فهرس
شبه جملة
(انقر العنوان)
(في تأبين الزعيم الوطني الكبيرعبد الرحيم بوعبيد) 4 ـ
الأم الشرعية في دائرة الطباشير الانتخابية البيكوب
والزغاريت 6 ـ
عـودةُ الرِّمَـمِ [السياسية] 7 ـ
هزة قط.. أو محالمة الشيخ عبد الجبار 9 ـ
لحية أبي شعيب، المدعو أحيانا: بوسعيب 10 ـ
حيتان الشعب وحيتان "الدولة في رثاء طالب بِ"القدس الغربي 13 ـ من مرثية السيد سوغان..[أو
غُرْبَــلَشِّيـفْرْ] 14 ـ
خطاب فوق العادة: بدون "كما كنا" (في خوصصة التزوير) 17 ـ التأثير بالكلمة بينَ الإقناع والإقماع 18 ـ الورقة الرمادية والورقة الخضراء 20 ـ عُقد التاريخ ومحن
الذاكرة 21 ـ لِبْرَالِــي، ولكنْ ما عَندي "زْهَرْ" حول تعريب العلوم 24 ـ العلم والعمل، تحية
لأبي علي اليوسي في حدود العدل وحقوق
الإنسان (مقطع من سيرة خنزير) 28 ـ ذيل طويل: حمار في مِسلاخ إنسان |
لم يكن الصمت حكمة؟
التعليقُ الأدبي التخييلي والساخر مبني على قبول الآخر، مبني
على أن للآخر منطقاً يمكن أن يخاطَب ويُغالَب؛ لهُ أو عليه. هذا النوع من الكتابة
بعيدٌ عن الثورية، إنه عمل إصلاحي؛ ولذلك يَنْدَحِر ويتوقفُ بمجرد ما تنفصم الصلة بين الطرفين،
بمجرد ما يقتنع الكاتب بأنه أمام آلة صماء لا يفيد معها إلا الهروب منها وممارسة الغيبة
إزاءها ولو مع النفس (وهذا نوع من الشعر والسرد المُعَمَّى)، أو مُناجزتها صراحة
بكلام خطابي مباشر (الأدب الثوري)، تمهيدا للاشتباك بالأظافر والأنياب، أو الطعن
من الخلف.
محنة من يكتب
أشباهَ الجُمل والتعاليق الساخرة وقصص الحيوانات (كليلة ودمنة مثلا) أنه يسعى
ليقول، يسعى فحسب، ولا فائدة إذا لم يُفهم ما يقول، كما يسعى إلى ألاَّ تلتقي عينه
لقاءً وقحاً بمخاطَبِه. إياك أعني واسمعي يا جارة! لا بد من الاحتفاظ بخط الرجعة،
وصون ماء وجهِ الآخر، ولكن هذا لا يفيد إلا حين يكون للآخر وجه حرٌّ يُصان: المهم
أن يكون هناك منطق: "الحر بالغمزة". أما إذا كانت كل غمزة تستتبع
"دَبْزَةً"، فلا جدوى من المخاطبة.
ونحن في المغرب كثيراً ما نأسف حين نجد أنفسنا مع المثل
الشعبي: "اللِّي حرَتْ الجمل دَكُّو"!
لقد انطلقت منذ سنوات مطالبُ وشعاراتُ الديموقراطية وحقوق
الإنسان غير أنه ما إن دُكَّتْ ركائز
تازمامرت حتى انفتح باب سجن لعلو لاحتضان الأموي، وفتح باب التشتاؤم على
مصراعيه.وما كاد الجدل حول نظافة ذمة الحكومة من تهمة المنغانطية حتى طلع ثابت من
دهاليز "الشفافية" كشاهد على العصر…إنها لغصة لمن كان له قلب:
ـ تبارك الله ! المغرب عامر بالعلماء.
ـ تبارك الله ! المغرب عامر بالزعماء السياسيين.
ذ ـ تبارك الله !
المغرب عامر بالشباب.
ـ تبارك الله ! المغرب عامر بالقضاة والمحامين المحترمين.
يقف المئات منهم هذه الأيام [من سنة1992]
بجانب الأموي.
ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا تسمع لكل هؤلاء
رِكْزًا: طاف عليهم طائف من دواهي المغرب
وهم قائمون، فأصبحوا ولا كرامة لهم في وطنهم!
حتى الحرب لها منطق يُواكبها، مفاوضات تتلوها. فهي مجرد تجريبُ لخيارٍ ما زال
الإنسان يحتفظ به من تراثه البدائي، غيرَ أنه حين يستعمل أحد الطرفين سلاحاً
خارقاً مثل السلاح النووي، يكون قد أعلن نهايةَ الحرب كلعبة ذات قواعد، يبقى فقط
الصمت الحاقد والموت الواقع أو المُرجأ برنامجا للطرفين. وللمتأمل أن يسترجع تاريخ
الصمت في الحياة السياسية المغربية، تاريخ الإصرار على إلغاء الآخر، ليلاحظ أيَّ
كلام كان الجواب؛ إن لحظاتِ محاولةِ فرض الصمت وما تلاها من نَشاز في التاريخ
السياسي المغربي لجديرة بالتأمل.
مُتابعةُ نقابيٍّ أو صحفي وتحويلُ كلامه من سياق إلى سياق
أمرٌ يخلط الأوراقَ ويُقحم جهاز القضاء، الذي ينبغي أن يكون على الحياد وفوق
الشبهات، في مجال لا يخلو من شبهات. حين ينطق القضاء لا يبقى إلا التسليم. إن
إحالة قضايا الحوار السياسي (في العالم الثالث) على القضاء (وهو قضاء كالقدر) شبيهٌ بتكبيل الخصم قبل إطلاق النار عليه، بل
هو أشبهُ باستعمال أسلحة الدمار الشامل في الحرب. الغرض هو إلغاء الآخر مرة واحدة.
الصمت لغم غير موقوت...
أواخر1992
…في هذا الظلام
قال رجل، في عصبة من رجال صدقوا: ربِّ السجنُ
أحبُّ إلي /إلينا، هذا وطني، كله وطني! ويفتح السجن أبوابه لشيخ في حزم وإرادة الشباب...
ـ 1 ـ
شموخ الوطنية
(في تأبين الزعيم الوطني الكبير
عبد الرحيم بوعبيد)
ـ
1944 ـ
…قبل أن تكون طفلا أو رضيعا، قبل أن
تكون نطفة، ضمن مكنونات الغيب ما تزال عندما رَفع القلمَ شاب في حكمة الشيوخ (كذا
قال الرفاق)، وقال للقلم: أُكتب: هذه أرضي، هذه أرض أجدادي، هذه أرض أبنائي
وأحفادي. ليشهدَ العالم أنا لم نُؤتَ عن قلة وعي أو علم أو إرادة، فلا بد أن
يستجيب القدر...
بين الشيوخ شاب ينبض بالحياة قبل أن نولدَ نحن الكهول، يوقع
عريضة الاستقلال وينخرط في معركة الكرامة إلى آخر نفس... وفتح سجن لعلو أبوابه
وكان أحبَّ لرجال صدقوا من أي بديل...
ـ 1981 ـ
في الظلام الحالك. ظلام شراسة 1979 وما بعدها من سنوات الإجهاز
على الحقوق النقابية، يوم كنا نقول لمسؤول صغير: "هناك دستور"، فيقول:
"أنا الدستور"، سنوات الإجهاز على حق المواطنة بقطع الأرزاق. حيث الطرد
والتوقيف واغتصاب الحرية بالاعتقال والتعذيب الجسدي… حتى الاشتراك في اللعبة [البرلمانية]
كان بالإكراه.
في هذا الظلام قال رجل، في عصبة من رجال صدقوا: ربِّ السجنُ
أحبُّ إلي /إلينا، هذا وطني، كله وطني! ويفتح السجن أبوابه لشيخ في حزم وإرادة
الشباب.
أتأمل صورة الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد في سجن لعلو المنشورة
بالجريدة يوم 11/1/1992...قميص مفتوح على الصدر، صدر مفتوح على الشمس... وقفة شاب
في كامل قواه... وفي الوجه مرارة، مرارة الإحساس بالعقوق... في كل تجعدة ألف إدانة… و تنتقل الأحزان إلى ميسور…
وميسور شاهدة شهيدة…
كل تجعدة في جسم آدم تقول هذا وطني، لا رأي لغيري في حبي
لهذا الوطن، فهو فوق الوصف... والمداولة...
الوطن ليس أرضا وحسب، الوطن أرض وإنسان، الوطن ذكرى و واقع
و مستقبل، الوطن عَقْدٌ على الموت والحياة من أجل الكرامة، هكذا نطقَ جسد عبد
الرحيم. وهكذا نطقت روح عبد الرحيم، فعاد الوطن جسدا وروحا نسكنهما جميعاً، هكذا
فهمنا من عبد الرحيم.
حين نحب الوطن لا نستطيع أن نذل المواطنَ، أو نستهينَ به.
كان قلب عبد الرحيم يسع كل المواطنين، كما يسع قلب الأب كل الأبناء، وقلبُ المعلم
النصوح كل التلاميذ، والمريض أحب حتى يشفى، والمتخلف أولى بالعناية حتى يلتحق
بالصف، والمتوتر أولى بسعة القلب... وزوايا النظر لا تفسد للودِّ قضية...
إن كلمة "وطني" و "وطنيين" التي كانت
تسحر القلوب إبان النضال من أجل الاستقلال هي بديل لِـ اللاَّ وَطَني أي الخائن،
وهي تنطوي على المعاني النبيلة التي تجد تجليها الأسمى في الاستشهاد طواعية وبقلب
رحب من أجل أن يحيا الوطن.
فمن هنا نلاحظ ملازمة هذه الكلمة الساحرة:
"الوطني" لكل ما أشرف عليه عبد الرحيم أو شارك فيه... أن تكون وطنيا هذا
وحده يكفي للتعاون معك... لأن الوطنية عقد على الموت من أجل شرف الجميع وكرامة
الجميع.
ومن هنا وقف عبد الرحيم ورفاق عبد الرحيم ضد قانون الغاب، قانون
الاختزال الطبيعي الذي يراد فرضه في رحاب هذا الوطن من طرف أقلية استثمرت محن هذا
الوطن وأزماته.
وهذا الذي جعلني حتى وأنا خارج الاتحاد، وجعل كل المواطنين
الطامحين للعدل والكرامة نلتحق دائما بكل تظاهرة اجتماعية، أو نقابية أو سياسية أو
فنية ينظمها اتحاد القوات الشعبية.
حتى من يُسرع الخطا فيبتعد عن القافلة يعود إلى دِفْئِهَا
حين تهب العاصفة، يكفي الإدلاء بكلمة السر "وطني". لا مكان للحسابات
الضيقة والظرفية، لا مكان لتصفية الحسابات على حساب المبادئ... نعم للحوار ولكن لا
حياد قيد أنملة عن "الوطنية". فبقي اتحاد القوات الشعبية ذلك النهر
العميق المجرى الذي يستوعب كل العيون الدافقة، ويغذي السواقي المثمرة. وتمر
"الحملات" والفيضانات ويزيد مجرى النهر عمقا.
ومع عبد الرحيم وحول عبد الرحيم يقف الجميع في نور الشمس
وحرارة الشمس...
وضاق الجسد عن حمل الأمانة فاتسعت لها القلوب، قلوب ملايين
المواطنين الشرفاء عبر الأجيال...
((الاتحاد
الاشتراكي 21/01/1992)
مواطن بلا وطن كأنني مـن
اليمــن
ونقترح تعميم القافية:
مواطن بلا وطن كأنني من (العرب)
ـ 2 ـ
ماذا تعـرفْ
عن المغربْ؟
1 ـ لو فاجأتَ أي مواطنٍ مغربي بالسؤال التالي:
ـ ماذا تعرف عن المغرب؟
أو بصيغة أكثر استفزازا:
ـ هل تعرف شيئا عن المغرب؟!
لنظر إليك نظرة المستغرب، ليتأكد من سلامة عقلك(!)
فهل هناك ما هو أقرب إلى المرء معرفة من البيت الذي يسكنه.
إنه بوسعه أن يتجول خلاله في غلس الظلام، ويتحسس كل أركانه وزواياه دون أن يخشى
الوقوع في بئر، أو الارتطام بحاجز غير متوقع؛ الوطن بيت ومسكن. الوطن أكثر من
البيت والمسكن، الوطن لا يباع ولا يشترى، الوطن رحم.
وفي زحمة الحماس التحميس المنتفض للكرامة ينسى المواطن أن
ما لا يباع ولا يشترى عُرضة للاغتصاب إذا لم يحم، وفي هذه يلتحق الوطن بالشرف.
عزيزان لا يباعان ولكنهما عرضة للاغتصاب. وأقبح أنواع الاغتصاب اغتصاب ذوي القربى
[فهو كزنا المحارم].
غير أنك لو كنت بادأت هذا المواطنَ نفسه مبادأة عملية
تفصيلية من خلال الملموس المعيش وسألته:
ـ هل كان يعرف بوجود مقابر جماعية للأحياء على شاكلة
تازمامرت، وهل هو متأكد اليوم من عدم وجود أمثالها فوق هذا الوطن الذي يخفق قلبه
بحبه، وينطلق لسانه في الإشادة به، لرفع يديه فوق رأسه استسلاما، وربما قال:
"ما كاين شي اللي يعرف أش تيجري فْ هذا البلد"(!)
ولو أنك حكيت لأي مواطن مغربي قبل أسابيع فقط قصة تدَّعي
فيها أن حكومة موقرة تثور لشرفها ثورة مضرية وتُحضِر التراجمَ والمعاجمَ، وتستنفر
البراجمَ، لتجد عندها من الشرف وحسن السيرة ما يسمح بترجمة كلمة منغطيس إلى سنتين
سجنا في حق زعيم نقابي بحجم نوبير الأموي، لو أنك حكيت أن تلك الحكومة كانت
"كاركا" أي محتضنة لبيض من حجم "الحاج محمد مصطفى ثابت "، لو
حكيت هذه القصة قبل شهر لكان المارستان يسقبلك بالأحضان في حسن ضيافة وعناية.
أما اليوم فلا شك أن المواطن المغربي الذي يقف مشدوها أمام
المحكمة مرددا "وا.. علاشوها!!" [وترجمتها بالعربي الفصيح: يا لها من
فضيحة مُشينة ] والمواطن الذي يلتقط فُتات الأخبار هنا وهناك، يتساءل مع
نفسه، (سواء كان يسكن بالحي المحمدي ـ عين السبع أو بأي حي من أحياء المدينة أو
الوطن): كم تحتضن هذه التربة وهذا المناخ السياسي "المُلَوَّث" من حاج
ثابت (؟) كم عدد ما أنبتته "دولة القانون" والمشروعية من خفافيش ومصاصي
دماء بالبذلات والالقاب الرسمية: ضابط ممتاز! يا سلام!
ماذا نصون حقيقةً من الشرف؟ وما القدر الذي فوته تجار
الظلام من معنوياتنا وأجسادنا؟ كم أخت وبنت وأم منطوية على جرح المهانة؟ كم فضيحة
منتظرة!
ما أقسى أن يكون "صربُنا" المغتصبون من
"حماتنا"!
3ـ في جميع الأحوال، ومهما تكن التبريرات فإن هذا الملف
المشؤوم هو الحجة الوحيدة التي قدمها خصومُ الأموي، بعد اعتقاله على نظافة ذمتهم،
وطيب التربة التي وفروها، فليسعدوا بالثمار وليزينوا بها وجههم أمام العالم...
إنها منقبة يتحدون بها الصرب أمام العالم.
(الاتحاد
الاشتراكي27/03/1993)
قال: كنا نهُش على االعِلافْ.
حتى لا يقترب منها
االعِجافْ.
ـ 3 ـ
ذيل قصير بعنوان
طويل:
"منغنطي" ولكن!
حين ظهر ستيفن آيت إيدر على شاشة التلفـَـ زة المغربية شابا يافعا يدل مظهره على أنه كان
مشردا ضائعا؛ لا تظهر عليه مهابة العلماء ولا سمت الواعظين، قال بوقرفادة (وترجمته
بالعربية: عريضُ القفا): هذا هو العجب! هذا هو اللي بْغا يعلم أحفاد موي إدريس
والمهدي بن تومرت الإسلامّ! هذا اللي بغا يعلمنا فقه مالك، وطريقة الجنيد السالك؟
قالها بلكنة فاسية "تقطع القلب".
وعندما خلا لنفسه فيما يشبه العتاب، وبدأ يسترجع الظروف
والأسباب، سمع في أعماقه صوتا هاتفا في الظلام:
...
كفى .. كفى ..! أين كنت يا عريض القفا؟
أما تفكر في شيء آخر سوى العلافة (!)
اقترب ، مدَّ يدك، هذي عصاي...!
أجاب متضامنا مع الجوقة، وتخمة البسطيلة تلعثمه:
كنا
نهُش على العِلافْ. (جمع علف)
حتى
لا يقترب منها العِجافْ، (جمع أعجف)
كنا نبحث
في المعاجم والموسوعات الإسبانية، ونستفتي فقهاء
اللغة
والتراجمة المحلفين عن معنى "منغنطي".
كنا نظن
منغنطي شيئا مُشينا فإذا به لص !
...الذي يشتري الأصوات من الفقراء والمعوزين... مقابل أضحية هزيلة يُسخِّرُ شَعيرة دينية
من أجل التزوير فيضربُ الدين والوطنَ بحجر
واحد!...
ـ 4 ـ
الأم الشرعية
في دائرة الطباشير الانتخابية
الإحالة هنا على "دائرة الطباشير القوقازية" ثم
على الأصل الشعبي للحكاية العالمية المشهورة. وإلا لكان من الأحسن أن نقول:
"دائرة الحب الانتخابية". تحكي القصة خبر سيدتين، أو سيدة وخادمة
تنازعتا بنوة طفل، ورَفعتا أمرهما إلى القاضي. كانت معالم الحق والباطل في ذلك
الزمن ملتبسة كما هي ملتبسة في واقعنا الحالي أو أكثر: كان المتهم بريئا لا تثبت
إدانته حتى لو ابتلع شركة أو مكتبا أو حتى ضيعة تفاح بأشجارها، وكان البريء متهما
حتى يدخل سوق رأسه ويشتغل بما يعنيه، حتى "يأكل القوت وينتظر الموت" لا
يزيد على ذلك ولا ينقص.
تألم القاضي لحال الطفل ألمه لحال الأم الحقيقية لو أخطأ
الصواب وفرق بينهما.
ولكن كيف يمكن إثبات الأمومة الشرعية فالأوراق على علاتها وقابليتها
للتزوير مفقودة، وغير مفيدة، والشهود على علاتهم وقابليتهم لشهادة الزور والبيع
والشراء غير موجودين ولا جدوى من وجودهم. ومع ذلك لابد من حجة لاثبات الأمومة
الشرعية، لا وقت للانتظار فالطفل يكبر ولا مجال للتأخير..
فجأة أشرقت في ذهن القاضي فكرة!!
الأمومة؟ ما الأمومة؟
الأمومة حب!
الأمومة تضحية!
من تحبَّ أكثر وتضحي أكثر في سبيل من تحب فتلك الأم
الشرعية، ولا عبرة بغير ذلك.
"لتدخل المرأتان والطفل"!
رسمت الحكاية دائرة في الخيال! ورسمت المسرحية ذاكرة
بالطباشير.
وضع القاضي بيديه الطفل وسط الدائرة وانسحب إلى كرسيه. قال
للمرأتين: ستمسكان بالطفل وتنتظران الإشارة، وبعدها تجذبان الطفل، ومن أخرجته من
الدائرة فهي أمه. قفزت اليمنى داخل الدائرة وأمسكت بذراع الطفل بقوة وهزته هزة
عنيفة، في حين تقدمت اليسرى بخطى متثاقلة فاتحة ذراعيها تحتضن خيال الطفل، وحين
وضعت يدها على ذراعه أحست بتدفق الدم بينهما دون ما حبل سري، كان القاضي يتبع
المشهد عن قرب، وكاد يصيح: ظهر الحق، غير أن الحكمة والتجربة اقتضت الاستمرار في
الاختبار حتى النهاية.
ما كاد يعطي الإشارة ببداية المباراة حتى كانت اليمنى قد
جرت الطفل خارج الدائرة بعنف كاد يفصل يده عن جسده صائحة: ها أنت ترى إنه ابني.
غير أن القاضي لم يلتفت إليها كانت عيناه عالقتين بيد
المرأة اليسرى التي تحجرت في مكانها من هول ما رأت، ما زالت يدها ممدودة في
الفضاء، وأصابعها مُفرَّجة تتلمس موقع ذراع الطفل، ما زال الدم الساخن يسري في
جسدها عبر شرايين تراها عيانا فتحاذر.
النطق بالحكم:
قال القاضي: "الابن لمن يحبه أكثر ويضحي من أجله أكثر.
من يحب لا يقتل محبوبه، القاتل أناني واهم. من يحب يضحي في سبيل محبوبه حتى بأغلى
الأماني والمشاعر الذاتية، بل يضحي بالروح".
وحين خرجت من دائرة الطباشير إلى الدائرة الانتخابية. قلتُ،
مع نفسي، كيف نقتل الوطن، ونحن نتصارع من أجل التعبير عن حبه والانتماء إليه
شرعيا.
عَبَرَ بيت شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت
أخلاقهم ذهبوا
عبورَ البرق، وعبرت أمثال وحِكم وبقيت الدائرة الانتخابية
نقطة بدون إنارة.
هل هناك ما هو أقتل للوطن من إفساد أخلاق المواطنين
والاتجار بالقيم السامية:
وما زَيَّنَ
الأوطان إلا رجالها
وإلا فلا
فضل لتُربٍ على تربِ
الذي يشتري الأصوات من الفقراء والمعوزين ـ وقد "كاد
الفقر أن يكون كفرا"ـ مقابل أضحية هزيلة يُسخرُ شعيرة دينية من أجل التزوير فيضرب
الدين والوطن بحجر واحد، يا للبراعة!
وأكثر منه ذلك الذي يعد الناسَ، ضمن حملته الانتخابية،
ببناء مسجد يؤسسه على "التقوى" الانتخابية، ويصلي فيه مع مجموعة من
"الشلاهبية".
لا أريد أن أعدد الأمثلة ولكن لابد من وضع سؤال، بهذا
الصدد، على السيد المفتي، وأتمنى ألا يكون متحزبا إلا لله والوطن، والسؤال هو:
هل تجوز الصلاة في مسجد أُسِّسَ على تزوير الانتخابات، وهل
تُقضى سُنة بأضحية تقرب بها المرشح من مقعد البرلمان أو البلدية، وهل يلزم اليمين
مسكينا أدى القسم بمقابل مادي ليصوت لصالح فلان، وقس على ذلك كل صور التزوير التي
نسمع عنها بتواتر هنا وهناك من أصقاع هذه الأرض، ما كان منها في حجمه، وما كان
دونه أو أكبر منه.
أما أنا، فإن كان علي يوما أن أختار بين المساهمة في تمزيق
جسد وطني،
وبين الانطواء على جُرحي وكبتِ آمالي فإني لن أتردد في الاختيار الثاني، حتى يحكم الله
وهو خير الحاكمين.
(الاتحاد
الاشتراكي 24/06/ 1992)
... مايزال في
العالم من يفكر في أن البادية
لا تصلح إلا كاحتياط بشري يمارس
الردة
ويزكيها كلما اقتضى الأمر ذلك...
ـ 5 ـ
العودة إلى مسقط الرأس
البيكوب والزغاريت
"لا تبدي بعد الإسلام"..
حين رأيتُ نسوةً يُحشرن في بيكوب، ورجالا يحشرون في آخر
ينقلهم وينقلهن إلى البادية قصد التسجيل في اللوائح الانتخابية حسب مسقط الرأس
لدعم البادية وترجيح كفتها على المدينة، وحين رأيت أماكن تجمعات بعض الأحزاب
وجمهورها تذكرت الحديث أو الخبر المأثور: "لا تبدي بعد الإسلام".
ليكن حديثا أو خبرا مأثورا أو حتى مجردَ اجتهاد من الخليفة
عثمان الذي ينسب إليه الخبر فهو في كل الأحوال موقف تاريخي يستحق التأمل
والاعتبار.
العودة إلى البادية في سياق الخبر المذكور كانت تعني
مقاومةَ المشروع الإسلامي الذي انطلق من "المدينة" التي حلت محل يثرب،
المدينة التي امتدت عبر البصرة والكوفة
والفسطاط وبغداد والقيروان وفاس وقرطب
ومراكش ... إلخ
البادية في سياق الخبر كانت موطن الردة، والأعراب الساكنون
للبادية يذكرون بقول الله: "الأعراب أشد كفرا ونفاقاً…"
لذلك ما فتئت الأمم، وخاصة في العصر الحديث، تبذل قصارى
جهدها لتمدين البادية: بالمدرسة والمستشفى والتيار الكهربائي وقنوات مياه الشرب
والري والطرق المعبدة والقناطر. تيسيرا للعبور نحو المدينة. نحو حياة أكثر تنظيما
تقوم على التبادل بدل السلب، والتراضي بدل الإكراه، والكرامة بدل المهانة.
غير أنه ربما مايزال في العالم من يفكر في أن البادية لا
تصلح إلا كاحتياط بشري يمارس الردة ويزكيها كلما اقتضى الأمر ذلك.
هذا على الأقل ما فكر فيه جينرالاتُ الاستعمار الفرنسيون
حين دفعوا عملاءهم مثل الكلاوي والكتاني إلى تأليب البادية على المدينة مستغلين
الجهل بالواقع والعواطف الدينية الساذجة. فكان أن حُوصرت المدن من طرف البدو
لترجمة "الشرعية الشعبية": الشعب يرفض مشروع الحركة الوطنية، أي يرفض
الاستقلال(!) ولكن التاريخ لا يرحم، لقد تحقق الجهاد الأصغر، وها هي أقدامنا
"تعرك" في الجهاد الأكبر، وها هم من جديد يعودون إلى البادية لتقول
وحدها الكلمة الفصل في المستقبل.
وها هو البيكوب يسخر من شرودي يسير بسرعة يسيرة، ونساء على
متنه "يُزغرطْن" هكذا، فتميل وتتأرجح بين الحفر "داها وداها والله
ما خلاها"، عبرت كل التجزيئات المحيطة بالمدينة الناشئة واندمجت في مُثار من
النقع يَنداح من حولها في موجات متلاحقة، كانوا وكنا في الطريق نحو مسقط الرأس،
وفي عنق الوادي السحيق لوح الشيخ للشيخة: "نتغذى في خيمة التسجيل". وفي
المساء يعودان ليسقط رأساهما في المدينة ثانية.
وحده البيكوب لم يفهم شيئاً، قال: عهدي بنفسي أحمل البدو
إلى المدينة لتزيينها مبندرين مغيطين يصطفون حول الطرقات في قيظ الصيف وقر الشتاء
يصفقون للوزراء وما دون الوزراء، وهم يدشنون..إلخ. واليوم أحمل أهل المدينة
ليمارسوا السياسة في البادية بين أشجار الصبار(!)
أنا وحدي لا أعود إلى مسقط رأسي، لأن العالم يتقدم.
(الاتحاد
الاشتراكي 30/09/92)
"قال: من يُحيي العظامَ وهي رميمٌ"؟
"قُلْ: يُحييها الذي أنشأَها أولَ مرةٍ"
ـ 6 ـ
عـودةُ الرِّمَـمِ
[السياسية]
الله سبحانه حين يُحيي العِظامَ وهي رميم، يُحييها لنُقدم
الحساب، لتقول: يا حسرتا على ما فرطت!
أما رِممنا فتُبعث وقد مزق كتابها أو قضمته الفئران في
الدهاليز المظلمة. Stop فهذا أمرٌ بعيدٌ عنا.
ولولا أن هذه الرمم تتجه نحونا لتخاطبنا بكلام الأموات وتفرض علينا أن نعود معها
لنعيش حياة الكهوف، ونعيد تجربة أهل الكهف لما خضنا في هذا الموضوع.
أكثر من ثلث قرن مضى على تلك الجمل الرثة، عدد العاطلين
الجامعيين وحدهم اليوم أكثر من عدد المتمدرسين يوم كانت الرِّمة جسداً وكان لها
لسان يخطب بالكلام نفسه الذي نسمعه اليوم. لسنا عاقين بأي حال ولا نرضى أن نستهين
أو يستهين غيرنا بأي "شاهد" من شواهد قبور موتانا، ولكن لن يقبل أحد أن
يخطط مصيرنا من القبور.
للميكروفون حرمة، فاتقوا الله في الأسلاك إن لم تتقوه في
البشر.
"تْخوض الماء ُطلعُو لفكارن".
"ذا واحد" (بلهجة مصرية) وضعوه في ثلاجة حتى
"كَزّ" لحمه، واصطكت أسنانه ثم سخن تسخيناً مستعجلا في ماء ساخن جدا
ففقد كل ذوق ونفع. اهترأ لحمه وخرج مُسرعاً إلى "الجوطية" ليشتري أولَ
زمّارة تعرض عليه ويضع نظارة شديدة السواد، وطاقم أسنان إضافي…
وَ"ذا واحد" ماتَ أبوه فاحتضنته دجاجةً خضراء
خنقها ثعلب في ظلام دامس واستباه، فصارَ من يومها ربيب الثعلب يُحملق في الدجاج
ويعبد إله النظام الدولي.
و"ذا واحد" وعدوه بتاج سليمان فقال: يا حي يا
رزاق، اللهم أطعمنا من حيث لا نحتسب يا خير الرازقين، فكل يوم تنزل عليه وحده
مائدة من السماء.
قال الأول:
ـ"هَنَا جِيتْ!!"
(ولم يجبه أحد) فاستأنف:
ـ ما علينا، أنا جيت غيرْ نكولِّكُم، أُوهَنَا كَلت!
ـ أنا جيت نكول لكم، وأنتم كلتو قبل ما نكول لكم.
(عمت همهمة وفوضى)
فقال: شكرا، شكرا. بلا ما تصفقوا أنا عارف… صفقوا…
قالوا: (هُو… هُو…)
(قال له الذي بشماله: ها هي قِلةُ الأدب بدأت، هاهم
المشوشون… فمضغ لسانَه، وهو من اسفنج أي البُونج، ثم قال:
ـ أنا اسمحوا لي. ما كنت حاضراً يوم كانوا يكسرون عظامكم
ويخنقون أنفاسكم في المخافر، في القرى والدواوير.
ـ أنا اسمحوا لي ما كنتُ عارفاً بأنكم "ما
خدامين".
ـ أنا اسمحوا لي ما كنت عارفاً بأنكم مدفونون في هذه المزبلة!
حرامٌ: أنا سأُهيل عليكم التراب إن شاء الله.
ـ أنا اسمحوا لي ما كنتُ أصدق بأن كل ما تقوله صحافة
المشوشين صحيح… (وقاطعوه)
(هو..هُو..هُو..هُو.. .. .)
قال له الذي بيمينه: لا يهم فهؤلاء من يسمون أنفسهم البطالة
المثقفة، لقد كاد الجوع يقضي عليهم بسَلا حين اعتصموا هناك إنهم مع ذلك حَصاةٌ في
الحِذاءِ، فهم لا يصدقون الكلام:
إن قلنا لهم: سنشغّلكم، قالوا: ماذا تنتظرون؟ هاتوا
برهانكم! فأنتم الكُلُّ في الكل، قبل أصواتنا وبعدها.)
استأنف: ـ اسمحوا لي أنا ما سمعت قط بأن الجامعة يمكن أن
تكون خطرا على سلامة المواطنين بهذا الشكل، أعدكم بقطع جذورها من الأعماق من حيث
لا يدرون.
قالوا: أَسْمَعْ!.. أَسْمَعْ لَمّْـ…(أعوذ بالله)، أَسْمَعْ.. أَسْمَعْ
والله لو قفزتم إلى السماءِ أو غِصتم في البحر أو انْحشرتم في طيات الأراضي السبع
لأسْتلَّنَّ أصواتكم كما اَستَلُّ اللقمة من أشداقكم…
ـ (هُو.. هُو.. هُو..)
وختم محركاً رأسه في غيظ: ما بْغيتُو تْسمعو، وخَّا الله
اِهنكم.. وخَّا.. وخَّا.
وتحرك الموكبُ مُحدثا الكثير من الضجيج مخترقا الشارع
الرئيسي للمدينة الصغيرة.
(الاتحاد
الاشتراكي)
قال الشاعر العربي:
والشيخُ لا يتركُ أخلاقَه
حتى يُوارى في
ثَرى رمسِه
ـ 7 ـ
هزة قط..
أو محالمة الشيخ
عبد الجبار
الشيخ عبد الجبار هو نفسه شيخ الحومة التي أسكنها منذ ست
وخمسين سنة، أطال الله عمره لا ينقطع عن محالمتي، والمحالمة هي أسمى درجات التواصل
بين الحاكم والمحكوم، ومُؤدّاها أن تقرب الإدارة من المواطنين لدرجة ألاَّ يحْلم أحدُهم إلا ويدخل معه الشيخ
عبد الجبار في موجة أحلامه، قصيرة أو طويلة، صوتا وصورة، يشرح3 له بعض المفارقات
ويعيدُه إلى نومه آمنا مطمئنا. وهذا نموذج لمحالمة حول وقائع الأسبوع الماضي:
قلت في حلمي:
جميل جدا أن يتهجّى وزيرُ ثالثي مُكلف بالأمن أو الداخلية.
كما يقال،... وزير عربي... يا عربي... بالعربي الفصيح (والعهدة على الحلم)، أن
يتهجى كلمة ديمقراطية دون تلعثم أو رشح جبين أو استكبار لتبعة ما ينطق به حتى ولو
قال الآخرون كبرت كلمة تخرج من أفواههم...الخ... فمعنى ذلك أنه اكتشف الطريق
الصحيح نحو الأمن...وفضل أن يستظل بالشجرة على أن يكسر أغصانها المتجهة نحو الشمس
على عادته.
الشيء الوحيد الذي عكر علي هذا الاستنتاج هو (الاحالة) هو
(التمثيل) ألم يقل: سنسير في طريق الديمقراطية بخطى ثابتة كما سرنا منذ عقود؟!.
قلت في نفسي: هل يعني بثابتة انعدام الحركة.. وما الجديد الذي نهزُّ به الدنيا إذا
كانت حليمة إنما تسير حسب عادتها القديمة؟!.
انتفضت في فراشي وغمرني عرق آثم، وقلت ـ في مَجرى أحلامي:
هذا غير ممكن.. هذا خطاب ملتبس. وفي الحين غمرت صورة الشيخ عبد الجبار وصورته مجرى
الحلم. وهمشت كالعادة قائلا: إنما أحلم...
قال الشيخ عبد الجبار شارحا الخطاب الملتبس مقتطفا من مؤلفه
الجامع: الفتوحات الشيطانية في شرح المواهب الديمقراطية:
بل هو الممكن.. بل هو الكائن.. وليس في الإمكان أحسن مما
كان..
الديمقراطية ملل ونحل، وكل يُحيل على ملته ونحلته...
فلو فرضنا أن زرواطة زينت و طُلي رأسُها بالحلوى (لاَباني
مَثَلاً) لتعشقها الأطفال، ولو أنها نقشت ورصعت بالجواهر، أو أُلْبِسَتْ لباس عروس
لأثارت عواطف نبيلة، والهراوة هي الهراوة، ونحن هم نحن رمز الأصالة والثبات على
الموقف، والموقف معروف، ونحن عليه كعلامات الطريق.. ولن تكون الديمقراطية عندنا
بهشاشة "البغرير" أو "الباسطا"، وهذا ما تحلمون به لأنكم إنما تفكرون في قضمها
وازدرادها... الديمقراطية زرواطة مرصعة بمسامير لامعة ذهبية وفضية تسُرُّ الناظرين
وتوجع الطامعين، وفي المزود ما فيه.
عجبا لكم ما رأيت مُلحا معنتا يدانيكم في الإلحاح والاعنات،
لكأنكم ستحظرون علينا الأقوال، وتخرسون ألسنتنا، أكلما تلفظنا بكلمة سجلتموها
وطلبتم إنجاز محتواها قبل أن نفكر نحن أنفسنا في معناها. إن ذكرنا رقما قلتم هاتوا
برهانكم، ونحن "إنما نخوض ونلعب"، وإن وضعنا حجرا قلتم متى الإنجاز، وإن
أعدنا وضعه للتأكيد ثانية وثالثة ورابعة... سخرتم منا. سخر الله من..
والله ما جزاؤكم إلا العقا... لا لا بل الديمقراطية..
إنما أنا شارح ولم يصدر إلي بعد أمر بالتصريح.. لحالكم معنا
أشبه بحال المسافر الذي قال لحماره "سر سلط الله عليك السبع..." وفي
الحال ظهر السبع معترضا. فسُقط في يد الرجل فاستدرك: "ألا يحق للمرء أن يضحك
مع حماره"، دعونا بربكم نضحك مع من نريد...
قلت للشيخ:
ولَحالُكم أنتم معنا أشبهُ بمحكمة القط والفئران.
يحكى أن قطا هرما تاب إلى الله وقرر أن يكفر عن سيئاته وما
صدر عنه من عبث بالفئران حية، وتكسير لعظامها ميتة. فنذر على نفسه أن ينشر العدل
بين القطط والفئران، فحجَّ واعتمر وتصدر للقضاء: لبس جبة القاضي، وكور عمامة سترت
أذنيه (وأخطر ما في القطط قبل الأسنان والمخالب الآذان والعيون). وكحَّل عينيه
لطمس بريقهما، وحمل المِدَبَّة في يده اليمنى والمُدَوَّنة في يده اليسرى...
تقدم إليه المتقاضون في مجلسه المهيب...
نظرت إليه الفئران وتأملت بخبرتها وتجربتها القديمة المريرة
مع القطط الشريرة، تأملت حركاته الغريزية التي تسبق عقله، وتتحدى ميثاق التوبة
لديه، كلما دنا منه فأر سمين، إذ تصدر عنه ارتعاشات وتتشنج عضلات شَدْقَيْه، وتكاد
تخرج أظافره من أغمادها. فقالت (الفئران) بصوت واحد (وهي ليست غبية إلا في خيال
القطط):
سبحان الله..(!) الجلسة جلسة قاض والهزة هزة قط(!).
(الاتحاد الاشتراكي03/10/1991)
...بين الحوار والعنف يوجد موقع ومنزلة
هي منزلة التزوير. التزوير ليس عنفاً كما أنه ليس حواراً.
أقول هذا وأنا أرْصدُ علامات
التعجب والاستغراب على محياك، ولذلك أرجو الانتظار.....
ـ 8 ـ
"ولوْ طارَتْ مَعْزَا"!
هذا مثل مغربي عميق الدلالة.
وترجمته بالعربي الفصيح: "حتى وإن طارت فهي
عنزة"!
أصل هذا المثل فيما رُوي أن رجلين شاهدا من بعيد حيواناً
أسود يركضُ، فقال أحدهما: إنه ماعز، وقال الثاني: إنما هو غراب. وتراهنا على ذلك،
ثم حثَّا الخُطا نحو الحيوان للتحقق من فصيلته وجنسه. دَنيَا منه بخطىً حثيثة،
وكانت معالمُ غُرابِيتِه تتضحُ مع كل خطوة، ثم اتضح أنه يقف على رجلين، ولكن ذلك
لم يكن ليُقنع صاحبَ الماعز حتى كانت المفاجأةُ ـ ولا مفاجأةَ مع قلة الحياء ـ
فطار الغراب: مُبتعداً عن هذين الفضوليين من بني البشر، فصاح صاحب الغراب: ظهر
الحق وزهق الباطل(!) غير أن خيبته كانت كبيرة عندما ردَّ صاحبُ الماعز بقوله:
"ولو طارت معزا"
إن هذا المثل يصور حالةَ الانتقال من مُستوى الحِجاج إلى
مستوى العُنف، ذلك أنه لا خيار لنا في الأمر: فإما أن نسلم بأن هذا الرجل جاهلٌ لا
يعرفُ الفرقَ بين الماعز والغراب، وهذا يخرجه من دائرة الحوار والسجال، ويقتضي فرض
الحجر عليه لتعليمه، وإما أن نفترض أنه شاعر سُريالي أو رمزي مُغرقٌ في رمزيته
يخلط عناصر الكون ويدمجها وهذا ما لا يسمح به المقام.
فيبقى، كما ذكر، احتمال واحد وهو أنه قد نفضَ يده من منطق الحوار،
وفضَّل ممارسة العنف. وفي هذه الحال لا مفر من عزله ومقاطعته حتى يفيئ إلى
"أمر الله" ويقبل الحوار والأخذ والعطاء. وهناك احتمالٌ آخر نستقيه من
سلوك الأطفال، وهو الوقوفُ في وجهه وتقريبُ الأنف من الأنف بطريقة استفزازية
والصياح أقصى ما يمكن: كلما قال "معزا"، نقول له: (غرابٌ)، إلى يوم
القيامة، ذلك أن هذا المشهد إنما يكون عادة تمهيداً لتبادل العنف بالأيدي والأرجل
بعد اللسان والحنجرة.
بين الحوار والعنف يوجد موقع ومنزلة هي منزلة التزوير.
التزوير ليس عنفاً كما أنه ليس حواراً. أقول هذا وأنا أرْصدُ علامات التعجب
والاستغراب على محياك، ولذلك أرجو الانتظار قليلاً:
التزوير هو إفساد للحوار، هذا أمر لا جدال فيه، ولكنه لا
يخلو في الوقت نفسه من اعتراف باللعبة والنظام ومحاولة تقديم الحجة داخل هذه
اللعبة نفسها على الأهلية لحق من الحقوق.
ولهذا السبب يكون التزوير جزئيا حتى يندمج بالسَّليم ويختلط
به ويصعب كشفه، ويكون المزور خائفاً من أن ينكشفَ صنيعه، كما نلاحظ حتى في الدول
العريقة في الديمقراطية، فمن حين لآخر ينفجر "غِيتٌ" فيخرج منه رئيسُ
دولة أو وزيرٌ مطأطئ الرأس، خاسئاً وهو حسيرٌ. فالمزور لإيمانه باللعبة أو لاضطراره
لها لا يَضرب ـ حين ينكشف صنيعه ـ لا بيد ولا برجل، ولا يطمع في أن يحول الغراب
إلى مِعزى، أو يحول الفيل إلى الديك. بل يترك المجال لمن يرضى باللعب حسب قواعد
اللعبة لا حسبَ هواه. يستقيل أو ينتحر حسب ما وهبه الله من حياء، أي لا يحنزز
مثلها… التي تعرفها!
ولذلك حين أسمعُ بالحديث عن التزوير في بعض المواقف، أقول:
لا، أيها الإخوة، بل القضية أكبر من التزوير، لأن التزوير مجرد مخالفة يرصُدها
الفقه، أما العنف فإنه يدخل في الخلاف العالي، أي في الحديث عن قواعد اللعبة
نفسها.
وهنا يحضرني تفريقُ الفقهاء بين السرقة وما ليس سرقة، فالتزوير
سرقة لأنه يتم خلسة أما العنف فاغتصاب.
وحين يُمارسُ العنفُ على طائفةٍ من الناس ثم تجدهم يتحدثون
عن التزوير والضمانات وما شاكل التزوير والضمانات فهم إنما يفعلون ذلك من باب صون
ماء الوجه، أو صوناً لأمانة أكبر أو لمجرد العجز. والله أعلم.
(الاتحاد الاشتراكي..)
... أتشك، بعد
هذا، أن عهد الهراوة قد ولى؟
أصدقني القول هل "سيديرونها هراوة" مرة أخرى بعد هذه الكؤوس
الديمقراطية؟...
ـ 9 ـ
لِحية أبي شُعيب
المدعو: بو سْعيب
بوشعيب، والحقُّ يقال، هو اسمُه الأصلي الذي اختاره له أبوه،
وأزهق من أجله روح خروف محترم. بعض أقربائه يداعبونه بالتصغير:
"شْعِيبَه"، ولِلُكنه محليه يدعوه بعضهم: بوسعيب، بدون نقط، فيضيق بها
صدره، ولا ينطلق لسانه.
ومع ذلك فعندما كانت تنحطُّ معنويته في المخفر، وعند فتح أي
محضر، تضيع النقط من شِينِه، فيجيب:
"بوسْعيبْ،
نْعامْ أَسْ".
وتغرق
الصوامت
في صمته
ويغورُ اللسان.
منذ حوالي عقدين سمعَ ابنَه البكر، وهو تلميذٌ في السنة
السابعة ثانوي يتحدث عن سَلفي اِسمه أبو شعيب الدكالي، فانتفض من تعب يومه ليعرف
قصة رجل باسمه، ومن بلدِه.
عالم من دكالة،
ولم لا؟
من يومها لم يفارقه
الأمل في أن يكون له اسم بتلك الفخامة: أبو شعيب. إن لم تكن الظروف ساعدته ليصير
فقيها مشهوراً فإنه يحفظ شطراً لابأس به من القرآن، وحولَه الآن، بعد نضالِ ثلاثين
سنة، سبعةٌ من الشباب المتعلم المتحمس، يُسمعونه نُتفاً من العهود الدولية لحقوق
الإنسان ومراتب التقدم التي حققتها بعض المجتمعات في موضوع الحرية والتضامن
الاجتماعي.
...يحس بغبن لحياة
مضت بدون ضمان.
ولكنه يستدرك: وأين
نحن من هذا؟ وينطلق يحكي صور القهر والاضطهاد قديمها وحديثها.
"أنا...
الكثير من أسبابِ محنتي أنني أكتب. كلما أراد العمال كتابة رسالة اِحتجاج أو مطالب
تجلب المصائب، قالوا: فين بوشعيب.." والنتيجة معروفة.
حين سمع أن المعارضة البرلمانية تناقش الحكومة، وعلى وشك
إسقاطها، أحس برغبة في محاسبة النفس والخروج من دائرة سوء الظن التي صارت مغلقة
خانقة. بدأ يمجد العمل البرلماني حتى صار أبناؤه يداعبونه باسم جديد: أبو شعيب
البرلماني!
كان يكتفي بتحريك رأسه، وكأنه يقول: ما المانع؟
في يوم الجمعة جاءني مُحتفلا، جبة بيضاء وحذاء أصفر فاقع
يسر قلبه لا محالة. لباس لم يكن يجرؤ عليه إلا حين يخرج إلى البادية لزيارة
عائلته: أخته ومن تبقى معها من بشر وحيوانات، بعضها له.
ـ لا تنقصك غيرُ
حجةٍ تترشح بعدها للبرلمان لتخرج نهائيا من دائرة السؤال.
قال:
ـ أتشك، بعد كل الذي وقع أن عهد الهراوة و"دين مك" قد ولىَّ؟
أصدقني القول هل "سيديرونها هراوة" مرة أخرى بعد
هذه الكؤوس الديمقراطية، ها هي المعارضة تنتقد الحكومة والحكومة ملتصقة بالكراسي،
وعلى رأس كل رأس ألف علامة استفهام… ما رأيك في هذه الرأس؟ بالنسبة لي
بعض الرؤوس لم تعد رؤوسا.
قلت له: دعك من هؤلاء، وخبرني عن هذه الخيرات، جبة بيضاء
كالحليب...الخ
ـ شوف يأستاذ! "الزريكة" (بذلة العمل) الله
يسامحنا في التخلي عنها، كبرنا بها الأطفال ، وهم الآن رجال نافعون، لا ينكر
خيرها، ولكنها كانت كالحلاوة تجلب النحل والزناببير من كل صوب وحدبز تسقط عليك
"نجوم الليل" كالصواريخ الموجهة بالليزر" "أنا طالع مرة في
آخر الليل ، خرجت من كارنوا حاضي طرافي من السكايرية والشمكارة التائهين حول
البوطوار، أمشي بالطول والعرض، كأنما أخيط، أأو أضرب البرشمان، طلعوا....
"هم" تعرفه؟ (نجوم الليل)، وقاموا بالواجب.
في الإضرابات
يقصدونها كالمنديل الأحمر."
ـ كفى منها الله يجازيها خيرًا!
ولكن البهذلة في الجبة البيضاء، إذا حدثت، ستكون مهينة جدا،
لا تحتمل، سيموت غما، لا قدر الله؟
ومرت الأيام... وتوسعت اللحية حتى نحتت موقعها.
عاد إلى المنزل بعد صلاة العشاء فوجد في انتظاره ورقة صغيرة
خضراء، وريقة معروفة لديه، بداية المناوشة. وريقة من زمن الزرقاء، ماذا أتت تفعل
في زمن البيضاء؟
ـ اثنان سألا عنك، أش عاود درت؟
"الحضور عاجلا لأمر يُهمك، (سطوب)"
قلب عينيه في الاستدعاء طويلا ثم وضعه فوق ركبته التي
أسلمته للأرض دون أن ينتبه.
تخلل لحيته ثم ملأ قبضته منها بقوة، لقد تعب في ترتيبها
وتهذيبها حتى بلغت من الكبر عتيا، وأدركها الوهنُ قبل الرشد..
اِستعرض قصة لحيتين قرأ عنهما في الجريدة منذ أسبوع، وتذكر
ظفائر شيخات خنيفرة التي صال فيها مقص "نزيهة"، فوضع يده الثانية على
خده الأيسر، وظل مسمَّراً في الزاوية المقابلة لصندوق الداخلية الثرثار.
تعكَّر صفوُ الأسرة، فانفضَّ الجمعُ من حوله. غفا متسرباً
من الواقع إلى حلم أقربَ إلى الصحو، رأى أناساً كثيرين بلِحًى بيضاء وحَمراء،
يمرون فوق "سراط" غير مستقيم، مُسَنَّن كأسنان المنشار، يتساقطون ذات
اليمين وذات الشمال. فحمدَ الله، فلحيتُه لا حمراء ولا بيضاء..
فجأة لُفَّ فصلُ ربيعٍ قصير في ورقةٍ من أوراق النظافة..
توهجت شمسُ صيفية قبل أوانها، وخرجَ الحصادون كثيران الكُوريدَا يلاحقون بمناجيل
مُدَبَّبَة كلَّ ما هو أصفر يطيحون بكل سنبلة صفراء ترفع رأسها نحو السماء، وقْتها
تذكر فقرات من خطبة الحجاج حولَ ما أيْنع وحانَ قطافُه، ورأى الدماء تترقرق، من
منابت الشعر.
اِختلفتْ مناجلُ عدةٌ حول ذَقنه.. أكثر من عشرة أكثر من
عشرين.. أعيتهُ المراوغة، وتقليب الرأس ذات "اليمين" وذات
"الشمال" فراراً من ذاتِ "الوسط" نفسها. وانْتَفَضَ مُغمغماً
وقد تصبب جبينُه عرقاً.
ـ "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"
ورَبتتْ على كتفه بقوة متمنيةً أن يستيقظ ليحدثها بما رأى.
ولكنه تمادى مُسْتجدياً النومَ، متمسكاً بخيوط حُلمه علَّه يستكمل كل فصول
تراجيديته.
خطرت له فكرة مراوغة.. وبسرعة صارت لحيته خضراءَ، عُشباً لا
ثَمَرَ فيهُ يُغري الحَصَّادين.. تنفَّس الصُّعداء، وبدأ يُداعب ذقنه بلُطفٍ
وحنانٍ كانَ كالسَّمادِ. طالت لحيتُه وانتشرت يميناً وشمالا تلامسَ كتفيه وصدره..
نعمة حقاً… لم يُنغِّصها حتى تفكيره في احتمالِ مُداهمةِ
الجرادِ للمناطقِ الخضراء، هناك عدةُ حلولٍ.
الخطورة في هذه الحيوانات المرابطة حوله. فجأة وجدَ نفسه
محاصراً وسط مجموعة من شرِّ الدواب عند الله، دواب عوراء مهزولة جوعاً، صماءُ لا
تهتم بأي زَجْر، تَشرئبُّ إليه مُتحينةً فرصةَ الوثوب.
دار ذاتَ اليمين، وذات الشمال. وفي الوسط، حيثُ هو، تتدلَّى
ورقة في وهجِ الهاجِرةِ كتب في زاويتها اليُسرى Amnesty internationale وشمعتها الباكية مُقيدةٌ بالأسلاكِ
الشائكة. في هذه الورقة وتحت تلك الشمعة قرأ هذا الخبر:
"بلغَ إلى علم منظمة العفو الدولية من عدة مصادر أن
لحيةً خضراء، لا حمراءَ ولا بيضاءَ ولا صفراء، قد تكون سقطت في يد دواب عوراء
جائعة. وتخشى المنظمة أن تكون هذه اللحية من ضحايا الرأي. ولذلك تطالب أرباب هذه
الدواب بضمان محاكمة عادلة…"
وضع يده على خده الأيْسر وصفع خده الأيمن، فتأكد أنه ضاع… فاجتهد في الاحتفاظ بتفاصيل الحلـم،
... ماذا تنتظر من خطيب يراد منه
أن يُعبر عن وجهة نظر حزب لا نظر له؟
إذا كُشف السِّر ماتت المسرحية:
القصة فيها سر إذن...
ـ 10 ـ
حيتان الشعب
وحيتان
"الدولة"
كثيرا ما يقدم "أظناء" أمام المحاكم بتهمة
الانتماء إلى تنظيمات سرية، مخربة في نظر الضابطة القضائية الحق العام.
والحقيقة أن تلك التنظيمات ليست سرية مائة بالمائة وبجميع المفاهيم
والاعتبارات، فهي علنية على الأقل مائة بالمائة بالنسبة لجهاز الأمن الذي يخترقها
أو يحيط بها. وهي ليست سرية أيضا بالنسبة للبحر الذي تتحرك فيه السمكة (الشعب).
إذن فالتهمة الحقيقية هي تهمة الشرعية التي تحتكرها
"الدولة". والشرعية في نظر "الدولة"، حين تستبد بهذه الصفة
ولا تشرك فيها الشعب بالطرق الديمقراطية، هي التطابق مع أفكار وعواطف ومصالح
"الدولة"، كل ما يحفظ "للدولة" وجودها ودوامها ومغانمها فهو
مشروع، أي سري، أي لا تراه الدولة ولو كان كالشمس في واضحة النهار، يمكنها أن
تحاكمه وتنفيه في أية لحظة، إذا وجدت لذلك سبيلا حتى ولو كان يحمل في يده شهادة
الميلاد موقعة من طرف الدولة نفسها وليس يُزعجها في هذا الصدد ويزرع طريقها فيه
بالأشواك شيء أكثر مما يزعجها الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية. ولقد أصبحت
مخالب بعض الدول في هذا الصدد مكشوفة يراها الناس ويتبيَّنونها بالعين المجردة من
وراء البحار من أوروبا وأمريكا.
ومن هنا كان السبيل الأسلم هو إنشاء الحيتان المضادة في
جميع المجالات لكل حزب معارض أربعة أحزاب معارضة، ولكل جمعية حقوقية أو نقابية عشر
جمعيات مضادة عبر الجبال والسهول والمحيطات وفي أكناف الوزارات ودهاليزها، والبحر
هو "الدولة" الدولة هي التي تنجح في الانتخابات، الدولة هي التي تمول
الجمعيات بالمال العام، لأنها هي وحدها التي تخدم الصالح العام، الدولة هي التي
تؤنس اليتيم وتجبُر خاطرَ المضطهد من حيتانها.
إن الكثير من الأحزاب التي تمثل الأغلبيات في المسرح
البرلماني في العالم الثالث (أبعَدَنا اللهُ منه) هي أحزاب سرية مهما طبلت وغيطت
وذلك باعتبار أن السرية هي انعدام الشرعية الجماهيرية، ويكفي أن يجف بحر رضا
السلطة واهتمامِها لتجد تلك الأحزاب والجمعيات نفسها مرمية فوق رمال الشاطئ حيث
تلفظ أنفاسها في سكينة.
كثيرا ما يتهكم المواطنون في بعض البلاد البعيدة عنا
(والحمد لله) من مُمثليهم وذلك بنشر إعلانات في الصحف بحثا عن متغيب (أو متغيبين)
ليس سوى ممثلهم في جمعية وطنية.. وهيهات أن يطل عليهم أعزل، إنه مُجرد طُعم، فهو
إنما يظهر في بحر "الدولة"، يحيط به الحرس من كل جانب في "التدشينات"
والاحتفالات أو في قبة البرلمان حيث تلتقط صورته متثائبا، أو مسبحا بحمد الذي خلقه
على صورته.
ومع كل الذي قلته في ممثلي "الدولة" لدى الشعب،
أو الشعب لدى الدولة، في العالم الثالث (أبعده الله عنا) فإني لست مستعدا للتضحية
بهذا الخطيب الوسيم السَّمين الصَّلعة خدمة للمصلحة العامة، المنتفخ البطن بكثرة
ما يحمل في أعماقه من آلام المواطنين الذين شرفهم بالنيابة عنهم… فذلك الإنشاء الذي كان يطنطن به ويتشدق مشرف للغة العربية. من
سيتفوق علينا لو دخلنا مباراة التحدي المعجز بالكلام الفصيح الجميل الخالص لوجه
الله: اللغة من أجل اللغة، الفراغ من أجل الفراغ … كل شيء مفيد في هذا العالم حتى قلة
الحياء العربي.
ولكن ماذا تنتظر من
خطيب يراد منه أن يُعبر عن وجهة نظر حزب لا نظر له؟ إذا كُشف السِّر ماتت
المسرحية: القصة فيها سر إذن.
فهل ستخرج الأحزاب الكثيرة العدد والعدة لدرجة أنها صارت
أغلبية في بعض الدول من بحر الحكومة أو "الدولة" وتتعلم السير على رمال
الشاطئ. اعتمادا على زعانفها؟ هل لها رئة تتنفس بها؟ نحن نقبل منها أن تعيش مرحلة
انتقالية، مرحلة برمائية مثل بعض السلاحف أو البطاريق، حينئذ سيتعرف عليها الناس… ولكن يبدو أن حياة التقشف على البر مرعبة، وغيرُ مُشجِّعة برغم أن
بحر الحكومة (الدولة) يضيق يوماً عن يوم، والتطويل في عُمر التمارين لم يجد نفعاً
لم تزد الحيتان "الحكومية" إلا تضخما وغرابة، واستئناسا بالأعماق، حيث
تكثر الأرزاق. ويظهر أن "الدولة" متمسكة من جهتها بقوله تعالى:
"وابتلو اليتامى…
فإن أنتم منهم رُشدا فادفعوا إليهم أموالهم" ، فتأمل(!).
(الاتحاد الاشتراكي29/12/1991 )
حاشية يتيمة
أعتذرُ عن الاستعمال المشوش لكلمة "دولة" فمعرفتي
بالعلوم السياسية ونظم الحكم صفر على صفر، ومع ذلك فإني، مثل جميع
"المجربين" أشم رائحة الاستبداد من بعيد. لقد رغبت في استعمال كلمة
"حكومة" غير أني خشيت أن أظلمها. أو أن أعطيها أكثر من حقها، فقد تزول
الحكومة وتبقى، الحيتان. وعندما حاولت استعمال كلمة دولة قفز الشعب مطالبا بموقع،
ولم أر أن أستعمل عبارة الجهاز الحاكم للزيادة في الغموض، ولذلك تركت الدولة
محصورة حتى يفك الله سراحها بتمثيل شعبي حقيقي، ولذلك فالخلط نتيجة حتمية في هذه
الظروف.
(الاتحاد
الإشتراكي 14/01/1992)
إلى جانب أخبار
غيلان تقرأ في الصفحة الأخيرة، من جريدة
الاتحاد الاشتراكي 11/02/92، هذا العنوان: "علاء حامد في حديث عن "مسافة
في عقل رجل":"إن مت في االسجن، فليعلم العالم أن ذلك اغتيال.."
تعليق: صدفة خير من ميعاد.
ـ 11 ـ
غيلان
في سوق الرغوة
كانت روحُ غيلان الدمشقي ترفرف منزعجة حول جهاز التلفزة
مستنكرة ما تسمعه من احتمال عرقلة بعض المسلمين لمشروع التصريح بالملكية، وهُم يصفقون
بحرارة لانهيار الشيوعية الملحدة ويُرتلون بخشوع نشيد الهوية الإسلامية والوضعية
الوطنية. قال غيلان: "يَستخفُون من الناس ولا يستخفون من الله، وهو معهم إذ
يبيتون ما لا يَرْضَى من القول". كان يقضم أشياء غريبةً عسيرة الهضم يداري
بها الانفعالَ ويلعنُ بها الشيطان، ويستعيد بالله منه حتى أخذته سِنَةٌ من النوم،
فجثمَ عمرُو على صدره، وقال: "لأتخِذَنَّ من عبادك نصيبا...." وجرت بين
الروحين معركة حامية ترامت إلينا شذرات منها.
قال غيلان: فهمتُ مقالتَك في الابتلاءِ والسَّتر، وفي قدر
الله وحكمته، ولكن:
ـ لماذا إذن تضطرب حين نسألك: "من أين لك هذا؟"،
وتتخذ كل الذرائع للحيلولة دون استصدار قانون في هذا الشأن؟ وقبل أن ينهي السؤال
قال عمرو:
الاضطرابُ حالة غريزية عابرة سنتخلص منها بالتدريج، إن شاء
الله، والجواب عن سؤالك جاهز، قاله من قبلنا لمن قبلكم: سأل عمرُ بن الخطاب أبا هريرة:
"من أين لك هذا المال؟" فأجابه: "دواب تناتجتْ، وتجارات
تداولت"…
وأين أنتم ونحن من ذاك!؟.. ونحن لا نخشى المشاطرةَ. فقد
طُعن عمرُ، ربما لهذا السؤال. نحن نقول: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء
بغير حساب. نحن نصيون ظاهريون: "بغير حساب". وأنتم علمانيون لا حجة لكم
علينا، ظهرت شيوعيتكم قبل ماركس وانجلز. أفتريد أن تستغفلني؟
وعلى كل حال فالذي يطرح هذا السؤال وقحٌ ومجترئ، لأنه يضعنا
في مقام السارق والنشال متجاهلا الهِندامَ الأنيق والصلعة اللامعة والعبارة
المشوشة المضطربة: نحن لسنا مجرد سراق!
أما الجواب عن سؤالك الثاني الذي لن أسمح للصحفيين بتسجيله
فأقول لك:
نحن، يا أخي، نعطي من جيوبنا من عرق جبيننا؛ نعطي الزيت
والسكر والفَرْدَةَ تلوَ الفردة من النعال "والسبابيك"، ونعد بأكثر مما
نعطي… إن الواحد منا يعطي ما وراءه ليضمن ما قدامه، فإن
قطعتم قدامنا بعد بيع ورائنا صرنا بين البحر والعدو…
هل تروننا ألقينا بأيدينا إلى التهلكة؟ هل رمينا بأموالنا
في البحر لنحسبها عند القشريات والرخويات والأسماك؟!
هل وظفناها في مساندة الخمير روج، أو دعمنا بها حماقات
الزُّولُو، أو دفعناها في رهان خاسر مع البوليساريو؟..
اتقوا الله فينا.. لقد دفعناها حية ونسترجعها ميتة: أي
أخرقَ يُسوي بين إكسير الحياة، بين قنينات الزيت الذهبية، وقوالب السكر الهَرمية،
وأكياس الدقيق الخالص البياض، وبين ما نستلمه، مضطهدين بلعنة الخوصصة، من شركات ومكاتب وأراض ميتة مفلسة...
قال غيلان: الرجوع إلى الله لا تغضب... لقد طالت الرحلة،
وجُدِّدَتِ الرُّخصة: "إوَ الله يجعل شِي بركة" "إرْخفوا"
قليلا. وتبسم ساخرا، فقاطعه عمرو:
المسألة في نهاية المطاف مسألة ضمير، مسألة وفاء للأسلاف،
واحترام لحقوق الأخلاف “زَرَعوا فأكلنا.." والختمُ من عندك(!) كمِّل من
رأسك... ولكنكم لا تنظرون إلا إلى الزيادة في "مانضتنا" الزمنية
والمالية وتنسون أننا نُمثِّل... نحن نُمثِّل الشعب رغما عنكم.
ولكن ـ قال غيلان ـ ألا تلعب الظرفية الحالية ضد هذه
العقلية، ألا تخشون من أن يطمع فيكم علماء الآثار، فالأركيولوجيون نشطون هذه
الأيام(؟).
ـ لا.لا. عندنا أوراق نحن نطلي هذه الأيام بنار الوطنية
واستكمال السيادة، وسنحرق عليها كل الأوراق الحمراء. فمت غيظا يا غيلان، لقد وصلت
هذه الساعة أوراقك: أنت الذي أزعجت بني أمية..
تقول بالحرية والمسؤولية يا لئيم، يا غيلان، والله
لتُصفِّقَنَّ معي ما اتسع ذراعاك دقة مراكشية احتفالا بسقوط الشيوعية ودك حصونها
وانهيار معقلها: لنُوظِّفنَّ لهذا الحفل المبارك ألف شيخة وألف كناوي وحمدوش ومائة
ألف نفار وغياط(!) ترحمْ معي على روح شهيد الحرية، على غورباتشوف يا غيلان. وفاض
الزبد من أفواهِ عمرو، وامتد كبحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب. وأحس غيلان
بالاختناق من زحمة الدلالين في سوق الرغوة، فانتفض مبللا بالعرق محشرجا بأصوات غير
مفهومة.
فمدَّ صاحبه صالح يده ووضعها عل كتفه: ضحك عليك الشيطان يا
غيلان، ليس في البرلمان مسلم يتهرب من هذه المسألة، نعم ليس هناك مسلم يستخفي من
الناس ولا يستخفي من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول، فتأمل حكمة
مهلك القرى بعمل مُترفيها يا غيلان.
(الاتحاد الاشتراكي11/02/1991)
إضاءة
كان غيلان موظفا
في بيعت المال الأموي، فرأى الجَوْربَ
الحريري يشترى بأثمان تزعزع العقل، ففقد صوابه، وخرج في الأسواق يكشف السر،
ويقول بالعدل الإلهي، ومسؤولية البشر عما اقترفوا من عُهر ومنكر، فقطعت يده ورجله
من خلاف. قالوا: لأنه يحارب الله وخليفة رسوله. هكذا فهموا قوله تعالى: "إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو
تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض".
وهكذا مالت فقوسته، وصاحبه صالح . فاحذر أن تكون كمبليسا!!
أي ضليعا!!
تساقطت من يده
مذكرات
وخلاصات كل المذكرات،
ورُصِّعت صورة حبيبته بفُتات من
فُتيتِ دماغٍ
بعثره الشاقورُ الأهوج.
ـ 12 ـ
محالمة الشاقور
في رثاء طالب
بِ"القدس الغربي"!
الدخول:
.. قال غيلان، وقد قطعوا رجله ويده من خلاف: لأُنشدَنَّكُم،
باسم الله، مزاميري:
المزمور الأول بعد المائة:
..ثُم التفتُ مذعورا موزعا بين عوالم الغيب والشهادة، خارجا
من الموت إلى النوم، و من النوم إلى الموت، أعي ولا أعي، وأدرك ولا أدرك، فما رأيت
غير كلب، وقطيط مُسْتأسِدٍ، وأسد مستقطط، وتيْمي يفسو عرق النفط... ورأيت بوشا
تربع باسم النفط مخلوطا بالدم العربي على عرش قارة الهنود الزرك (بالكاف)، ليحكم
العالم بالنظام الجديد... ولُمِّعَتْ في عرسه خدود عربية مكتنزة، وزفت إليه في
موكب البؤس العربي مزينة باللِّحى والشوارب المحفوفة بعناية... وفي الزاوية القصية
تكور أبو الطيب يرسل نباله عبر القرون كالضربان إلى جثة هامدة، ما لجرح بها
إيلامُ:
أغايةُ الدين
أن تَحْفُوا شواربَكم؟
يا
أمةً ضحكتْ من جهلها الأممُ!
وتعثرَ اللسان الأعرابي في جملة، فما استقامت له وتعثر
العقل الأعرابي في فكرة فما توجهت له. ولم تتعثر الشهوة الأعرابية بذرة حياء في
مطاردة اللذات من بيروت إلى البيضاء، ولندن والشاطئ الأزرق... ولم يتعثر شبق الانتقام
الأعرابي لا بتاريخ البصرة والكوفة وبغداد، ولا بجُثثِ أطفال العامرية: صامت
النخوة العربية إلا عن لذتي الفرج والبطن.
المزمور الثاني بعد الألف:
...ثم ما كادت عجزة بوش تتزحزح عن صدري حتى جلجل الشاقور
ساحبا الروح عبر شعاب تُرَدِّدُ أصداءَ المحنة... وفي قلب زوبعة حلزونية من
الأضواء والألوان، تستل الدماغ من الجمجمة وتبهرُ الأبصار، رأيت في رُمح الضوء على
عتاب الحشر في البرزخ، رأيت طالبا مدحرجا.. مدرَّجا.. في القدس رأيتُ الطالب تئز
حول محجريه ذبابة زرقاء.
تساقطت من يده مذكرات وخلاصات كل المذكرات، ورصِّعت صورة حبيبته بفُتات من فُتيتِ دماغٍ
بعثره الشاقورُ الأهوج.
سقطت دعوات جدة مَنهوكةٍ محزونةٍ تمد معصما بدت نواشره
برغيفٍ لحفيدٍ، يوم عيد، سيفتح أبواب الجنة..
سقطت تمائم القرن العشرين.
سقطت بلاغة الخطاب تحت أزة شاقور.
وخمسةُ إخوة رأيتهم يحملقون في شاشة التلفاز ليُميزوا ملامح
فارس لن يعود...
ورأيت أبا يصلي في الزاوية المغلقة، ويتأمل حكم الإسلام...
"رُحماك يارب"..
وتتأمل الأم قِماطَ أول طفل، يوم كان الشباب، يوم كانت
الفتوة... وانفتح القماط
انفتح الرحم..
وانفتح الأمل..
وانهال كثيت الرمل، وتاه البحار في ثنايا الإعصار! وانفتحت
الذاكرة:
ها هي الجامعة، ها هو الطالب: ما شاء الله! حصد الابتدائية
عُرسا، رقصت فيه أم فلان وأم فلان، وحصد الثانوية عيدا..وحصده الحقد والعماءُ...
ونكست رأسها "رحماك يا رب".
وجلجل الشاقور مقضبا ولامس قشرة الدماغ:
شَهِّدْ أيها المارق لقد قضي الأمر فيك.
الخروج:
خطر ببال غيلان أن الأمر لا يعدو أن يكون نَزْغاً من عمل
الشيطان، لعله مجرد كابوس فاستعاذ بالله من نزغات الشياطين:
اللهم، إني أعوذ بك من نزغات الشياطين... اللهم إني أسألك
بهول يوم الوقوف، بالزخرف والدخان، بهول يوم النشور أن تزيح عن أمتي ضباب التبويشة،
فقد صاروا بفعلها مُبَرْسَمِينَ.
اللهم إني أعوذ بك من شاقور تركبه مخلاة بلا لجام ولا
شكيمة...
اللهم إني أعوذ بك من الغرق والاحتراق، ومن ضياع منزلتي بين
المنزلتين.
حاشية:
جاء في تمهيد المزمور الأول أن القضاء على الهنود الحمر شكل
بداية وشرط قيام الدولة نصف العالم، وأن القضاء على الهنود الزُّرك يشكل شرط بناء
الإمبراطورية الكونية التي تختلف أمريكا وإسرائيل حول عاصمتها، ففي حين تراها
إسرائيل في القبلة الأولى تراها أمريكا في القبلة الثانية، والأعراب يتتبعون بخشوع
تقلب وجهيهما في السماء.
(الاتحاد الاشتراكي18/02/1992)
وعيناه تفيضان من الدمع حزنا:
لقد أهانوني.
ولكنه نسيَ [..] كلَّ الأيتام
الذين
غادرهم غير مودِّع في مأدُبة
اللئام...
ـ 13 ـ
من مرثية السيد سوغان..
[أو غُرْبَــلَشِّيـفْرْ]
ما أشبه نهاية غورباتشوف بأوراق الصفصاف الذابلة في نهاية
الخريف، تسقط كأحلامه واحدة تلو الأخرى بعد أن قاومت تلك الزوبعة الصغيرة التي
أثارها الانقلاب القطني المفرط التحضر.
غورباتشوف يثير الشفقة تماما مثل ماعز السيد سوغان التي
أبلت البلاء الحسن ثم خارت قواها عند بزوغ فجر كاذب لتسلم عضلاتها المنهكة لأنياب
ذئاب عدة كانت تتربص بها.
قال غورباتشوف، وعيناه تفيضان من الدمع حزنا: لقد أهانوني.
ولكنه نسي أن يقول أي شيء عن كل الذين سبب لهم الإهانة عبر العالم، نسي كل الأيتام
الذين غادرهم غير مودِّع في مأدبة اللئام، لقد فر إلى الأمام "لا يلوي على
شيء".
لماذا يتذكر السيد
غورباتشوف هذه الإهانة التي نالته من الداخل من أناس سيقول التاريخ ـ إن هم أفلحوا
ـ إنهم أنقذوا ما يمكن إنقاذه، ولا يذكر أو يتذكر الإهانة التي لحقت به من طرف
أمريكا خلال حرب الخليج، أم تُراها صفقة شاملة على ظهر العرب تنطوي ضمن ملف الخلاف
العالي.
لقد كانت حرب الخليج الضربة القاضية للاتحاد السوفياتي في
الداخل قبل الخارج، لقد أصبح في نظر الجميع جسدا بدون روح سقطت هيبته ومهابته وهي
رأسماله في كل الرهانات والأزمات الدولية الماضية، وطرح جلدُ الدب في المزاد
العلني: أمريكا وحلفاؤها (إنجلترا فرنسا إسرائيل) يطلبون الإشراف على الترسانة
النووية السوفياتية لتفكيكها. واليابان تدافع عن حقها في احتلال مقعد الاتحاد
السوفياتي في مجلس الأمن. وهلم جرا.
من كان يصدق أن الاتحاد السوفياتي الذي كان يحرك نصف العالم
وزيادة سيصبح بدون صوت ثم بدون وجود. إذا كان لمحبي غورباتشوف أن يسجلوا له مفخرة
فهذه مفخرة مفاخره. أما فيديل كاسترو ومعمَّر القذافي وآخرون فلن يجنوا غير الحسرة
والضيق، فالتنازلات مهما كبرت لا تكفي، وحسن النية والسلوك المستقبلي لا يكفيان
أمام منطق الأقوى، منطق الانتقام والاذلال. ماذا سيُحس الفتناميون يا سيدي
غورباتشوف إزاءك؟
حتى لو نجح الكومنويلت الجديد في رأب الصدع نسبيا، وذلك
بعيد فيما يبدو، فقد لا يصدق أحد أن غورباتشوف مجرد طبيب قتل المريض خطأ... فهل
صحيح، بعد هذا، أن لا أحد يلومه على ما فعل؟ هل تكفي دموع التماسيح التي يذرفها
عليه يلتسين بعد أن سحب البساط من تحت رجليه وجذب المائدة إليه وحده؟ هل يكفيه
نفاق الغرب لتضميد جراح كبريائه؟ أم إن روح الاتحاد السوفياتي ستضطهده بقية حياته؟
كان الاتحاد السوفياتي بالنسبة للأنظمة العربية الوطنية في
صراعها المصيري مع الصهيوينة حزام النجاة الذي يتعلقون به في نقطة الصفر، في لحظة
الغرق: تعلقوا به في أزمات 1956 و1967 و1973.. وعندما امتدت الأيدي والسواعد (على
العادة) للتمسك به سنة 1990ـ1991 كان السيد غورباتشوف (خضير القرن العشرين) قد
خرقها لحكمة غابت عن الجميع. فإلى آخر لحظة قبل انطلاق الحرب البرية في رمال البؤس
العربي كانت أحلامنا المنهكة ما زالت ترنو إلى عيني الدب الذي نسجنا حوله
الأساطير..
فذاكرتنا، نحن العرب ما تزال تستعيد الماضي وتُحمِّضُه، ما
تزال صورة الانزال في تشيكوسلوفاكيا وما صاحبها من تضخيم إعلامي غربي ماثلة في
أذهاننا، نرفض أي تعديل لها، ما تزال جغرافيا الدولة الأكثر إنتاجا للطاقة والحبوب
والسلاح التي تلقيناها منذ أكثر من ربع قرن حية، كل مظاهر الضعف كانت تؤول تكتيكا
وتعمية من طرف حليف استراتيجي له حكمته. حتى جاء خضير روسيا فخرقها فأغرق أهلها،
حتى إذا سألناه عن الحكمة جاءت دعوة الملك خوان كارلوس فلْيرحَلْ إلى قصور اسبانيا
(على حد قول المثل) وليتركنا نعدُّ بأصابعنا أحزاننا حول الحرب النظيفة التي كنست
العرب، وحول الصهيونية التي لم تعد عنصرية. والبقية تأتي..
كثرت مراثي الشرق والغرب لضحية البريسترويكة والكلاسنوس حتى
عمت العدوى وصار الخروف العربي يبكي سوءُ منقلب الراعي الذي أسلمه للذئب، فوضعنا
هذه النقطة على السطر الأبيض.
(الاتحاد الاشتراكي 04/02/1992)
كاسبروف، هو الآخر
يقول:
"قد أحب كثيراً أن أزور المغرب من أجل الرفع من مستوى حمولتي المعرفية
والثقافية، لكن ليس من أجل الدفاع عن لقبي لبطولة العالم. ففي هذا البلد لا يتم
احترام حقوق الإنسان…."
الاتحاد الاشتراكي 24/11/1991 عن
لبيراسيون
ـ 14 ـ
خطاب فوق العادة!!!
Without "كما كنا"
صدق أو لا تصدق فأنا قائل مع الأستاذ غلاب: "صدق اللي
آل". إن خطاب السيد وزير الداخلية
كان (إيجابيا) ـ بدون حصر ـ لقد سمعت كثيراً من النقد للهجة الخطاب ومحتواه
ولكني مازلت مؤمناً بأنه أول خطاب "أَحْرَش" يمكن الإمساك به دون أن
ينفلت من بين الأصابع كسمكة ما تزال في عنفوان طاقتها، أو صابونه مبلَّلة. إنه
خطاب فيه واقعية واعترأف بمسؤولية غير مسبوق! وإليك التوضيح (رغم أني سأعتمد على
ما بقي في الذاكرة فحسب ):
1 ـ الخطاب يعتمد سنة 1991 حجةً على تحقُّق شيءٍ من حقوق
الإنسان دون أن يقول شيئاً عن السنوات الأخرى، ها نحن على الأقل نضع أول قاطرة على
السِّكة، وذلك بشهادة من كانوا لا يكلون ولا يملون في التنديد بضياع هذه الحقوق.
2 ـ وهنا تأتي النقطة الثانية وهي إشهاد مجموعة الدول 12
والتمثيل بها باعتبارها مثالاً.. ألا قبلناه.. ألا فليقبلوا منا الاستشهاد
به دون الاختفاء مستقبلا كما في الماضي وراء جدار الأصالة والشخصية الوطنية،
والشأن ألداخلي. مجموعة 12 تقول حقوق الإنسان ببينة..
3 ـ هناك وعد بضمانات لنزاهة الانتخابات وهذا كلام لا أذكر
أني سمعته قط بدون تقييد بقيد، كان دائما يَنتقُض الغزْل. والعبارة التي كانت تنقض
الوضوء هي: "كما كنا". هل تصدق أني كنت قبل هذه الخطبة أتتبع نصوص الكلام
المتعلق بالوعود بالديمقراطية وحقوق الإنسان وما شاكل ذلك إلى نهاية الجملة أو
نهاية الفقرة أو حتى الخطبة متقصيا أثر كلمة عجيبة هي: "كما كنا"، أو
"كما هو شأننا"، أو "كما جرت عليه عادتنا". فبمجرد ما أسمع
هذه الخطبة تنفرج أصابعي، وتساقط حبات العدس التي التقطتها. فنحن "يا ما
كنا"، ونحن أعرفُ حتى من الوزير(وبكل صدق) بما كنا، فنحن ليس بيننا وبين الذي
كنا عليه حجاب. الخطبة تقول 1991 "اللهم آمين يا رب العالمين".
ولئن كانت الثوبة نصوحاً غفر الله ما تقدم وما تأخر. قل
فتربصوا إلي مع الصابرين.
4 ـ شيء واحد يبدو مريباً وهو ذكر أسماء الأشخاص وتزكية
البعض ولمز البعض. ولأن اللمز مشروع باعتبار الموقع (دون الدخول في الاعتبارات
الأخلاقية أو النظر إلى حقيقة الأمر) فإن التزكية تبدو غريبة نسبياً ليس فقط لأن
الله تعالى يقول: "فلا تزكوا أنفسكم…" ولكن لأن التزكية وفيما يبدو
لي جاءت في غير محلها: فهل يكفي في نظري ذكر شخص والثناء على خصاله الحميدة (ومن
طرف رئيسه أيضا) ليكون ذلك مبرراً لإصدار حكم بتوقيف مجلات أو جرائد وطنية. قرار
إداري نزيه ابن نزيهة؛ اتخذه ذراعي الأيمن باتفاق مع ذراعي الأيسر، فاكتملت
النزاهة: صفقوا لابن نزيهة من هنا إلى السراغنة!
ولم يشتهر عندنا
الاسم الذي ذُكر في باب النزاهة لا باعتباره إماماً من الأئمة الأربع الكبار ولا
قاضيَ قضاة، ولا مفتيا للديار. والله أعلم بشؤون عباده. فهذه القضية حتى وإن بدت
"حرشة" لما فيها من تحديد المسؤولية في شخص، الأمرُ الذي يشكل وجها للشفافية
في الخطاب فإنها خطيرة على من لا يجد من يزكيه، أي على من لم تعترف به نزيهة!
5 ـ وهذا يقودنا إلى الأعوان الذين تم إيقافهم في البوادي
لأقول لماذا في البوادي؟
هناك قرائن كثير تشير إلى أن عددا من المقدمين والشيوخ
الذين أوقفوا أو بدلوا في المناطق الجنوبية، على الأقل، منذ الاستقلال، أوقفوا
بسبب استحالة فصلهم عن جسدهم القبلي، بسبب رفضهم تطبيق ما يرونه مسيئاً لجيرانهم
وأبناء عمومتهم . والله أعلم بما وقع في جهات أخرى.
...لا يصحُّ، من حيثُ الشكل مثلا، أن يضع أحد حراس المرمى سياجاً من الأسلاك أمام مرماه،
ولا يقبل أن يأخذ أحد أفراد
الفريقين الكرةَ في يده
ويدخل بها المرمى…
ـ 15 ـ
اللعبة
شكلٌ وأخلاقيات
(تأمُّل في خوصصة
التزوير)
في امتدادٍ لركن "شبه جملة" الذي نشرنا
طرفا من مواده في هذا الكتيب كتبتُ يوم 16/10/1992 بعد معاينات ميدانية،
وأنا مرشح عن الاتحاد الاشتراكي، في دائرة انتخابية غابت عنها السلطة وحضرت
بركتُها، تحت عنوان: "خوصصة العنف"… باعتبار أن الإدارة بزيها الرسمي قد
اقتنعت بضرورة رفع الحجر عن مخلوقاتها وأيتامها بعد تزويدهم بكل الإمكانيات من
التقطيع إلى اللوائح والبطائق..الخ (فذلك كله عالم من الأسرار مازالت أحزاب
المعارضة مشدوهة أمام ألغازه ورموزه).
وقبل أن أُبيِّض ما سوَّدت حملَت إلينا صفحات الجرائد يوم
17/10/1992 فضيحة عين السبع الحي المحمدي ومثيلات لها في جهات من المغرب، فقلنا
"عادت حليمة إلى عادتها القديمة" فكتبت تحت عنوان (4×4=16 وجهان لعملة
واحدة.) متسائلاً عما قيل من أن 4 ذات طبيعة خاصة ولن تتكرر، فإذا بها تُصبح 4 أس
اثنين. وفي اليوم الموالي قبل إرسال المكتوب إلى الجريدة، قلت: لماذا لا نتفاءل
ونعتبر ما وقع في عين السبع حدثاً معزولاً فحاولت أن أفرق بين نوعين من الغش
ضارباً المثل بما يقع في مجال الرياضة. فكتبت تحت عنوان: (شكليات اللعبة
وأخلاقياتها):
لكل لعبة هيكل وشكل
لا يمكن تبينها والتعرف عليها بدونه، ففي كرة القدم مثلا هناك مَلعبٌ ولاعبون
ومرمى ومجموعة قوانين منظمة فلا يصحُّ من حيثُ الشكل مثلا أن يضع أحد حراس المرمى
سياجاً من الأسلاك أمام مرماه، ولا يقبل أن يأخذ أحد الفريقين الكرةَ في يده ويدخل
بها المرمى… ومثل ذلك سباق العدْوِ الذي يفترض
فيه اتباع خط معين يؤدي الخروج عنه إلى الإقصاء.
أما الأخلاقيات فليست في ظاهر اللعبة وشكلها، ولذلك قد
تنتهي اللعبة أمام الجمهور على الوجه المطلوب، ثم يسحب اللقب من الفائز بعد ذلك
لكونه سَلَكَ سُلوكاً لا أخلاقياً ينطوي على غش يضرب مبدأ تكافؤ الفرص، أويسطو على
حقوق الآخرين. فالحالة الأولى مثل استعمال المنشطات والحالة الثانية مثل اللعب
بدون رُخصة، أو في حالة الخضوع لعقاب سابق.
ومن العبث بأخلاقيات اللعبة أن يعمدَ الحكم إلى استفزاز
لاعبي أحد الفريقين لإحباطهم، مع غض الطرف عن هفوات الطرف الآخر وتجاوزاته (قال لي
أحد الزملاء يوم 16 " إن الآخرين، ممثلي الخصوم، يطوفون حول
"المرمى" والسلطة غائبة… وينبغي أن نراقب ويكون لنا
حضور".
فقلت له: إن السلطة غير غائبة، ولكنها تغمض عينا وتفتح
أخرى، وبمجرد ما تظهر أنت في "المربع" سيصفر الحكم ضربة جزاء، هذا كل ما
ينتظرونه. السلطة غائبة حاضرة حسب الهدف(...)
لقد حاولتِ السلطة في كثير من المناطق الهروب من الواجهة،
لعل ذكرى (4) تتزحزح عنها. فاكتفت باللعب في أخلاقيات اللعبة التي كانت قد
استهلتها قبل ذلك أحسن استهلال باللعب في اللوائح الانتخابية والتقطيع، فخلطت
الفِرق والعُصب وأدْخلت شعبان في رمضان، وفرقت بين المرء وزوجه، (أنا مثلا سُجلت
في الدائرة 28 وزوجتي التي تسكن معي نفس البيت سُجلت في الدائرة 27 لحاجة في نفس
الفاعلين)، مسهلة بذلك عملية البيع والشراء.
وما كدت أنتهي من استكمال هذا التصور وأضع المقالة في
صورتها النهائية حتى بدأت الصحافة والرواية الشفوية تُمطِرُنا بحالات عجيبة من بيع
الضمائر، بيع الأصوات الكبيرة كما يُسميها الأمريكيون، بيع أصوات المستشارين،
فانتقلنا من الفتنة الصغرى إلى الفتنة الكبرى، وارتفعت الأسهم في البرصة فكتبت
شيئاً تحت عنوان (بداية لأية نهاية). هل نحن في مرحلة وسطي بين عهد العنف الصريح
الذي يضرب شكليات اللعبة أصلا والعهد الموعود تاريخيا باحترام أصوات الناخبين. هل
ما وقع مجرد حدث عارض سرعان ما ينتهي بوعي الشعب بزيف المزيفين وقصر نظر تجار
الانتخابات. أم أن الأمر يتعلق بعاهة مستديمة مُعهِّرة، فيها روائح الحشيش والمال
الحرام، تهدف إلى مسخ مُثُلِ شعب بأكمله، لا قدر الله، وحينئذ سيعلم الذين أطلقوا
عفريت المال الحرام أن دعوة المظلومين ليس بينها وبين الله حجاب.
وهكذا توالت
الأحداث الإنتخابية والفضائح الثابتية حتى شُل القول، وبقي حبرا على ورق.
الساخر متعاون "غشاش"؛ يندمج في اللعبة
لكشف "الحكمة"،
وقد ترك الباب مفتوحا خلفه لتيسير عملية الهروب...
ـ 16 ـ
السخرية
والسلطة
الفكر الإبداعي سلاح مجرد من السلاح: أعزلُ، يهجم عليه
الفقيه المتزمت فيمزق الأوراق ويباعد المسافة ما بين العين واللام... ويهجم
السياسي أو الحاكم فيثقب أنف الكلمة ويركب حلقة في خيشومها. ويتحالفان فيُعرض
المؤلف في سوق النخاسة ويموت في ملتقى الظلاميْن: الفقيه يجر أذياله كالطاووس أمام
المكتبات وفي معارض الكتب يصادر ويحاكم، والحاكم يوقع الأحكام باسم الله والأمن...
أما رئيس النحلة ("وهو ضد التزمت والقهر!") فيضع
نظارة خضراء غامقة تخفي عينا عوراء فتريه الثانية كل التبن الأصفر فصاءَ طريةً
خضراءَ ناعمة فيصدق عينه ويكذب العالم، وكل من لا يرى ما يراه فهو "فرخ"
من فروخ (أوفراخ) اليوانان، أو صنيعة علماني من صنائع الشيطان، حسب الأزمان.
لذلك عانى الأنبياء والفلاسفة والمصلحون
يقترحون تصورا جديدا أو مغايرا، فيقول الفقيه والسياسي
(ساحبين وراءهم غوغاء الناس): "ليس في الإمكان أبدع مما كان، "إنَّا
وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون".
في كسر حلقة الجمود يسلك كل طريقه في التربية والإعلام
بالأفكار الجديدة، وانتقاد الجمود وبيان سلبياته...
في هذه اللحظات المظلمة تكون السخرية من أنجع الأسلحة
لخلخلة كل صور الجمود والزيف في السياسة والاعتقاد، خاصة حين يتحول الدين إلى طقوس
مفرغة من كل روح، وتزداد العناية بالمظاهر الخادعة، ويتحول العمل السياسي إلى
خطابة جوفاء مناسك كرنفالية لشغل العامة وإشعارهم بوجود السلطة من أجل السلطة.
إن خبرة المبدعين الساخرين، ومعرفتهم بطبائع النفوس
والمجتمعات تجعلهم ـ وهم يرقبون مجريات الأحداث ـ أشبه بالمتفرجين المتمرسين على
مشاهدة المسرح وتقنيات بناء شخصياته، فكلما زيد في مظاهر الورع وشكلياته وبولغ في
ذلك زادت ريبتهم، وزاد تطلعهم إلى صورة الذئب المتستر وراء فروِ الحمل الوديع.
(وفي هذه الأيام رأيت حملين جميلين في M.B.C يفرشان الأرض التي سيعبر عليها موكب بوش وشامير إلى
الجنة التي يحرسانها).
إن الساخرين موكلون، خلاف المربين والإعلاميين، ليس برفع
الأقنعة التي يضعها المزيفون على وجوههم، بل برسم أشكال ورسوم وإضافة أصباغ وألوان
متنافرة إليها، أوتفسيرها من هذه الزاوية أو تلك في تظاهر بعملية إصلاحها، أو
إعادة إلصاقها بعد نزعها، إن الساخر متعاون "غشاش" يندمج في اللعبة لكشف
"الحكمة"، وقد ترك الباب مفتوحا خلفه لتيسير عملية الهروب في الظرف
المناسب، غير أن وقت الفرار يكون قد فات أحيانا، فحين أنكر الحطيئة هجاء الزبرقان
بقوله فيه:
دَعِ المكارِمَ، لا ترحلْ لبُغيتِها،
واقعدْ، فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
لم يصدقه أحد، بل قيل: "إنه "سَلَحَ عليه"
فهناك ما هو أكثر من الهجاء وهو السخرية.
فقد نقول لشخص مُدَّعٍ: تبارك الله هذا هو الذكاء وإلا
فلا(ـ). أو كما قال عادل إمام لشخص ضخم يتظاهر بفهم أمر بديهي: "أنت سابق
سنك"(!).
صحيح أن الشخص الذي يثير السخرية هو أشبه بلابس طاقية إخفاء
مقلوبة يختفي عن نفسه وتظهر عوراته للناس، ولكني أرى أيضا أن الساخر المبدع هو
الذي يبطل فعل طاقية الإخفاء حتى لو كانت حقيقية ويجعل المحتالين يسيرون مكشوفي
العورات أمام الملأ.
من صور الزيف التي شغلت الساخرين العرب القدماء صورة
اللِّحَى التي كان بعض الوعاظ والقصاصين ومدعي العلم بالفقه وعلوم الدين يتسترون
وراءها، وقد وصفها الشعراء وصفا كاريكاتوريا، كما دارت حولها قصص ونكت تكشف ما
تنطوي عليه من زيف و تشبيهها بالمخلاة عند ابن الرومي، مشهور، و لذلك نكتفي بنكتة
تكشف وعي الناس بزيف مظهر القصاصين:
يحكى أن بعض القصاص قال: إن في السماء مَلكا يقول كل يوم:
"لدو للموت، وابنو للخراب".
(وهذا شطر بيت مشهور النسبة لشاعر معروف) ولكن الحاضرين لم
يصححوا خطأ القاص بل تعمدوا أن يسخروا منه لادعائه العلم، وغفلته عن أبسط المعارف،
فقال أحدهم: نعم، اسم هذا المَلَكِ هو: أبو العتاهية(!) (الشاعر).
وأعتقد أن هذا الادعاء المقرون بالغفلة هو الذي جعل
المستمعين في عصرنا الحاضر، يطمعون في بعض الفقهاء والأساتذة المتسترين وراء
المظاهر فيوجهون إليهم بعض الأسئلة العجيبة من نسخ الخيال فيناسقون أحيانا إلى
الإجابة عنها بحسن نية الشيء الذي يجعلهم عرضة للسخرية، أو ينفعلون فيسبون
السائلين فيخرجون عن مظهر الوقار الذي يتسترون وراءه فتؤدي السخرية وظيفتها في
الحالتين، وهي خلخلة الجمود وفضح القناع وتشويهه وإبطال سر طاقية الإخفاء.
(الاتحاد الاشتراكي03/03/1992)
..إن معرفة الطرفين (المتحاورين) بوجود قانون مسطر
وسلطة قضائية نزيهة، يحد من نزوع
كل منهما
إلى اعتبار ذاته سلطة قائمة
الذات...
ـ 17 ـ
التأثير بالكلمة
بينَ الإقناع
والإقماع
تختلف وسائل التأثير في الآخرين وأساليبه حسب المقامات
والتقاليد الحضارية التي تنبني عليها القيم في كل عصر.
وقد حاول الدارسون قديماً وحديثاً ضبط أساليب التأثير
وآلياته. ويمكن القول بأن هناك ثلاثة أساليب أو مستويات في التأثير في الآخرين
واجتذابهم:
ـ الإرهاب
ـ الإقناع
ـ الاستمالة والخداع
ومهما يكن من تداخل هذه المستويات فإن لكل منها مقاماً
متميزاً وحال تصلح فيه دون غيرها وهذا أكبر دليل على تمايزها.
1 ـ الإرهاب:
يكون بالقول
والإشارة والتلويح والفعل المباشر. يمكن أن نستحضر هنا خطب الحجاج في أهل الكوفة:
"والله لألحونكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب السلمة:.. الخ وخطب زياد بن أبيه
وغيرهما من الخطباء الذين واجهوا مُستمعاً مُشافا،ً لا يحتكم معهم إلى دستور معلوم
محدد، أو قانون تسهر على تنفيذه هيئة قضائية مستقلة نافذة الرأي لا ترد كلمتها.
ذلك أن معرفة الطرفين
بوجود قانون مسطر وسلطة قضائية نزيهة يحد من نزوع كل منهما إلى اعتبار ذاته سلطة.
وهذا ما يجعل هذا الخطاب يغيبُ أو يكاد حاليا في المجتمعات
الديمقراطية. فالمخاطبون بالنسبة للحجاج وجميع عمال بني أمية كانوا ينازعون في
الشرعية علناً مع الشيعة أو مع الخوارج. فلم تكن هناك أرضية يحتكم إليها غير
الكلمة القامعة ممهدة للسيف القاطع أو تالية له.
2 ـ الإقناع:
يمكن إجمال الكلام وتبسيطه بإرجاع الإقناع مبدأ أساسي هو
الدعوة إلى الانسجام 1) انسجام العقل مع نفسه (عدم التناقض ..) (الربط بين الأسباب
والمسببات ..) وما إلى ذلك من عمليات التحليل والتركيب 2) والانسجام مع الأعراف
والتقاليد والدساتير وغير ذلك من القيم والتنظيمات المسلمة المعتبرة أساساً في
بناء كل حضارة على حدة.
ويقوم الإقناع الخطابي عادة على الاحتمال والترجيح. وهو
طابع أي حوار يستند إلى مؤسسات حضارية تقوم على العدل ويحس المتخاطبون فيها بثقل
الكلمة وخطورتها.
وهو طابع المناظرات المذهبية والسياسية.
3 ـ الاستمالة:
تقوم الاستمالة على اجتذاب الآخرين طواعية بإرضائهم أو
مُداعبة حاسة من حواسهم كالسمع والبصر…الخ
وأحسن مجال لذلك في العصر الحديث هو الإشهار الذي يستعين
بالصورة والموسيقى والغناء والمسرح والنكتة وما إلى ذلك من وسائل الاستمالة نحو
المادة المعروضة.
وقد تحدث الجاحظ عن الأزياء والملابس وغيرها من التقاليد في
التأثير في الناس" ..
ولاشك أن طريقة الناس في لباسهم وحديثهم تتفاوت في قصدية
التأثير حسب أوضاعهم الاجتماعية، إلا أنه يمكن القول بصفة عامة بأن المجتمعات
المتضررة صارت أميل إلى الاستمالة. غير أن اعتماد الاستمالة بشكل واسع في
المجتمعات الديمقراطية الحديثة صار ينحو بها نحو الخدعة والاحتيال. وقد بَدا
الاحتيال وكأنه بديلٌ لا مفر منه للقمع.
(الاتحاد
الاشتراكي)
في اليوم السابق لليوم ما قبل الأخير الذي قد يحين يوما، قال لي أحد الحاضرين مشفقا،
وقد علم إني أستاذ ساذج في تلك المواقف:
"أين الورقة الخضراء؟!..فبدأت أفهم.
ـ 18 ـ
الورقة الرمادية
والورقة الخضراء
زوجتي العزيزة أبنائي الأعزاء... أكتب إليكم من الشُّباك، لقد
علقت بالشِّباك كما علقت أم الأسير بقضبان غبيلة، نسأل الله حسن المنقلب.
لا تقلقوا فما نزال، بحمد الله، على قيد الحياة، ولن ينصرم
هذا الفصل، فصل الصيف القائظ حتى نعود إليكم بالورقة الرمادية.
لقد سُمح لنا هذا الصباح باقتحام المكتب ومباشرة الاتصال،
وأصبحت الكلمة المثبطة: "كاين دابا يجي" في خبر كان.
ظهر الحاج فعلا، ظهورَ الهلال، ثم اختفى اختفاء تاكتيكيا..
ثم أطل ثم اختفى ساحبا وراءه إلى المكتب المجاور رجلين بشوشين. وعدنا نردد مع
المرددين: "دبا يجي يا لكبيدة دابا يجي...الخ".
ها هو أخيرا يتسلم مني الملف بعشوائية وشرود ساردا الشروط
المطلوبة في جملة غير تامة ولا قابلة للاستئناف، وكأنما نجري اختبارا في الاختزال.
"ارجعوا غدا"
وفي الغد لم يظهر للحاج أثر، وسألنا عنه فقيل لنا:
"عودوا غدا".
وعدنا في غد الغد والغد الذي بعده مغدغدين عدة أيام، حتى
قضى الله باللقاء. كان ذلك اليوم مشمسا منذرا بسوء.
وقفت أمام الحاج ورجلاي متلاصقتان غضيضَ الطرف، وقلت:
"الله يخليك، واحد الملف، وضعته بأمس الأمس...؛ وهكذا فصاعدا إلى الأسبوع
الذي قبله، والذي قبل الذي قبله..
نظر إلي نظرة استغراب واستثقال وتوجه إلى صاحبه: "فين
لي روجي" (أي المرفوضات):
وضع الملف أمامي بشماتة قائلا: تنقصك ورقة أو ثلاث أوراق.
... وأحضرت ورقة ونقصت في الغد ورقة، وأحضرت ورقة ونقصت في
كل يوم جديد ورقة. وجميع الملفات التي كانت معي استكملت أوراقها منذ أسبوع، وقد
مَنَّ الله علي بسبب هذه المحنة بصداقة مصوِّر اعتاد على تصوير أوراقي يوميا،
وصاحب كشك يبيعني المطبوعات الضرورية، لقد وقع في خياليهما أني تاجر مختص في تدوين
السيارات وإعادة بيعها، وهذه نعمة في حد ذاتها، فالشهرة رأس مال!.
وفي اليوم السابق لليوم ما قبل الأخير الذي قد يحين يوما
قال لي أحد الحاضرين مشفقا، وقد علم إني أستاذ ساذج في تلك المواقف: "أين
الورقة الخضراء؟" فأخرجت ورقة الفحص
التقني وورقة الاستيراد الموقت، وهما في علمي خضروان… فنظر الحاج الموهوب إلي في ازدراء،
وقال للرجل الطيب: دعه فإنه مصاب بعمى الألوان. وتوجهت إلى موظف صغير جدا، يقف في
الباب وينظر ذات اليمين وذات الشمال، ويشير في الاتجاهات الأصلية والفرعية [بل
يضيف اتجاهات غير معروفة]، فقال لي: "يهديك الله، غير التفاهم.. الحاج يدير
شغالو، هو العارف، خليه إدير شغالو، يعمر الأوراق، ودير اللون اللي بغا، غير
التفاهم، مالك محن راسك بسير أوجي ، الله يهديكم".
ووضعت كل الأوراق المطلوبة في الملف غير الورقة الخضراء،
وتسلمه الحاج بطرف أنامله ورمى به بعيدا، قال لي: "سر إلى الغد".
وخرجت أجر قدماي وكلي إحساس بالمهانة... أسير عبر الأزقة،
أجر قدماي، وأنا أسترجع صورة الحاج بشوشا ضحوكا إنسانيا مع بعض الملفات والوجوه،
عبوسا قمطريرا مع وجوه أخرى وملفات أخرى.
وتذكرت أني إنسان، وأني أستاذ، وتذكرت مئات الطلبة الذين
سأتوجه إليهم بعد أيام، وتذكرت الحاج والحج... وماذا سيبقى لي لو عدت غدا بالورقة
"الخضراء"...
سأعود غدا إلى الشباك، وسأوافيكم إن شاء الله بباقي
التطورات والتفاصيل إن طال بي العمر.
(من مذكرات مواطن مغفل)
(الاتحاد
الاشتراكي 28/01/1992)
...ثم طرد من بعدي شابين عاطلين تنقصهما (عنده) شهادة العمل للحصول على شهادة السكنى،
وتنقصهما شهادة السكنى عند (الباطرون) للحصول على العمل...
ـ 19 ـ
صباح الخير
لوجه
الله (!)
بالأمس.
وقفتُ أمامَ الشُّباكِ مُستويَ القامة مُنتصباً كالمنتصبِ
أشدَّ ما يكون الانتصابُ. استعد لقولِ "شُبِّيكْ لُوبِّيكْ، عبدك بين يديكْ،
أخفُّ وزناً من دِيكْ". كانت إحدى يدي على صدري تدْعَم جِداره حتى لا يطيرَ
قلبي كل مَطير. هكذا أنا حين أكون أمامَ الشبابيك، أكون مُتوتراً، أشدَّ توتراً من
الأحدب المصفوعِ في بيت ابن الرومي. هذه مخلفات ذاكرة ثلاثة عقود من التدريب على
التوتر و(احترام) الجالسين خلف الشبابيك في مؤسساتٍ كأنها وجدت لتذل المواطنين،
طالبة فروض الطاعة الطاعة ماديا ومعنويا، ولأنني لا أحب أن أؤدي مادياً حفاظاً على
المظهر فإني أشتعِل طوالَ اللحظة حتى أصبحتُ مزمناً… لا بل مُدمناً وهذا بيت القصيد…
وفي هذا الصباح وقعت الماجأة، وخاب توقعي! من أين خرج لي
هذا الشاب الوسيم الصبوح؟ أيوجد مثله في شباك "عرين الضباع"؟...:
"صباح الخير أستاذ، هاتْ هاتِ الوريقات، عُدْ بعد
الخامسة والنصف لتسلُّم الشهادة".
سبحان الله! أحسست بالإحباط ما سمعنا بهذا. لم أصدق، ذهبت
إلى السيارة ثم عدت، ومن بعيدٍ سألت آخرَ واحد في الصف:
ـ هل هذه الإدارة هي نفسها التي كانت هنا منذ أكثر من سنة؟
هذه مشكلة حقيقية لقد أضاع هذا الشاب بلطفه حقا من حقوقي كمواطن معوق أل التكرفيس،
ولأنني لا أستطيع أن أحتج عليه عدت بذاكرة لإحياء لحظة من السنة الماضية في نفس
المكان، استمعوا وأنصتوا، ولا أضمن لكم شيئا(كتب في 28/5/92).
منذ أكثر من سنة،
وهذا بيت القصيد.
في الثامنة والنصف وعشر دقائق وأشياءَ أخرى من الانتظارات
اللطيف كنتُ على رأس الصف المنتظر. وعندما لمحت سعادته بادرته بتحية إسلامية،
رجوتُ من ورائها تليين عريكته التي تبدو لي من بعيد مُثَمَّنة (الثْمَنْ عند أبناء
جلدتنا هو الخُمَّارُ عند العرب القدماء) مصدَّعة، جلدةً ناشفةً: صباح الخير..
قامت القيامة: نظر إلي شزراً وقطف الأوراق من يدي، وأعادَ
النظر إلي "كَمَّارتي"، ومن "كمارتي" وبصورتها انتقل بصرُه
إلى الأوراق، ومن يده انتقلت الأوراق إلى مستوى أَنفي:
:حاذقون في الكلام.... "سِييييييرْ " كمَّل
أوراقك صبَّحنا على الله".
عرضت مجموع أوراقي على الفضوليين، فقال أحدهم (متأسفاً): يا
صاحبي، يا سيدي، تريد من الرجل أن يُعطيكَ شهادة السكنى دون أن تدلي بشهادة
الإقامة الأبدية مصدَّقة من طرف حفار القبور، لو فرضنا أنه أعطاك شهادة السكنى في
الصباح ومت في المساء أين سيبحثون عنك… هؤلاء يضبطون عملهم..
"ما خاصَّكْ والو، خاصَّكْ غير تَدْخُل سوق راسك لا
تقل له لا سلامْ، ولا غيرْ سلام.. إقض حاجتك واترك البلاءَ في مكانه".
ثم طرد من بعدي شابين عاطلين تنقصهما (عنده) شهادة العمل
للحصول على شهادة السكنى، وتنقصهما شهادة السكنى عند (الباطرون) للحصول على العمل.
قال أحدهما في سِنِّ غضبي: "الباطرون إِشُوتْنَا مَنْ لْهِيهْ أُو هادُوا
إِشُوتُونا مَنْ هْنا".
والناس يلومونهما: اِسكتوا وبدِّلوا الساعة بأخرى.. وفجأة
ابتسمَ كروان لرجل أشار إليه من خارج الصف، فحمل الطابع في يده اليمنى وانصرف في
اتجاه مكتب الرئيس، فانتهى الصباح، وصاح الديك.
(كتب في 10/12/90).
...للتاريخ أجرٌ يرجوهُ الأبرار المخلصون
ويفخرُون به،
وله وِزْرٌ يخشاهُ العاقون الملوَّثون ويشقون به...
التاريخ لا يرحم...
ـ 20 ـ
عُـقَدُ التاريخ
ومِحَنُ الذاكرة
جاء في الأغاني أن حاجب معاوية بن أبي سفيان اِستأذن للأنصار
في الدخول على الخليفة، كان عمرو بن العاص بالمجلس، فاستثقل عمرو كلمة
"أنصار" لثقلها التاريخي، فقال:
"ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ اُردُدْ القومَ إلى
أنسابهم، فقال له معاوية: أخافُ من ذلك الشُّنْعَة، فقال: هي كلمةٌ تقولُها إن مضت
عرَّتهُم ونقَّصَتْهُم، وإلاَّ فهذا الاسمُ راجع إليهم"، فخرج الحاجب مُناديا
بجَدِّهم الأعْلى في الجاهلية:
"من كان ها هنا من وَلَد عمرو بن عامر فليدخل".
فدخل ولدُ عمرو بن عامر إلا الأوسُ والخزرجُ.
فنظر معاويةُ إلى عمرو، وقال: "باعَدْتَ جِداً"
ولكي "يُقاربَ" أمرَ الحاجب أن يُنادي باسم الأوس
والخزرج، ففعل، فلم يدخل أحد.
فأمره معاوية بعدَها، أن يُنادي باسم الأنصار، "فدخلوا
يقدُمُهم النعمان بن بشير، وهو يقول مخاطبا الحاجب (سعد):
يا سَعْدُ لا تُعدِ الدُّعاءَ، فما لنا
نَسَبٌ نجِيبُ به سِوى الأنصار
نسبٌ تَخَيَّرَهُ الإلَهُ لقومِنا
أثْقلْ به نَسباً على الكُفَّار
إن الذينَ ثَوَوْا بِبدْرٍ مِنْكُمُ
ِيومَ القَليبِ هُمُ وقودُ النارِ
"فقال معاوية لعمرو: قد كُنا أغنياءَ عن هذا" (!)
وبعدُ، فإنه ليس حديثُ السيد (زاي) ـ الكافر بالتاريخ ـ هو
وحده الذي يذكِّر بهذه الحادثة حتى وإن كان السببَ المباشر لاسترجاعها في هذا
الظرف وإشراكِ القراءِ في تأملها.
فعمرو بن العاص مازال حيا يُرزق، ولعلَّهُ زعيم "الحزب
السري" الذي ما يزال إخواننا في المعارضة يبحثون عنه. شعارُ عمرو "جرِّب
ولا حرج". عمرو يصدِّر الإشاعات ويبذُر "بذوره" في كل اتجاه، فمن
يدري فقد تجدُ الأرض المناسبة، شيء واحدٌ فاتَ عمرو بن العاص الأموي، وهو يبرمجُ
ويخطط لتجريد الأنصار من لقبهم ومنقبتهم، شيء واحد لم يَدُرْ بخَلَده، شيءٌ يبدو
أن عمراً الحديثَ قد استفاده من الصِّراع بين الشركات الإشهارية.
لقد بدا لعَمرِو الحديث أن التقنيات الإشهارية توفِّر مشقةَ
منازعة الأنصار اسمهم، كان يكفي عَمراً القديمُ في نظره أن يُنشئَ باقة من
الأحزاب، ولو على اللسان والورق، ويسمي أولَها "أنصارُ الحق" والثاني
"الأنصارُ المتناصرون في نصرة مصالحهم"، والثالث : التناصر والنصرة في
السراء الضراء، فبذلك "تَتَزَلَّعُ" النونُ والصادُ والراءُ في الفضاء
حتى تحتجب كلمةُ "أنصار" عن الأنظار. وتطبيقا لذلك أقام عمرُو الحديثُ َ
أروقة للـ"صُولْد" (Solde )، بهدفِ تصفيةٍ كاملة ونهائية لكلمات مثل "وطني"
و"ديمقراطي" و"شعبي"، حتى ظن أن الزبدَ اختلط بما ينفع الناس.
ولكن ها هو السيد
(زاي) يَترنَّحُ كالسكران وما هو بسكران أمام التاريخ، تاريخُ المعارضة مقدماً
الدليل القاطع على أن وصفة التمييع ليست سحرية كما خيل له، وأن الحيل الإشهارية
ليست قادرة على حجب حقيقة السِّلع: قالُّوا: شمتَّكْ، قالُّو: عْرَفْتَكْ".
السيد (زاي) لم يجد من حلٍّ سوى الكفر بالتاريخ، ومن حقه أن
يفعل ذلك "ما عارفْ آش فْلمزود، غير اللي مضروب به".
إن مُجرمي النازية والفاشية والمافيا وغيرهم من السفاحين
ومَصاصي الدماء في كل الأنظمة الدموية، ومن دونهم من المجرمين يشاطرونه نفس
الإحساس، فلو فقد القاضي والشهود ذاكرتهم للحظة واحدة لخرجوا من قصر العدالة كما
خلقهم الله أبرياء… المشكلة هي أن التاريخ لا يصابُ بفقد
الذاكرة يا سيدي (زاي).
للتاريخ أجرٌ ترجوهُ المعارضة الوطنية وتفخرُ به، وله
وِزْرٌ يخشاهُ الملوَّثون.
لم يكتف النعمان بالفخر بمرجع الكلمة التي "تخيرها
الإله" لقومه بل قلبَ الصفحة الثانية للتاريخ وهي الوِزْرُ الذي يحمله
"الطُّلقاء" الذين مات أقاربهم وآباؤهم في بدْرٍ وهم يحاولوا أن يطفئوا
نور الله بأفواههم وسيوفهم.
لكأني بالسيد (زاي) يودُّ نسيانَ صحيفته يوم القيامة الكبرى
كما نسيت يوم القيامة الصغرى. لن يحدث ذلك، يا سيدي، لأن الله سبحانه، لن يحتاج
إلى شيء من خدماتك.
أما نحن فحين نفخر بالتاريخ نشرعُ صدورنا للرياح والشموس
مهما كانت شديدة، وننشدُ مع الشاعر العربي:
وخيرُ الناسِ ذُو حَسَبٍ قديمٍ
أقـامَ لنفسِـه حَسَـباً جَدِيـداً
تمسكنا بالتاريخ يا سيدي هو تمسُّك بمقوماتنا القومية
والوطنية والدينية التي تضمن لنا الوجود والاستمرار والكرامة.
إن التاريخ مثلُ علم النفس، يفضحُ العُقد التي لا يَعيها
المرضى، إنه علمُ نفسِ البشرية. "فإذا أصبتم فاستتروا".
كان السيد (زاي) قد رُصَّ في صف وحده وكان في الصف المقابل
أكثر من ألف مُحامٍ، تأمل الإجماع تتبين موقع الضلال، صدق الأمين.
إن زاياً يكفر بتاريخ نضال المغاربة لن يكون إلا محاميا
للشيطان.
[كان هذا في أوائل التسعينيات وفي أواخرها سمع الناس وريث
سر السيد زاي يتمثل بذلك الخليفة الأموي الذي ضاق من إقبال الناس على زيد بن علي
في الحج وانصرافهم عنه: "قال : من هذا؟" تقليلا لشأنه. جاءه جواب
الشاعر:
هذا الذي تعرفُ
البطحاءُ وطأتَ
والحِل يعرفُه والبيتُ والحـرم
هذا ابنُ خيرِ
عبادش اللهِ كلِّهمُ
هـذا التقيُ النقي الطاهرُ العَلَمُ
وليسَ قولُك مَن
هذا بِضَائرِهِ
العُرْبُ تعرفُ مَنْ أنكَرْتَ والعَجَمُ
وحين سُقِطَ في يد وريث السر يوم الحساب، أمام الأشهاد،
وقيل له: أتعرف الآن أم لا تعرف؟ قال: أعرف ولا أعرف! .. أعرف التاريخ حقا ولكني
لا اعترف بالواقع… ].
توضيح لا بد منه :
إذا كنت شمشاما حسبُ، وتريدُ أن تعرف معنىَ
"زاي"، فهي مجرد اختصار لزاخروف، المشتق من الخروف الزاخر، أي
السمين! فلا تفكر في الذي من العورات،
فنحن بعيدون كل البعد عن الروض العطر.
... وبعد ظهور النتائج يوم 25/6/93 وجدته يغني على نغمات الراي مع الشاب ميمون:
جيييييييتك تْنَجَّحْني
آآآآآنا... ما عندي زهر!
ـ 21 ـ
لِبْرااَالِـي
ولاَكِنْ ..
ما عَندي "زْهَرْ"!
يُحكى أن أشعبَ (رمزُ الجشع في الذاكرة العربية) ضجر يوماً مطاردة
الأطفال له، وتشهيرهم بجشعه، ففكر في حيلة تُخلِّصُه منهم. ولأن العَطارَ ـ كما
يُقال ـ لا يشمُّ إلاَّ ما في مِزودِه، فقد نصَبَ لهم فخاً من فِخاخ الجشع.
لقد أخبر الأطفال، كذباً أن وليمة دسمة مفتوحة للعموم بالحي
المجاور. انطلت الحيلةُ على الأطفال فطاروا متراكضين صائحين وراء الوليمة الخُدعة.
إلى هذا الحد والأمور عادية، فالأطفال مرشحون لمثل هذا
الاسْتغفالِ. غير أن ما لم يكن بالحسبان هو أن ينخدِعَ أشعبُ نفسُه بأن هناك وليمة
فعلاً وأن يركضَ خلفَ الأطفال حتى لا تضيعَ حصتُه. والواقع أن أشعب ما كان ليكون
"أشعباً" لو لم يلتبس عليه الأمر.
مثلُ أشعب مثلُ جميع تجار الكلام الذين يبيعون الذبذبات
الصوتية باعتبارها ولائمَ ممكنة التجسد أو مجسدة: ما على من يسمعها إلا أن يحمل
الشوكة والسكين، أو يدخلَها بخمسٍ دخلة الكسكوس.
بات صاحبي يحلمُ ليلته تلك التي سجَّل فيها تدخُّله الانتخابي
بين النوم واليقظة تخيل أنه عُين مؤذناً (وما أكثر من وقع لهم هذا)، غيرَ أنه عوض
أن يرفعَ فوق صومعة مُهد في حفرة عميقة، فظل يلهث في كابوس:
هيا إلى اللبرالية
هيا إلى اللبرالية
سحقاً للاشتراكية
سحقا للاشتراكية
صوتوا علينا
صوتوا علينا
لن ينفعكم غيرنا
وبعد ظهور النتائج يوم 25/6/93 وجدته يغني على نغمات الراي
مع الشاب ميمون:
جيييييييتك تْنَجَّحْني
آآآآآنا... ما عندي زهر!
وعندما لاحظ طربي لنغماته، تحداني بالسؤال:
"كيف تفسرون أنتم الاشتراكيين" ابتهاج العالم
اللبرالي الآوروبي والأمريكاني بنجاحكم على حساب خسارتنا نحن اللبراليين؟ قلت له
بكل تجرد: ربما كان خطر الاشتراكية أهونَ على اللبرالية العالمية من لبراليتكم
أيها الصديق (!)
ربما فحصوا شهادة الميلاد وظروفه ثم قالوا: ما لنا ولبرالية
الأنابيب (التي يسميها خصومكم الكوكوت مينوت)؟ ربما وجدوا أثار المولِّدة في
أجسامكم؟ ربما فحصوا الملف الطبي وشهادة السيرة والسلوك فوجدوا أنكم غير ملقحين ضد
القمع، وأنكم تنامون في سرير واحد مع الزراويط…. الخلاصة يا صديقي أن هؤلاء الناس
يعرفون عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. ولن ينفع معهم ما كان ينفع محليا من التلويح
بالمنديل الأحمر بعد أن دخل الجيش الأحمر سوقَ رأسه، لا منديل أحمر اليوم غير
البترول والإسلام، وأنت لا في البترول ولا في الإسلام ولا ضد البترول ولا ضد
الإسلام، أنتم على قدر بطونكم.
لقد خَبَرَكم اللبراليون عقوداً وأنتم تحكمون تنفيذاً
وبَرْمَلةً (من البرلمان لا من البرميل، وإنما خُفف) في أغلب العقدين الأخيرين وما
قبلهما وما بعدهما وكانوا حين يسمعونكم وأنتم تتحدثون عن اللبرالية يقولون بلغاتهم
ما نقوله نحن بالعربي المبين مع القرآن الكريم: "كبُرت كلمة تخرج من أفواههم
...الآية". كما يقولون : ليس في معجم اللبرالية جملة يمكن أن تستضيف ما أنتم
فيه، فاتقوا الله ودعوا اللبرالية وشأنها.
حين يكون الكلام الأجوف مرصوداً لمقايضةِ مقعدٍ في البرلمان
يتيحُ المال والجاه وتبادل الخدمات مع رجال السلطة في أعلى المستويات، حين يكون
الكلام الأجوف من أجل هذه الغاية "النبيلة"، فيجب أن يكون من يخترعه
وينمقه أول من يصدقه، فهل هناك كلام أكثر واقعية وأجدر بالتصديق من كلامٍ يجعل
الضحية يعودُ للصلاة وراء جلاديه منتظراً النعيم.
...إن الذين صدَّقوا
[تبريرات الوزير]
أو سكتوا لسبب من الأسباب، قد بلطوا الطريق
إلى المتاعب التي يعاني منها
الطلبة المعربون اليوم...
ـ 22 ـ
التي نقضت غزْلها
حول تعريب العلوم
لم ننس بعد خطابا وزاريا ألقي أمام البرلمان منذ سنتين أو
أكثر، غداة توقيف مسلسل التعريب. كان الخطاب يهدف لتهدئة النفوس، وطمأنة الخواطر التي
ذهب بها الشك كل مذهب بأن التعريب خيار لا رجعة فيه. فالتوقيف تاكتيكي من أجل
توفير الوسائل المناسبة والضرورية لتحقيق تعريب في (المستوى) المطلوب حفاظا على
المستوى العلمي نفسه.
ويبدو أن حُقنة الوسائل والمستوى قد أتت أكلها، إذ تجاوزت
الطمأنةَ إلى التخدير.. فكل ذوي النيات الحسنة نائمون ينتظرون أن تفتح أبواب
السماء فتسقط منها الوسائل وتقع في مواقعها.
أما المعنيون الحقيقيون بالأمر فلم يغمض لهم جفن ولم يضيعوا
السنوات، بل اجتهدوا في توفير كل الوسائل الكفيلة بتكريس الأمر الواقع إلى الأبد.
لو طرحت سؤالا في أي" مجلس جامعي" وهو أعلى هيئة
جامعية، عن الوسائل التي اتخذت لتحقيق التعريب لما ظفرت بجواب (وقد وقع). بل قد
تشم أن الأمر يتجاوز الإطار العلمي والبيداغوجي ويتطلب إرادة من نوع آخر...الخ.
أنا شخصيا لم أكن من ذوي النيات الحسنة في هذا الموضوع
ولذلك كنت اقترحت في أحد أعداد جريدة الاتحاد الاشتراكي وقتَها وصفةً رائزةً
لاختبار النوايا. وقد أثبت الواقع أن النوايا الحسنة تبلط، فعلا، الطريق إلى جهنم،
إن الذين صدَّقوا أو سكتوا لسبب من الأسباب قد بلطوا الطريق إلى المتاعب التي
يعاني منها الطلبة المعربون اليوم.
لم يُصنع شيء يذكر سواء فيما يتعلق بالتكوين العربي
للأساتذة أو الاستفادة من تجارب البلاد العربية التي سبقت في طريق التعريب (على
علاتها)، لم تخصص لا منح ولا جوائز لمن يساهم في توفير الكتاب الجامعي والمعجم
العلمي، لم تكون لجنة وطنية (إلا إذا كانت سرية) للسهر على العملية وتوقيتها عبر
خطوات عملية، لم يفتح باب التطوع للأساتذة والاختيار للطلبة بين العربية وغيرها من
اللغات.. لا شيء تحقق في طريق التعريب، كل الجهود منصبة على تكريس الواقع..وللواقع
أسئلة وليست لدى المسؤولين أجوبة: هل يستطيع المعنيون ـ وأنا شخصيا لا أعرف المعنى
الحقيقي في هذا الموضوع ـ عقد ندوة وطنية مفتوحة يعلنون فيها عدد الطلبة الحاصلين
على البكالوريا العلمية خلال السنتين الماضيتين، وعدد من التحق منهم بكليات العلوم
والمعاهد المناسبة لاختصاصهم،ونسبة ـ وهذا بيت القصيد ـ المنقطعين قبل وبعد
التسجيل: عدد اليائسين الذي لا يعلم مصيرهم وعدد من التحقوا بكليات الحقوق
والآداب.. إن الكشف عن هذه الأرقام سيجعل الجميع يُحس بأننا نخرب بيوتنا بأيدينا،
وننقض غزْلنا من بعد قوة، ونزرع الرياح. إذ تذهب سنوات التكوين العلمي (فتضيع
الثروة الوطنية المادية والبشرية) وتضيع أحلام الطلبة وآمالهم التي أنعشوها طوال
سنوات التكوين الثانوي بانتمائهم إلى الشعب العلمية.
مئات الطلبة ما يزالون مرابطين أمام مكاتب كلية الآداب
يقبلون الأعتاب بحثا عن التسجيل في الدراسات الإسلامية والأدب الفرنسي
والإنجليزي...الخ، فرارا من المستقبل المظلم، وآخرون في مدرجات العلوم ينتظرون (؟.)
ونحن فيما نحن فيه غافلون.. قال أحد الزملاء: إياك أن تدخل ابنك كلية العلوم،
فالتعليم الجامعي صار مثل مستشفيات الدولة يطرقه من لا حيلة له، وعليه أن يحمل معه
الخيط والإبرة والنعش تحسبا لمصير محقق.
لقد طالبت جهاتٌ وفعاليات وطنية كثيرة بانعقاد المجلس
الأعلى للتعليم ـ وهو كائن نسيه التاريخ وأخطأته الحفريات ـ وأعتقد أن قضية
التعريب تعتبر أولى الأولويات التي ينبغي حسمها في هذا الإطار، يجب حل مسألة
التعريب في إطار وطني مسؤول تاريخيا.
(الاتحاد
الإشتراكي 17/12/1991)
…عارٌ على
فرنسا المتنكرة لعواطف هؤلاء الموالي، الذين اعتنقوا
التقية وصاروا قعَدةً يُمارسون
أضعفَ الإيمان...
ـ 23 ـ
أقـول
لفلول الفرانكو ـ فونية
لماذا نعتت هؤلاء بهذا الوصف المشائل (؟!)
هل يعني ذلك أن الفتنة قد دبت فعلا في صفوف الجيش الفرانكوفـوني
ولم تبق منه إلاَّ جيـوبٌ متحصِّنة هنا وهناك محتمية بشتى أساليب التزييف الثقافي
والفني...
ألا يتعلق الأمرُ بمجرد أزمة عابرة وتراجع طاكتيكي لتنظيم
الصفوف وإعادة الهيكلة، واسترجاع الأنفاس...
الذي يَهُم بالنسبة للملاحظ أن زَخم ونشوةَ 1988، وما حولها،
التي توجت بالألعاب الفرانكوفونية، وتوقيف مسيرة التعريب، وتقوية الجهاز الإعلامي
السَّمعي البصري الفرانكوفوني، وترميم المتلاشي منه، قد فَترتْ، بل طافَ عليها
طائف وهم يحملقون، حتى صِرت إذا نعتْتَ أحدَهم بِـ فرانكوفوني أحسَّ بالدونية
والنقص، وهو متلبِّسٌ بممارسة طقوسها بالوضوءِ الصغير والكبير، وبالخشوع اللاَّزم
للإخلاص… لو أشفقتَ عليهم لقلتَ: عارٌ على فرنسا المتنكرة
لعواطف هؤلاء الموالي، الذين اعتنقوا التقية وصاروا قعَدةً يُمارسون أضعفَ
الإيمان...
ويظهر أن هناك عدة عوامل ساهمتْ في هذه الوضعية، فمنذ
البدايةِ كان هناك ردُّ فعل في الصحافة الوطنية المعارضة، وكانت هناك تحليلات
علمية وتاريخية كشفت، على قلتها، زيفَ الطَّلاء الثقافي والحضاري للفرانكوفونية،
وأظهرت طبيعتها الاستعمارية العنصرية، فلا أحد نسي أو سينسى مقالتي العالم العامل
د. المهدي المنجرة في هذا الصدد، لقد زرعت هذه المقالاتُ الأشواك في فراشِ العاشقِ
والمعشوق. ولم يسخّنا الفراش حتى جاءت حربُ الخليج و"تكركرت" فيها فرنسا
(على تعبير المصريين) شرَّ "كركرة" نحو الحضيض، وعُهِّرتِ الشعاراتُ،
وصار المعشوقُ نادِلاً ببوابة الجلاد، فلم يتردد المغاربة في حرق العلم الفرنسي في
مظاهرة ترددتْ أصداؤها في جنبات المعمور. فصار الفضاء الحضاري والثقافي
للفرانكوفونية زنزانة تضغط الأضلاع، وتلطخ ثدي الأمِّ الحنون بزفت الخليج...
لم يقف الأمر عند هذا الحد، لم تجف بعدُ دماء أطفال
العامرية، ولم تُستخرجْ بعدُجُثت الجنود العرب المدفونين أحياءً في أرض الرافدين،
حتى استيقظت الغرائزُ الاستعمارية التي لم تشبع بعدُ من تفتيت وحدةِ المغرب،
فأُثيرت زوبعةُ حقوق الإنسان في رمالِ تندوف. عجباً لقلة الحياء!
ومع ذلك فمازالت هناك جيوبُ مقاومةٍ، ومازال هناك سدَنة
للبيت الفرانكوفوني يختبئون تحت طلاءِ الثقافة والفن، يستغلون فتورَ حماس حركة
التعريب الذي صار أرضاً بدون مالك، وناقة عشواء مطلقة الزمام، حَسُنت النية أو
ساءت (!)
رفعاً للبس فيما يتعلق بالثقافة والفن وعلاقتهما بالتعريب
نسجل عدة ملاحظات للطرفين، للموتورين المتربصين ولأصحاب الحق النائمين:
1 ـ التعريب لا
يعني الانغلاق على النفس، بل يقتضي من الباحثين في المستويات الجامعية العليا
معرفة اللغات العالمية واستيعاب الحضارات والإبداعات العالمية العلمية؛ القديمة
والجديدة، وهضمها وتيسير دخولها إلى مجال التداول والاستعمال في البيئة العربية
وباللسان العربي. فأين نحن من هذا؟ إن شُعَبَنا العلمية(وأعتذر لبعض الزملاء
الغيورين على اللغة العربية، وعلى انتمائهم إلى وطنهم وقوميتهم وأحييهم) عبارةٌ عن
جزر ملحقة بأراضٍ وراء البحار، إنها في كثير من الأحيان مجرد ملحقات بجامعات
أجنبية. حتى الترجمة إنما ينجزها، في الغالب، المعربون…"خلِّيها على الله…"
2 ـ الانفتاح لا يعني فرض اللغة الفرنسية للتعبير عن
القضايا الإدارية البسيطة (بلغني أخيرا احتجاج بعض أساتذة إحدى شعب الفرنسية على
تعريب اللوائح والمطبوعات التي لا علاقة لها بالعلم ولا الفن)، ولا يعني تنظيم
قراءات شعرية جماهيرية بالفرنسية تحت إشراف مؤسسة شعبية تسير بأموال الشعب (كما
اقتُرح أخيرا ورفضناه بقوة، [وهذه الحادثة هي التي أفاضت الكأس واقتضت هذا المقال،
ولكن مقامٍ مقال، ولكل نابحٍ حجر] ).
الإصرارُ على فرض الفرنسية في القضايا الإدارية العامة،
والثقافية والفنية الجماهيرية يُخفي غرضاً غير علمي، الغرض هو مزاحمة اللغة
العربية، هو عودة الاستعمار من النافذة.
3 ـ وأقول لنفسي ومن حولها: العربية آتية لا ريب فيها، ولئن
سكتت القوات الحية المستنيرة، ولم تبادر إلى معالجة إيجابية للموضوع فليستثمرنه
الآخرون استثمارا يسيء إلى العربية، ويسيئ إلى الحركة التقدمية في المغرب، كفى
دفنا للرأس في رمال اللامبالاة، فالتعريب مطلب جماهيري حساس، ستنجز من أجله قضية.
ولكن لصالح من؟
أمام نموذج العالم العامل تقفُ، عبر التاريخ العربي الإسلامي، جحافلُ من "العلماء
الخدم" يلوون ألسنتهم بالكتاب، أي كتاب، ويوقعون الفتاوى بعيون مغمضة، في غرف مظلمة.
ـ 24 ـ
العلم والعمل
تحية لأبي علي اليوسي
استوقفتني منذ سنين بعيدة عبارة “العلم العمل”، في ترجمة بعض المؤرخين لأبي علي
اليوسي (الحسن بن مسعود) فرصدت حياته وأعجبت بها كثيراً في بساطتها وعمقها عالم
مجتهد، ومتصوف شاعر وفقيه متسامح، ومناضل نادر الشجاعة.
صفة العالم العامل تحيل على البعد الأخلاقي للمعرفة، ليس
فقط لأن صفة العالم في ذلك العصر مرتبطة بالمعرفة بأمور الدين والالتزام بها ولكن
للوعي أيضاً ودائماً عند هذه الطائفة من العلماء بأن العلم مسؤولية إزاء البشرية وليس
مجرد حل رموز أو فك ألغاز بقلب ميت. تعرفت على اليوسي ومدرسته القائمة على
الاجتهاد في المعرفة والسلوك الصوفي القائم على المحبة والتسامح ومجافاة، النفاق
والشكليات وربط السماء بالأرض ليصدر عن ذلك موقف نضالي سَجلته الرسائل الموجهة إلى
السلطة في عصره ومات اليوسي شهيدا قتيلا إِثْـرَ عودته من الحج. قيل قتله اللصوص
لأنهم كانوا يعرفون حق المعرفة أن فقيهاً متصوفاً زاهداً مثل اليوسي لابد أن يحملُ
في ركابه سبائك من الذهب مهربة من بيت الله الحرام. وبقي اليوسي شامخاً في مدرسة
علمية فريدة في العالم العربي والإسلامي خلال القرنين 17 و18 م.
ومات كل الفقهاء الذين حاصروه وحاولوا محاصرة مدرسته في فاس
ومراكش وسجلماسة والذين قال فيهم الإفراني وهو التلميذ مخلص لمدرسة اليوسي: قوم
تقدمت ألسنتهم وتأخرت عقولهم:
يرون العلم في حُبُسٍ وشَيْبٍ
وذاكَ
عليهـمُ بالجـهـــلِ يَقضـي
وهلْ في خُطــةِ الأحبــاسِ شــــيءٌ
سِوَى غضبِ
الإلهِ، وهتكِ عِرضِ
أمام نموذج العالم العامل تقفُ، عبر التاريخ العربي
الإسلامي، جحافل "العلماء الخدم" يلوون ألسنتهم بالكتاب، أي كتاب،
ويوقعون الفتاوى بعيون مغمضة، في غرف
مظلمة، يَشغلون الناس بالفشور عن الأمور المصيرية، إنهم مجرد ملشيات في يد رجال
السلطة.
أمام اليوسي عالمِِ أبيضَ أو أسودَ تعبر الساحةَ ألوان
رمادية باهتة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء في الظاهر ، الألسنة والقمصان إلى
البياض، والأفعال والسرائر إلى السواد. يطمعون في أبهة العالم ونخوته ولكنهم
يحرصون في نفس الوقت على جني ثمار كل المناسبات المادية المتاحة حتى ولو باعوا
أنفسهم، ففهم يعتقدون أن بيعهم مقرون بالرجعة. يطمعون في منزلة غير ممكنة منزلة
بين المنزلتين.
نموذج للقشورية العلمية والورع
سبق في مرحلة من التاريخ العربي الإسلامي أن حاولت مجموعة
من مدعي العلم والورع مخادعة الناس بتطويل اللحي ودهنها وتزيينها، والجلوس للتحديث
والوعظ. فكان أن ثار عليهم بعض الفقهاء العاملين وسفهوهم، وتصدى لهم الشعراء
ساحرين من اللحى الطويل الخادعة.
…كان الأزارقة (من الخوارج) يقاطعون المسلمين
فلا يناكحونهم، ولا يأكلون
ذبائحهم،
ولا يوارثونهم، ولا يجيبون مسلماً
للصلاة إن دعاهم إليها.
ودار المسلمين دار كفر في نظرهم؛
ـ 25 ـ
خوارج القرن العشرين
هل التاريخ العربي يُعيدُ نفسَه؟
من الأولويات التي قرأناها يوم كان للفلسفة حظ وحضور فعلي
في التعليم الثانوي أن التاريخ لا يعيد نفسه. وأن الاستحمام من ماء النهر مرتين
غير ممكن.
غير أن هذه القاعدة لا تكادُ تصمد للفحص والاختبار حين
نتأمل التاريخ السياسي والفكري العربي.
ألسنا اليوم أمام نفس التالوت الذي انشطر إليه العرب
والمسلمون خلال القرن الأول الهجري: خوارج يقتلون، ومرجئة ينتظرون، ومعتزلة يبحثون
عن منزلة بين القتل والانتظار.
حين ننظر إلى هذه الأطراف الثلاثة باعتبار كل منها مركزاً
يدور حوله الكثير من الأفلاك المختلفة قرباً وبُعداً من النواة، لا نكاد نجد فرقاً
بين الأمس واليوم.
يُفاجأ جمهورُ المسلمين اليوم حين يعمدُ البعض من عامة
الناس إلى حمل السيوف لإقامة الحدود على الناس، أو إصدار فتاوى في حقهم بالكفر،
لقد ذهب شهيد الطبقة العاملة في المغرب عمر بنجلون ضحية هذه النزعة الدموية، وقد
تسمع من هذا ما سمعناه في الإسلام..
والواقع أن هذا ليس إلا أقل ما سُمع في التاريخ السياسي
للمسلمين. فمن يرجع إلى الملل والنحل وتاريخ ابن عساكر يجد أن أقوى فرق الخوارج
(الأزارقة) تُكفِّر سائر المسلمين، بل تُكفِّرُ حتى الفرق الخارجية التي لا تنتمي
إليها.
الأزارقة يقاطعون المسلمين فلا يناكحونهم ولا يأكلون
ذبائحهم ولا يوارثونهم ولا يجيبون مسلماً للصلاة إن دعاهم إليها. ودار المسلمين
دار كفر في نظرهم يجب هجرها…
وكان نافع بن الأزرق رئيس هذه الفرقة يحلُّ لأصحابه قتل
أطفال المسلمين ونساءَهم ويحلُّ الغدر بمن يخالفهم.
وهم في ذلك ينظرون إلى القرآن والسنة نظراً سطحياً فيجعلون
هجرة الرسول من المدينة قياسا لوجوب هجرة من كل دار الكفر، وإخراجَ إبليس من الجنة
لخطيئة واحدة مبررا تكفير مرتكب الكبيرة..الخ
وفي حين يُسقط حد الرجم على الزاني لانعدام النص القرآني
يحكم بقطع يد السارق في كل الأحوال.
وتتدرج الفرق الأخرى (النجدات، الصفرية، الإباضية) نزولاً
في تشددها حتى يقرب بعضها من أهل السنة.
لقد كان الخوارج أصحابَ ممارسة، يعدون العملَ شطراً
للإيمان، ولذلك يأخذ النهي عن المنكر عندهم بعداً آخر ويتحول إلى مسؤولية فردية،
الشيء الذي لا يتلاءم مع حال مجتمع معقد يقتضي الاجتهاد ودرأ الضرر قبل جلب
المنفعة، وتقديم الأوجه التي تصون الوحدة.. ولم يستطع الخوارج أن ينحتوا لهم مجرىً
فكرياً على شاكلة أهل السنة والمعتزلة برغم أن أثرهم كقوة ضاغطة كان كبيراً جداً
في تكييف مواقف خصومهم، أنهم أشبه بقوة طبيعية يبقى أثرها في الجهات الأخرى، ولذلك
لم تستطع الطبعة القديمة من الخوارج أن تبني دولة بمفهومها.
وليس هناك أية علاقة بين بقايا خوارج الأمس وخوارج اليوم
فأولئك تحجروا وأصبحوا يعيشون في طقوس خاصة بهم في حكم الأقليات (في جنوب الجزائر
مثلا)
لقد بدأ الخوارج من النهي عن المنكر والدعوة إلى دولة
إسلامية على نمط دولة الرسول، ثم تحولوا إلى مجموعة مغلقة تقيسُ الأمر بمقياس الذات.
صار الإسلام هو الانتماء إلى الخوارج وفي مثل هذه الحالة يصير النقاش عقيماً لأنه
يمس الذات في إطار الصواب والخطأ.
لاشك أن هذا الموقف الخارجي المتشدد كان يجد ما يُغذيه من
تقاعس المرجئة ومن يدور في فلك الإرجاء عامة أو يستفيد منه (بنو أمية).
... يقول الغرب من منبره "الأمني": إنه "لا يرى ما يدعو إلى رفع الحصار عن
الشعب العراقي".
ويعبر رئيس فريق المراقبين عن تخوفاته من إمكان امتلاك العراق للمعارف
العلمية العالية...
ـ 26 ـ
نحن والغرب
في حدود العدل
وحقوق الإنسان
لعل أول مُحرج بمسلك الغرب خلال حرب الخليج وبعدها هم أولئك
الذين يضربون المثل بنموذجه الحضاري في احترام حقوق الإنسان وممارسة الديمقراطية
(ونحن منهم).
فها هو الغرب يهب عن بكرة أبيه لتحويل خلاف حدودي بين
دولتين عربيتين إلى قضية يقرر في ضوئها مصير العالم. قضية يدوس فيها كل منطق إلا
منطق الانتقام والحقد، فيوجه كل مبتكراته ومدخراته الحربية لتخريب الأساس
الاقتصادي والحضاري لدولة عربية يبدو أنها صارت تقلق أمن القلعة المتقدمة للغرب
(إسرائيل) وأمن منابع النفط.
لا يكفي تدمير الأساس الاقتصادي والحضاري بل تتوجه الرغبة في
التخريب إلى الإنسان فما لم يقتل منه داخل طاحونة الحرب يدفع دفعا في دوامة مأساة
الانفصال التي تديرها على الدوام أصابع المستعمر عندما تعييه الانقلابات السهلة.
ويستمر الحصار لتكتمل حلقة (حقوق الإنسان)، وفي الوقت الذي تقول فيه منظمة الأغذية
والزراعة وغيرها من المنظمات الإنسانية إن شعب العراق يعيش محنة حقيقية، والناس
يأكلون علف البهائم، يقول الغرب من منبره "الأمني": إنه "لا يرى ما
يدعو إلى رفع الحصار عن الشعب العراقي".
ويعبر رئيس فريق المراقبين عن تخوفاته من إمكان امتلاك
العراق للمعارف العلمية العالية، ولذلك فهو يصر على الاستمرار في البحث حتى يتحقق
من جهل العراقيين. أو يعيدهم إليه إن تجاوزوه، وتتفق أفكار (لويس التاسع والتسعين)
فيقترح فرض الوصاية على العراق، بحيث تتولى "الأمم المتحدة" تسلم ثمن
المبيعات العراقية وصرفها، ويقترح ديكويلار من جهته استمرار ودوام الرقابة على
القدرات العلمية العراقية... و ترفض اسرائيل، ومعها أمريكا، بتضامن و اتفاق مسبق،
أن يمثل الفلسطينيون أنفسهم، إعجاب الغرب كله بذلك تحقيقا لأعلى مستويات
الديموقراطية و احترام حقوق الإنسان... الخ إلى غير ما هناك من مفارقات وتناقضات
محرجة.
في هذا الظرف الملتبس تأتي بعض الأنظمة الثالثية المشهورة
بسفك دماء الشعوب، وهدر الحريات السياسية، والنقابية، والعبث بالمال العام...تلك
الدول التي تحتقر الصحافة وتضطهدها وتسخر القضاء أبشع تسخير... تأتي لرفع شعارات
بزيف مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها بضاعة غربية مستوردة لا تناسب
الأصالة... وأية أصالة تلك؟.
ويعلو الضجيج واللغط، وتختلط الأوراق حتى تسمع الشيوعي
الثالثي يرفع عقيرته ويضرب على الطاولة بقوة منددا بديماغوجية شقيقه وأخيه الأكبر،
ويصفق له الغشاش اليميني مهتبلا لحظة الحماس، وهكذا وبقدرة قادر تسري النخوة الوطنية
والعربية بل الإسلامية في شرايين فرانكوفونية أو أنكلوفونية، ويلبس الذئب فرو
النعجة ويتمترس في الصفوف المعادية للاستعمار ولسان حاله يقول للغرب: "تريدون
حقوق الإنسان؟ ها هي حقوق الإنسان، وإن عدتم للسكوت عنا عدنا للسكوت عنكم".
إن اليمين في البلاد المتخلفة أي البلاد التي لا تحترم
إرادة شعوبها يتعامل مع الوضعية الراهنة تعاملا انتهازيا يحاول أن يستثمر تناقضات
الغرب وازدواجية مقاييسه في هذا الظرف الحضاري الحاسم ليضرب مطلب الشعوب وقواها
الحية في الديموقراطية وحقوق الإنسان، هذه المفاهيم التي ما تزال مرتبطة بالنموذج
الغربي.
أعتقد أنه يجب عدم التحرج من رفع اللبس في هذا المجال
بالتفريق بين أمرين:
أولهما المسار التاريخي الإنساني الذي لا نحتاج إلى كثير من
الحجج لنثبت أنه متجه نحو انعتاق الإنسان ـ ولو عبر طريق ملتو، لأنه طريق جبلي صعب
فعلا ـ من الكثير من الاكراهات الطبيعية والمجتمعية، وهذا المسار لم يصنعه الغرب،
وليس فلسفة خاصة به، بل ساهمت فيه الحضارات الإنسانية مساهمات متفاوتة… وهذه هي الإحالة والمرجع… ولذلك ترىخصوم حقوق الإنسان يتعارضون
سلوكا وفلسفة مع التعاليم السماوية والأرضية الشرقية والغربية في هذا الصدد: فهم
يضطربون أمام الإسلام والماركسية واللبيرالية جميعا. أما الأمر الثاني فهو
التاكتيك الغربي للهيمنة على خيرات العالم ابتداء من الاستعمار الاستيطاني، إلى
الاستعمار غير المباشر (التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية) وصولا إلى
الإمبراطورية الكونية التي تحلم بها الولايات المتحدة تحت اسم النظام الدولي
الجديد. فهذا التاكتيك الغربي لا ينبغي أن يخفي عنا المطلب التاريخي الذي سيكون
وحده قوتنا في مقاومة المطامع الغربية. ولذلك لا مفر من التعاون في اتجاه
الديموقراطية وحقوق الإنسان مع الجميع، وذلك في اتجاه امتلاك الشعوب للقرار حتى
تخرج من المفارقة نفسها التي عشناها خلال حرب الخليج. فحتى في إطار النظام
الاستعماري الجديد سيكون على الأنظمة الثالثية المستبدة أن تزين صورتها في مجال
حرية الرأي والتمثيل الديموقراطي، وستواجه في ذلك كل الضغوط (إلا إذا كانت على
المنابع الحيوية لخيرات العالم ففي تلك الحالة يحسن أن تبقى قروسطية يتغاضى عنها
الجميع).
أما على المستوى الأعلى، وعلى المدى البعيد، فيبدو أن هناك
حساسية غربية (يلعب فيها التاريخ والجغرافيا والخيرات الطبيعية وعناصر الواقع
الحالي لتقسيم العالم) إزاء العالم العربي. ولذلك ستكون المهمة الأولى والمستعجلة
للغرب هي منع العالم العربي من بناء القاطرة الجارة. ويبدو، كذلك، أن درس مصر كان
ناجحا، وأن كامب ديفيد أعطت أكلها على المستوى القومي. ولذلك سيبقى شعار الغرب هو
فرض الوصاية على العالم العربي بمنعه من امتلاك التكنولوجيا العالية والتحكم في خيراته
حتى يتأكد من انفصام عراه بتعاون مع الأنظمة القامعة المجوعة، وعليه يبقى المطلب
الديموقراطي وحقوق الإنسان حزام النجاة الوحيد الممكن التمسك به في هذه الظروف
بتعاون مع الجميع حتى ولو كان الغرب لا يصدر منه إلى الخارج، ولا يدعم منه إلا
القدر المحدود الذي يدخل في إطار الحفاظ على البيئة وتجميلها، وإيقاف زحفها عند
حدود إذا اقتضى الحال ذلك. فهذه خطوة أولى لابد منها.
(الاتحاد
الاشتراكي 17/10/1991)
"قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار وتتدارسون الآثار، وتتناشدون
الأشعار، وقع علي النوم؟
قال (خالد): لأنك حِمار في مِسلاخ إنسان".
ـ 27 ـ
فمنهم
من يمشي على بطنه
(مقطع من سيرة خنزير)
...كان مستعدا للجود بأعلى درجات الحُب لكل من يحتمل أن
يسقط من كيسه حَب. بالأمس كان مع الأصالة والسلفية والعدالة راجيا تعديل ما اعوج من
أمره، وحين بدأت أعين الحاسدين تتفحص حوصلته المكورة "اعتصم" بحصن منيع.
حتى وإن لم يكن شاعراً ولا ناقدا فقد دأب على حضور مهرجان
الشعر توقعا لما يمكن التقاطه، غير أنه يطرح الآن عدة أسئلة ولعله يبحث عن مخرج...
عند ذلك تلا أحد الزملاء قوله تعالى "والله خلق كل دابة من ماء..." فغضب
وانصرف.
قبل أي تعليق منا استدرك الزميل المذكور: لا تستغربوا
فللحديث بقية:
كان مرة يلقي درسا حول الحياة وما تقتضيه من حكمة وحسن
تدبير وإتيان الكتف من مأمنها، إلى أن قال "ينبغي للمرء أن يدور مع
الزمن". فتدخل (حسب عبارته) "أحد الكسالى المنحرفين من بقايا سلالة
ماركس وداروين"، قائلا: "ألا ترى معي أن أفلح الناس في الدوران مع
الزمان هو الحمار، فدورته مغلقة، إن أول حمار في التاريخ يشبه آخر حمار رأيته منذ
لحظة من الوقت. أما الإنسان فقد وقف في وجه الزمان وأداره كما شاء: حول السنة إلى
يوم واليوم إلى ساعة، فالمسافة التي تتطلب سنة من السفر، منذ أقل من قرن تقطع
اليوم في ساعات محدودة، وليس أول إنسان مشابها لآخر إنسان في شيء، وإلا ماعدا أن
يكون قردا".
وانتفض صاحبُ بطنِه وكأنما زُجَّ به في بركة متجمدة، والحال
أنه كان يتصبب عرقا، ابتلع ريقه واستدعى كل طاقاته الخطابية من رباطة جأش ومراعاة
للمقام ثم قال: "أنت تعلم أني ما قصدت هذه الفلسفة العقيمة.. كل ما قصدته أن
على المرء ألاَّ يكون عنيدا، وأن يعيش حسبَ الظروف،
أن يتلاءم مع الظروف.. والمثل يقول لا تكن يابسا فتكسر..
لمح التلميذ المقتل فلم يمهله لاتمام كلامه قائلا:
"إذا كان الأمر في هذه الحدود فما رأيتُ أكثرَ تلاؤُما مع الظروف من
"الحلوف" أي الخنزير، يستطيع أن يقتات من كل شيء حتى النفايات
والأوساخ.. ويسمن ويسمن. ثم يتكور ويتكور حتى يصير بهذا الشكل. كانت الاصبع قد
وقعت وقتها على سرة بطن نجحتْ في الانتخابات الماضية بنسبة وعد كاذب لكل صوت.
(الاتحاد الاشتراكي 11/09/1990)
ـ 28 ـ
ذيل طويل مهم، بعنوان:
حمار في مِسلاخ إنسان
كنت كتبتُ في أحد أعداد الاتحاد الاشتراكي "مقطعاً من
سيرة خنزير بعنوان فمنهم من يمشي على بطنه".
كادت الذاكرة تنسى كل شيء عن السيرة وصاحبها لولا أنه لسوء
حظ أحدنا أغتنم فرصة نزولي بتلك المدينة الشاطئية التي تربطني بها ذكريات لا
يُقاوم إغراؤُها ليُحالمني..
قال مستفزاً أو مختبراً:
… يا سيدي الله يهديك، كلهم وصوليون
يخدمون أغراضهم الشخصية. "حقوق الإنسان". "الديمقراطية" …الخ تلك مجرد ألفاظ
جوفاء.. (وتناثرت الشتائم من بين مشفريه تنزلق في رغوة الغضب والسخرية البليدة…) إن الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعتقلين السياسيين ..
كلها ألفاظ تجلب النوم؛ لأنها فارغة كالأرقام المجردة… أعندك اعتراض على ما أقول؟ ما لي أرى السؤال حائراً
في عينيك؟!
قلت: لا..لا..معك معك ... أنا معك ...سألتني عن سر نومك عند
المذاكرة في الديمقراطية وحقوق انسان...؟...ذكَّرتني بجواب خالد بن صفوان لسائل
مثلك في الزمن الماضي. فإليك الجواب. جاء في البيان والتبيين (1/70/هارون):
"قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تتذاكرون
الأخبار وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع علي النوم؟
قال (خالد): لأنك حِمار في مِسلاخ إنسان".
قلت: رحمَ الله خالد بن صفوان فالتاريخ لا تقوده الحُمُر
حتى ولو كانت مستنفرة، فهي تدور في حلقة مفرغة بين لذتي الفرج والبطن.
...أن نسمح لمثل هؤلاء [الحاقدين] بالتجشؤ
على الناس على صفحات الجرائد،
بل من على صفحات الجرائد المحترمة
فهذا ما يطرح ألف سؤال(؟)...
ـ30 ـ
انزلاق
النقد الصحفي
كثيرا ما نلاحظ سكون الساحة النقدية، بل ركودها فننعى ذلك على
أنفسنا وعلى الآخرين. غير أنه من حين لآخر تصل إلى سطح هذه البركة الراكدة فقاقيع
أشبه ما تكون بتشنجات مكلوم، أو تجشُّؤات متخوم فنتساءل، أليس الصمت حكمة(؟)
هل قدر للنقد الصحفي في المغرب أن يكون مُجرد مجاملات
لمواقع القرار (الثقافي والإعلامي…)
أو تشنجات تحيل على ذات موتورة منتقمة أكثر مما تحيل على مرجعية منهجية
وسند علمي وغاية نبيلة (؟)
قد يجوز لأي شخص أن يسخط ويسبَّ ويترنّح حتى يتميز من الغيظ
داخل حجرته (أو مِسلاخة) التي لا يؤدي أحدٌ كراءَها نيابة عنه، وقد يجوز له أن
يكاشف المحبَطين أمثاله بمكنوناته على رشفات القهوة البرازيلية، أو الجعة الفاسية،
حيث تتلوى أحلامُه وأوهامه مع دخان مارلبورو فتذهب بددا في فضاء الله الواسع مثل
كل الأدخنة والأبخرة التي تتجشأ بها ملايين المداخن، يجوز له أن يدع أحلامَه
تتعرّى تعري سمكِ السِّردين في البارات الشعبية لتصبح مجرد هياكل لا نفع فيها،
فهذا سلوك لا اعتراض عليه، أمَّا أن نسمح لمثل هؤلاء بالتجشؤ على الناس على صفحات
الجرائد، بل من على صفحات الجرائد المحترمة فهذا ما يطرح ألف سؤال(؟)
ما الذي يعني الناس جميعاً من أن يكون فلان حاقداً على فلان
لسبب ظاهر أو خفي؟ فملايين الناس ـ لاشك ـ تحقد يومياً على ملايين الناس. ولكن لا
أحد فكر في إدراج هذا الحقد وما يترتب عنه من مهارشات وسباب ـ في كل حارات العالم
ـ ضمن خانة النقد الأدبي الأكاديمي أو الصحفي. ما الذي يعني عامة الناس من أن نقول
لهم إن فلاناً جاهل أو أمي أو ما شئت من النعوت دون أن يتعلق الأمر بتحليل عمل
أدبي له يكون حجة على ما نقول؟ إن المواطن (وهذه هي الصفة التي تهم الجريدة في
المرحلة الأولى، وقبل التعامل معه من زاوية أخرى) إما أن يكون صاحبَ إنتاج فكري أو
لا يكون. ففي الحالة الثانية لا مبرر لتقويم فكره كتابيا، أو الاهتمام به، لأنه في
حكم المعدوم. فليس من العدل أن نتسلط على إنسان بريئ يسير في الشارع في أمن لنحوله
إلى موضوع للنقد فهذه مضيعة للوقت "وقلة أدب". وفي الحالة الأولى وهي
التي تشغلنا أو كان من المفروض أن تشغلنا ينبغي أن يتجه اهتمامنا إلى الإنتاج لا
إلى الشخص، لأن المؤلِّف مَعنوي رمزي، هو مجموع تلك الأفكار والاجتهادات… الخ.
وبعد، فما الذي ترجوه بعض الصحف من نشر كلام يَقذفُ
الأشخاصَ بالجهل والأمية دون أن يتعرض لإنتاجهم الفكري: فهل يتعلق الأمر بتضامن
مجاني بين كاتب وناشر ملسوعين. ضعُف الطالبُ والمطلوب.
إضاءة
كنت كتبت تعليقا عن علاقة الشعر بالجمهور بمناسبة مهرجان
الشعر بفاس فلم يعجب رايي --- وما زلت عنده -- أغلب "المبدعين"، فعلق
أحدهم ، في جريدة الاتحاد الاشتراكي على ما كتبت ، وخرج المقال، فيما أذكر، في اليوم الأول من
مؤتمر اتحاد الكتاب..؟ ولم اطلع عليه، إلآ في وقت متأخر. حين كنت جالسا مع المرحوم
عبد الله راجع في مقهى قبالة القاعة المغطاة نستعيد ذكريات الفقيه بن صالح… واستطرد إلى قوالب المؤتمر ودوالبه، فقلت: أرى جماعة من أصدقائنا
في الجريدة يَزْوَرُّون… بل يروغون مني كما يروغ من على بالك!
فقال: هل قرأت الاتحاد الاشتراكي؟… خذ، ستعرف السبب وسيرتفع العجب.
وبقي الزبد في الجوف حيث كان إلى الآبد ، لا
أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، لا في العير ولا في النفير …