مقدمة
الطبعة الثانية 2000
لماذا طبعة ثانية؟
برغم
الجهد الذي بذلته في تأليف هذا الكتاب فقد اعتقدت عند صدوره في منتصف الثمانينات
أن الحركة العلمية المتنامية سرعان ما ستضع بجانبه (و ربما أمامه) كتبا أخرى في
موضوعه البكر مادة ومنهاجا. وقد اتضح اليوم أن هذا التوقع لم يكن في مكانه، فقد ظل
البحث في بلاغة الخطاب الإقناعي مغترباً، يعيش حياة الشتاة، في ديار المنطق أو في
ديار اللسانيات التداولية، وبذلك ظل بعيداً عن النص الخطابي العربي القديم
والحديث، كما ظل بعيداً عن حليفه التاريخي وقسيمه هموم الخطاب البلاغي، أي الشعر
والشعرية.
ما
زال الطالب الجامعي ودارس الخطاب الإقناعي يقلب بصره في رفوف المكتبة العربية فلا
يجد شيئاً يغني في هذا الموضوع، فيولي وجهته نحو المكتبة الفرنسية والإنجليزية. لا
أستثني من ذلك إلا الكتاب الجماعي الذي أصدره أخيرا (1999) زملاؤُنا في "فريق
البحث في البلاغة والحجاج" بجامعة منوبة بتونس، تحت عنوان: أهم نظريات الحجاج
في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم.
فهذا
العمل التمهيدي المساعد على دخول الموضوع، للباحثين من اختصاصات متعددة، يشكل في
نظري أول حدث في هذا المجال منذ صدور: بلاغة الخطاب الإقناعي. كما أنتظر بارتياح
وتفاؤل صدور أطروحة الدكتوراة للصديق حمو النقاري، أستاذ المنطق بكلية الآداب
بالرباط، وهي تدخل في صُلب الموضوع متناولة الجدل والمناظرة عند الفلاسفة
والمتكلمين العرب المسلمين.
فهذان الكتابان يشكلان دعماً للبحث في
بلاغة الخطاب الإقناعي بما يقدمانه وما يحيلان عليه. ولذلك فرغم أنهما لا يزاحمان
كتابنا هذا (في بلاغة الخطاب الإقناعي..)، لأنه متوجه في صميم عمله إلى التطبيق
على الخطابة العربية في القرن الأول الهجري، فإنهما يمدانه بكثير من الدعم النظري،
ويدعمان مشروعيته، ويفسران الإقبال الكبير الذي وجده عند الدارسين والمدرسين على
حد سواء.
هذا،
وقد قررت إعادة هذا الكتاب إلى واجهة المكتبة في الصيف الماضي،
بعد نفاد طبعته الأولى منذ سنوات.
قررت ذلك وأنا أتابع بعض الكتابات الصحفية الخطابية التي بدت وكأنها تكتشف
أساليب الإقناع الاحتمالي والمغالط لأول مرة. في هذا الصدد كتبت سلسلة مقالات
بعنوان: "حديث الإفك"، ردّاً على خطاب السيد عبد اللطيف جبرو في انتقاده
لما نشر في مذكرات السيد محمد البصري (جريدة النشرة 1999). وفي ذلك السياق وَجد
الزميلُ الأستاذ حسن نجمي حاجةً إلى إجراء حوار حول الخطابة السياسية في المغرب
الحديث، وقد نشر هذا الحوار المطول في جريدة الاتحاد الاشتراكي (العددان
2،4/10/99).
وفي
هذا الامتداد شرعت في يهيئ دراسة بلاغية للخطاب الدائر حول "مشروع خطة إدماج
المرأة" الذي أثار الكثير من الجدل والنقد، فاختلط فيه الديني بالسياسي.
والنية معقودة على نشر هذه المناقشات والحوارات في كتاب يكون توأماً لـِ بلاغة
الخطاب الإقناعي، يخصص للخطابة الحديثة؛ يرصد بعض خصوصياتها. وبذلك
يتكامل مع معطيات البلاغة القديمة والنص القديم في بلورة ملامح بلاغة إقناعية
حجاجية.
وقد
نشرنا مقالة في مجلة فكر ونقد (ع 25 .1999) بعنوان: البلاغة العامة والبلاغة
المعممة. حاولنا فيها رفع اللبس عن موقع الخطاب التداولي الإقناعي من البلاغة، إذ
جعلناه أحد وجهي هذه العملة، وَوجهها الثاني التخييلُ. فالبلاغة تضم في جانب منها
كل الخطابات التخييلية من شعر وسرد وغيرهما.، كما تضم في جانبها الثاني كل مكونات
الخطاب التداولي: من ضفاف المنطق إلى ضفاف التخييل. فبلاغة الخطاب الإقناعي تقابل
بلاغة الخطاب التخييلي وتتداخل معها. وبهذا الفهم نظل مخلصين للعنوان الذي اخترناه
لهذا الكتاب في طبعته الأولى.