي وبنكيران … وغيرهم من الممهدين لفتوى تسونامي التي يتصدى لها المجتمع المغربي
اليوم بالوسائل الحرة والرسمية، بعدما تصدى ل16 ماي بالوسائل الأمنية.
سيقرأ الأستاذ اليابوري ما كتب عنه في
العدد16 متعثرا في ألفاظ وعبارات من قبيل: "أدمن"، و"نخاع
العظم"، و"وجع الحرف"، و"جعلت من هامته العالية أن
تنصب"، و"البوح المستعار" و"وشائج النسيان"... الخ
وسيكفهر وجهه بنفس الطريقة المعهودة فيه حين يواجه ما لا يرضي. فأقول له لا بأس
نية ذلك المؤمن خير من عمله. لقد فهمنا ما يريد التعبير عنه.