مجرمون على الطريق

بمناسبة أزمة مدونة السير

محمد العمري

www.medelomari.net

 

 

ذكر أحد المتدخلين في ندوة تلفزية حول حوادث السير، منذ شهور، أن هناك دراسات علمية عالمية تميز بين ثلاث فئات من السائقين: فئة أولى، عشرةٌ بالمائة، تتكون من أشخاص يحترمون القانون طبيعة وسجية، لا يحتاجون إلى تنبيه أو زجر، وفئة ثانية، ثمانون في المائة، وهي فئة متأرجحة، لها استعداد لاحترام القانون ولكنها تحتاج إلى تنبيه ومتابعة حتى لا تنحرف، وفئة ثالثة تمثل عشرة في المائة، أفرادها أنانيون لا يعترفون بأي قانون، يدوسون ويدهسون لا يبالون. 

وعندما يتأمل المرء ما يجري على طرقنا يلاحظ أن الفئة الثالثة العنيفة المنحرفة قد توسعت في فرض قانونها ومنطقها، استمالت حصة كبيرة من الفئة الثانية وضمتها إلى صفوفها، حتى أصبح خرق قانون السير شيئا عاديا عند فئة واسعة من السائقين. خاصة حين يقع الازدحام وتعم هستريا السبق وتجاوز الآخرين مهما كان.

حاول أحد المختصين في علم النفس تفسير هذا السلوك علميا ـ في الندوة المشار إليها ـ فتحدث عن "المنافسة"، عندما يمسك المغربي مقود السيارة يدخل في تنافس مع الآخرين. والحقيقة أن المسألة لا تتعلق بالتنافس، لأن التنافس مفهومٌ إيجابي، هو تسابق في "الخيرات"، تسابق إلى "المغفرة" و"الرضوان". في حين أن ما تقوم به هذه الفئة المنحرفة التي فرضت منطقها وسيكولوجيتها على أكثر السائقين المغاربة أدخلُ في باب الأنانية الانتهازية والوقاحة الفجة. وبهذه الاستقطاب العام نحو الأسوأ صار هذا "الكائن" المغربي يتحرك بشخصيتين: شخصية خارج السيارة يمكن التواصل معها، فهو جار وزميل في العمل والنادي والمسجد، وشخصية داخل السيارة طابعها الأنانية والتحدي. وقد استعملت اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير قناعا أسودَ في وصلة إشهارية تحسيسية لتنبيه السائقين إلى ما يطرأ على شخصياتهم من انفصام بمجرد الإمساك بمقود السيارة، ولكن لا حياة لمن تنادي. ولا شك أن فكرة سحب النقط من رخصة السياقة كانت تهدف أساسا إلى كشف هؤلاء المنحرفين وتحييدهم نهائيا، خاصة من يثبت أنه غير مؤهل عقلا أو عاطفيا أو جسديا لقيادة هذه الآلة التي يمكن أن تصبح مع سوء الاستعمال قاتلة.

لا شك أن هؤلاء المجانين هم الذين ركبوا الأحداث الأخيرة وصاروا يرفعون عقيرتهم ـ من بين صفوف المضربين المحتجين ـ مطالبين بإلغاء المدونة نهائيا ؟ ولا شك أن هؤلاء هم من يقصده بعض البرلمانيين في جلسة يوم 22.04.2009 حين طالبوا بمدونة "تشبه المغاربة"؟ مدونة أدنى من نظام الغاب. كان هؤلاء النواب قد ناقشوا المدونة وعدلوها، كما يحلو لهم، ثم أجازوها، وعندما علت أصوات الرافضين انقلبوا عليها! لقد انجرفوا بدورهم. يقولون "مدونة تشبه المغاربة"! إن ما يشبه المغاربة هو ما يصنعونه اليوم؛ هذه المجزرة التي يرتكبونها دون هوادة. وهم أنفسهم الذين يقولون: "الحاجة اللي ما تشبه مولاها حرام". عن أي مغاربة يتحدثون؟ أنا شخصيا لست من أولئك المغاربة. تهمة المدونة عند هؤلاء، مثل تهمة مدونة الأسرة، مستوردة، مستوردة من السويد! وهم يريدون مدونة مصنوعة محليا في "محطة أولاد زيان"! الوزير يقول بأن الاستئناس وقع فعلا، ولكن ليس بالسويد بل بالسنغال وتونس والأردن!!

 كيف يتخيل عاقل أن يترك الأمر على ما هو عليه من خسائر بشرية ومادية ونفسية. المغاربة يعرفون تقريبا مقدار الخسائر المالية، يقال إنها تضاهي 11 مليار درهم، وهي تشكل نسبة عالية من ميزانية الدولة. ومع ذلك فهي ليست إلا جزءا يسيرا من الخسائر المادية غير المرئية. وحين يُتَحدثُ عن الخسائر البشرية يلتصق الذهن بعدد القتلى، وهو كبير جدا (أربعة ألاف)، ولكنه لا يتعلق كثيرا وبنفس القوة بما هو أخطر من القتل وهو الإعاقة. إن بعض المعطوبين في حوادث السير نتيجة تهور السائقين أثقلُ على أنفسهم وذويهم ومجتمعهم من القتلى، لأن القتيل انقطع نفعه، وتلك خسارة واحد مهما تكن كنيرة، والمعطوب مائة في المائة انقطع نفعه وزاد عِبْؤُه، وهما خسارتان. وحين نتحدث عن قتيل نتخيله فردا، والحال أنه يكون في الغالب رب عائلة، فلا نستحضر مصير تلك العائلة بكل تشعباتها. أما الجانب النفسي فيكفي القول بأن سكان المدن المغربية يعيشون في توتر نفسي، وترقب للأسوأ، مع خروج أول فرد من العائلة في الصباح إلى رجوع آخر فرد منها في المساء. ويكفي أن يصل أدني خبر مشوش إلى الأسرة عن فرد من أفرادها يوجد خارج المنزل لكي تفترض أنه ضحية حادثة، مدهوسا أو داهسا. ولذلك لا تستغربْ ما يقال من أن نسبة عالية من المغاربة مصابة بالاكتئاب، هذا المرض الذي لا ندري كيف توغل فينا في حين يُعتقد أنه من أمراض المجتمعات المتقدمة المعقدة.

أول مرة مررت بالطريق الوطنية الرابطة بين مدينة بُّـو ومدينة بوردو الفرنسيتين كانت تلوح لي من بعيد أشباح أشخاص كبار وصغار واقفين بجانب الطريق، وعندها أصل إليها لا أجد غير ألواح سوداء من الخشب على شكل أشخاص، تبادر إلى ذهني أن تكون تلك التماثيل ومن وضع رجال الدرك، توضع موقتا في المواقع الخطرة لتنبيه الناس أو إيهامهم ليحذروا. غير أني علمت من مرافقي أن الأمر يتعلق بنماذج بشرية قارة في أماكنها، وهي لأشخاص قضوا نحبهم في تلك الأماكن جراء حوادث سير. وضعتها اللجنة الوطنية الفرنسية تذكيرا للغافلين. تخيلْ أن الفكرة استهوت لجنتنا الوطنية، كيف سيصبح منظر طريقنا السيار قبل طرقنا الوطنية والثانوية؟ في طريقنا السيار تنقلب الحافلات مخلفة عشرات القتلى. سيصبح المغرب أشبه بمقبرة مترامية الأطراف، ستزدحم التماثيل، وسيكون ذلك آخر مسمار في نعش السياحة المغربية. حين وقعت حادثة لمجموعة من الفرنسيين بين تارودانت وورزازات سمعتُ المذيع في إحدى الفضائيات الفرنسية يقول: من أراد أن يجري عملية  جراحية مجانية على وجهه فليتوجه إلى المغرب.

يظهر لي أن الذين تقدموا بالمشروع لم يستطيعوا أن يميزوا، أمام الرأي العامن بين صنفين من المخالفات: الصنف الأول حوادث السير التي تبدو عادية لا مفر منها، لأنها ضريبة التقاء الإنسان بالآلة. وفي هذه الحالة تبدو العقوبات السالبة للحرية، وبمدد طويلة، أمرا مقلقا لنا جميعا. ولذلك تراجعت المدونة في هذا الصدد إلى ما كان عليه الحال قبل وضعها. وعليه فلا يُفهم المقصود من جعل العقوبات السالبة سببا من أسباب الإضراب ما دام لم يقع بشأنها تغيير؟ والصنف الثاني الحوادث التي تدخل فيما سماه الرسول (ص) في خطبة الوداع "شبه العمد" ("العمد قَوَدٌ، وشبهُ العمد ما قُتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير"). وهذا الصنف ينبغي تجريمه بشكل ما. فالذي يسوق في حالة سكر طافح، أو لا يحترم الضوء الأحمر وعلامة المنع والتوقف أو يسير ليلا بدون أضواء، أو في الاتجاه الممنوع أو يسير بسرعة خارقة ..الخ لا يمكن أن يدعي أن ما وقع خارجٌ عن إرادته، فلا أحد أرغمه على إلغاء عقله ساعة السياقة، ولا أحد داس على رجله عند التجاوز المفرط للسرعة. كل هؤلاء ينبغي أن يتابعوا بتهمة "شبه العمد"، ويغلظ لهم العقاب حين يؤدي تهورهم إلى حادث. ماذا ينتظر من يسوق في حالة سكر طافح؟ ولذلك كان من المنطقي ألا يتبنى المهنيون المحترفون من السواق قضية المنحرفين، لأننا نفترض أن من يجعل السياقة حرفة سيمتنع نهائيا عن هذه المخالفات الخطيرة بمحض إرادته حفاظا على سلامته، من جهة، وعلى مصدر عيشه، من جهة ثانية. وإن لم يفعل اختيارا فحياة الأبرياء أولى أن تصان.

هناك مشاكل عديدة تتعلق بالرشوة وحال الطرقات ونظام التشوير يجب النضال من أجل تجاوزها أو التخفيف من حدتها، ولكن لا ينبغي بحال وضعها أمام مدونة السير. الأمران مختلفان. بل هناك مشكل آخر أكثر حيوية وأولى أن يحظى بالعناية من طرف النقابات ووزارة النقل، وهو إعادة تكوين السائقين المحترفين فالكثير منهم، خاصة أصحاب سيارة الأجرة الكبيرة، والكثير من أصحاب السيارات الصغيرة يتحولون مع الوقت، ولطول تواجدهم في الشارع العام، إلى تملك الشارع والاعتقاد بأن الآخرين دخلاء ومجرد طفيليين لا يقيمون لهم اعتبار.

أنا اعتبر أن توقيف مدونة السير بعد تعديلها (بالتراجع عن العقوبات الحبسية وتخفيض الذعائر)، وبعد قبولها من طرف مجلس النواب، يُعتبر هزيمة لمنطق القانون وترجيحا لكفة الفوضى، ومن المؤسف أن تصبح هذه القصية الحساسة محلَّ مزايدات سياسوية. هل سنعود مرة أخرى إلى انعدام الرشد، وطلب التحكيم ما دام ترك الحبل على الغارب غير ممكن؟

فعلتم ما شئتم، وها نحن نقول ما بدا لنا. ألا هل وَخَزت، اللهم اشهد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

نشر بجريدة الحياة الجديدة المغربية عدد 08ـ14أبريل 2009

 

class=Section2>