الطبعة الأولى1998
جميع الحقوق محفوظة
الإيداع القانوني1709/98
ردمك 5-113-25-9981- ISBN
***************
خطبة الكتاب
جميل حديث القدماء عن "خطبة الكتاب". فالكتاب العلمي بافتراضه
موضوعا ضد الخطابة يقطع أنفاس المؤلف إنسانا في غمرة الحياة. لكي نتواصل بدون
تشويش لا بد من طرد المؤلف! ليكن. ليخرج المؤلفُ الذاتُ الخاصة المرهونة بالزمن
والمكان ما أمكن ذلك من صلب الكتاب ليعيش على هوامشه؛ يخرج من أبواب الكتاب ويدخل
من نوافذه، وأوسعها هذه الخطبة. ما دام الأمر يتعلق بمؤامرة بيننا فلنقتسم
المساحة: كلمة لك وكلمة لي، إن كنت تكره المدعين فلا تقرأ كلمتي:
1 ـ كلمة لك.
ضع في حسابك، حفظك الله، أن هذا العمل يستهدف
طوائف من القراء من التلميذ في الثانوية العامة إلى الطالب في الدراسات العليا
المتخصصة، إلى اللساني إلى المنطقي والفيلسوف إلى المحامي المجتهد، فضلا عن الباحث
المتخصص في البلاغة والأسلوبية، يستهدف كل من يعاني إشكالات تحليل الخطاب من
مراصده المتعددة.
لذلك تعمد ألا يرضي طائفة على حساب أخرى، محاولا
الجمع بين البعدين البيداغوجي
والتأويلي.
فالبعد البيداغوجي يتجلى في تحليل مشاريع بعينها انطلاقا من
خطاطات تقوم على الاختزال الدال. وهذا البعد يبدو من حيث الإجراء عملا وصفيا،
ولكنه يحمل هَمًّا إقناعيا: نريد أن نتفق أولا على محتويات المشاريع البلاغية
ومنجزاتها، وشتان ما بينهما في أغلب الأحوال، شتان ما بين المنطلقات والرغبات
المعبر عنها وبين المنجز مما تتيحه الظروف المحيطة. فنأمل أن يساعدنا هذا الإجراء
على الخروج من حلقة الأمثلة المقطوعة عن السياق التي لم تزدنا إلا تشويشا واختلافا
في فهم الفكر البلاغي العربي وتقويمه. وحتى إذا لم نتفق على خطاطة ما فسيكون
أمامنا شيء ملموس قابل للنقاش.
والبعد
التأويلي يساهم في ربط المشاريع والمنجزات والكشف عن خلفياتها (أوتفسيرها)
واستكشاف مساراتها الكبرى. وقد حاولنا جهدنا استكشاف الأرضية والمؤثرات بشكل يقلل
من قيمة الجدل حول الأصل العربي والأثر اليوناني، إن لم يجعله عقيما، معتمدين في
ذلك المفاهيم القرائية خاصة مفهوم التحويل. كما يقلل من شبهة تحكم الإعجاز في
البلاغة العربية بل يجعله عنصرَ إغناء من حيث توجيه السؤال البلاغي وعمق التحليل
في المعتد: اللفظ أو المعنى، حسب المرجعيات. ويصل بنا هذا البعد التأويلي التركيبي
إلى الاقتناع بأن البلاغة العربية أوسع بكثير من هذا اللباس الضيق الذي حشرناها
فيه حين حكَّمْنا قراءة واحدة هي قراءة السكاكي ثم المراغي.
هذه بعض الإشارات التي أريد أن أوجهها إليك في
هذه الخطبة، أما ما يأتي فهو خاص بي، لن تخسر شيئا إذا تجاوزنه. بل قد يضيق به صدر
وينشرح صدر.
2 ـ
كلمة لي
حملت
مخطوطة هذا الكتاب على ظهري، في حقيبة مزمنة، بعد تخريجها على الحاسوب، قصد
تبييضها، أكثر من ثلاث سنوات. أقامت معي في الرياض ما أقام الوليد في بطن أمه.
وحجت واعتمرت مثيرة آلاف الشبهات والنقم من حراس أبواب الحرم، معرضة أياي للتفتيش
بعد التفتيش. حام حولها اللصوص في اسطامبول زمنا، وحاولوا استكناه رائحتها في كل
منعطف، اقتناعاً منهم أن عاقلا، كما يشهد ظاهر حالي، لا يمكن أن يحمل في مثل هذه
المحفظة، متجولا في المتاحف ومتنقلا بين العَبَّارات، غير الدولارات، أو ما في
معناها مما خف وزنه وغلا ثمنه. وحين جد الجد، وقيل "يا ثقيلُ! اسلخْ ما تبقى
من جلدك"، و "ألقى (الشاعر) الصحيفـة كي يخفف رحله * والزادَ، حتى نعله
ألقاها"، ألقيت كل شيء واحتفظت بالحقيبة.
وفي مقاهي أكادير وفي عز الصيف 1997 وإغراء مياه
البحر كان التصحيح الأخيرُ، كنت كمجنون ورق وارد من القرون الخوالي، تمر الساعات
تلو الساعات في إعادة الجمل والعبارات والخطوط. حملت مخطوطة هذا الكتاب حتى كل
متني، وكانت الرحلة برسم كتابة مدخل، فضاع مني المخرج فوقفت لا أدري أين.
أتمنى، مع ذلك، ولكل ذلك، ألا يُنيبني القارئُ عنه، أويحسنَ بي
الظن إلى أقصى الحدود، فيعتبر ما أتيتُ به نهائيا في موضوعه. أملي أن يكون ما
قدمته حافزاً على إعادة قراءة الأصول ومساءلتها من خلال إشكالات و أسئلة آنية. فما
أنا إلا قارئٌ مشروعُه أكبر من عتاده وعُدته، ومن صرف النظر عن عنائي ومعاناتي في
أسئلتي ومُساءلاتي واكتفى بالبحث عن عجره وبحره وجدَ من الدهر عونا على ما أراد.
**********************************************
المدخل العام
إن كتابةَ
تاريخٍ للبلاغةِ العربية مسألةٌ ملحةٌ اليومَ لعدة اعتباراتٍ. نخص منها بالذكر
اعتبارين اثنين يستتبعان الاعتبارات الأخرى:
1 ـ
اعتبارٌ عام: واقعي و تاريخي: يتصل بقلة ما أنجز من الدراسات في هذا المجال سواء كانت استكشافية وصفية أو تفسيرية.
فباستثناء أعمال قليلة، سنعرض لها، فإن الدراسات المنجزة في مجال تاريخ البلاغة
بالتحديد دراساتٌ جزئية تتناول ظواهرَ أو قضايا لها أهمية أحيانا ولكنها ليست
أكثرَ من لبناتٍ من بناء تجب إقامته على قاعدة واسعة، حتى وإن لم يكن عالياً، أو
من طبقة أو طبقتين فقط.
2 ـ
اعتبارٌ خاص قِرائي: أي مِنهاجي صرف
: ذلك أن تغيرَ المعطيات التي نمتلكها، والإمكانيات التي نسخِّرها، وتغيرَ
الأسئلةِ المطروحة على الأدب، يجعلُ من اللازم إعادةَ الكتابة كلما تغيرت شروط
القراءة و ظروفها. فالحاضر يغني الماضي بقدر ما يغتني بمحاورته. الماضي نص مفتوح للقراءة على الدوام.
وعلى هذا
الأساس فإن عملنا لا ينسخ، بأي معنى من المعاني، أي عمل سابق عليه. ولا يعتبر نفسه
بديلا يغني عن غيره، وقصارى ما يطمح إليه أن يكون خطوة في السعي لكتابة تاريخ شامل
للبلاغة العربية، وأشدد على عبارة السعي. وقد سبقته أعمال مهمة، ولكنها قليلة كما تقدم، مَثلت في نظرنا مرحلتين
متمايزتين:
1
ـ مرحلة السرد التاريخي وتلخيص محتويات الكتب. وأحسن من يمثلها في حدود اطلاعنا إن
لم يكنْ ممثلَها الوحيد: البلاغة تطور وتاريخ، للعالم الكبير شوقي ضيف الذي أعتبره
مدرسة قائمة الذات، مدرسة التمهيد.
إني أقوِّم
هذا الكتاب من منظورين: منظور المؤرخ ومنظور القارئ المنتفع. لا أستطيع اليوم وصف
السعادة التي أحسست بها في أوائل السبعينيات حين اكتشفته، وأنا في أول الطريق إلى
التعرف على المكتبة البلاغية[1].
إنه أحد الجسور البلاغية التي ينبغي إعادة صياغتها اليوم، و تكميلها أو حتى
ترميمها. وبهذه القيمة المصادرية التمهيدية المدخلية يمتد فينا هذا الكتاب وهذه
الكتابة، ولكن أكثرنا يَستهلكُها سراً، وينقصها جهرا، والدليل على ذلك عدد الطبعات
والمبيعات... ويبدو أن أقدم محاولة في هذا الاتجاه قبل كتاب شوقي ضيف هي كتاب
تاريخ البلاغة للمراغي وهو يحمل كل ملامح البداية، ويقع دون عمل المؤلف نفسه في:
علوم البلاغة.
وطابع هذه
المرحلة هو السعي إلى المحافظة على الرؤية التراثية. وهي تدخل في هم إحياء التراث
والتعريف به، وتقريبه من القراء.
2 ـ مرحلة
الكتابة من منظور حداثي لساني واعٍ باختيارِه ومخلصٍ له، وأكمل عمل يطمح لتقديم
رؤية عامة شاملة عن البلاغة العربية في هذا الإطار هو أطروحة حمادي صمود: التفكير
البلاغي عند العرب، أسسه و تطوره إلى القرن السادس (مشروع قراءة). انتهى إنجاز هذا
العمل سنة 1980 وصدر ضمن منشورات الجامعة التونسية سنة 1981 .
والإشارة
إلى هذه التواريخ مهمة جدا فمعنى ذلك أن الكتاب أعد في السبعينات، أو في نصفها
الأخير، على أقل تقدير. فمن المعروف أن طابع الدراسة الأدبية في الفترة الممتدة من
أواسط الستينات إلى منتصف السبعينات في المغرب العربي هو الطابع السوسيولوجي الذي
صار يتحول، تدريجيا، نحو السوسيوبنائية كمرحلة انتقالية نحو الدراسات البنائية ذات
الطابع اللساني بل الشكلاني أحيانا، ابتداء من أواسط السبعينات إلى منتصف
الثمانينات حيث زاد الاهتمام بالقراءة.
لِيحتفظ
القارئ في واجهة ذاكرته بعبارة (مشروع قراءة) محصورة بين قوسين يعطيانها قوةَ: قف
أو انتبه، قبل أن يدخل إلى مقدمة الكتاب ليستمع إلى الموقع الذي وضع فيه المؤلف
قراءته: يرى المؤلف أن الكتابة التقليدية في التراث تعاني من غياب إشكالية
"التراث" و "الحداثة" في حين تتجه أغلب التيارات النقدية
الحديثة إلى "إمكانية إعادة قراءة البلاغة على ضوء المكتسبات المنهجية
الجديدة، ولاسيما مكتسبات اللسانيات".[2]
لقد بنيت
هذه الدراسة على إمكان هذه القراءة وجدواها فكان لها مكانها ودورها. ولاشك أن هذا
التوجه يجد سندا له في الدراسات الغربية التي انطلقت منذ الستينات تؤرخ للبلاغة
الغربية، أو تعيد قراءتها و تفسر فعاليتها مع بارت (تاريخ البلاغة) و جان كوهن و
كبدي فاركا وجان مولينو و طامين[3]
... الخ ففي إطار هذا المد أنجزنا نحن أيضا مجموعة من أعمالنا السابقة[4]
في البعدين التنظيري و التأريخي مستفيدين من عمل حمادي صمود لتكوين تصورعام.
و لاشك أن للمعالجة البنيوية
اللسانية، جدوى كبيرة في استخراج الأنساق وتفسير الفعالية، ولذلك حاولنا استثمارها
إلى أقصى حد ممكن، غير أننا حاولنا أن نستغل بعض مقترحات جمالية التلقي في بعدها
التاريخي[5].
وبذلك نعتبر عملنا امتدادا لجهود من سبقونا في هذا الطريق، وبناءً يستند إلى
بناءاتهم. وهذه حقيقة تفرض نفسها وعيناها أم لم نعها. ونتمنى أن يكون فيه ما
يمهِّد لقراءة ثالثة تُنجز مستقبلا.
إن الأسئلة
التي تطرحها القراءة تتطلب مبدئيا معالجة بنيوية تقوم على التحليل والإحصاء، كما
تتطلب معرفة سوسيوـ أدبية.. فهي قراءة تركيبية تعتمد النظرة الشمولية. تفهم السابق
من اللاحق واللاحق من السابق. ولكي تكون مثمرة ينبغي أن تتحول إلى مستوى الهم أو
الانشغال الموجه الذي يفسح المجال للتحليل والتأريخ لسد الفجوات دون أن يكون
الخطاب الحديث عَائقاً يسد الطريق بترسانة من العتاد النظري الذي يُعرقل السير بدل
أن يَفتحه. لذلك، قد نكتفي بإشارة في النص أو الحاشية إلى هذا المتاع، ونتلافى
بذلك وضعه في طريق القارئ الذي نتركه وجها لوجه مع المعطيات داخل نظام قائم غير
مرئي، أو غير قسري.[6]
لقد
أسعفتنا هذه المفاهيم القرائية بشكل جلي (مثلا) في إعادة النظر في موقف الدارسين
المحدثين من تعامل الفلاسفة العرب مع التراث الأرسطي، خاصة كتاب فن الشعر. فقد
بينا كيف أن الفلاسفة العرب لم يكونوا مشغولين بالتطابق مع أرسطو، وأنه لا جدوى من
هذا التطابق، لو فرضنا وقوعه. بل هم صريحون في أن ما يهمهم هو الكليات أو القوانين
العامة عند كل الأمم أو عند أغلبها. القوانين التي تتسع لكل الخصوصيات القومية. من
هنا فإن تحويلهم للمحاكاة إلى تغيير لساني، يجري في مستوى بنية اللغة وليس على
خشبة المسرح، كان إجراء واعيا و مفيدا لو فهم معناه العام كما صاغه ابن رشد وطبقه
حازم تطبيقا واعياً.
ومن المباحث التي بنيت أساسا،
وبشكل جلي في إطار نظرية التلقي دراسة الاختيارات الشعرية. فعملية الاختيار كانت
عملية قرائية نقدية أعقبتها عملية تأويلية لاستخراج الصور البلاغية. اختار أبو
تمام من الشعر العربي على أُسُسٍ غير معلنة. غير أن انتماء النصوص المختارة
وتجانسها، لاشتراكها في خصوصية معينة سَهَّل مهمة القارئ الثاني الذي هو الشارح:
المرزوقي. هكذا رأى المرزوقي من المفيد أن يكشف السر، سر الاختيار أو أساسه، فكتب
في ذلك مقدمة نقدية بلاغية بسط فيها الحديث عن عمود الشعر الذي هو أساس البلاغة في
الوقت نفسه. لقد وسعنا مجال القراءة بالاختيار لتشمل العملية النقدية التي كانت من
أهم مصادر البلاغة. خاصة في المراحل الأولى حين كان النقد ينطلق من تصور للجنس
الأدبي تكوَّن بشكل عفوي عبر زمن مديد من الممارسة. إن الحديث عن مقصِّد القصيدة
يشبه الحديث عن الواضع الأول للغة. لقد وجدت القصيدة ــ في اعتقاد المتحدثين عنها
ــ مكتملة وكان تأملها أول وعي للغة بذاتها.
وإذا نظرنا
من زاوية الخطابة والبيان الخطابي فإن مشروع الجاحظ في البيان والتبيين لا يمكن أن
يفهم إلا من خلال قراء ابن وهب له، واستئنافه لمشروعه. فابن وهب يرى أن الجاحظ لم
يقدم شيئا يستحق الاعتبار في باب البيان.
وعلى النقيض
من استراتيجية قراءة ابن وهب للبيان والتبيين نجد استراتيجية قراءة السكاكي لكتاب
الدلائل أكثر إنتاجية. لم يهتم السكاكي بالمشروع وَ المنطلقات بل انطلق من المنجز
في قراراته النهائية. ابتدأ من آخر ما انتهى إليه الجرجاني: أي النظم أو علم
المعاني. انطلق من آخر قناعات الجرجاني حتى ولو كانت مأساوية و هي أن الإعجاز
مسألة ذوقية؛ فنهاية الدلائل هي بداية المفتاح بلاغيا، في حين أن البرهان في وجوه
البيان يعود مع الجاحظ إلى المحاسبة على المنطلق نفسه: أنواع الدلالة على المعاني
من لفظ وغير لفظ، هل وفاها الجاحظ حقها أم لم يفعل؟ وحين نقطع النظر عن الخلفية
المذهبية التي حضرت كشعار في منطلق مشروع ابن سنان ونعتمد مدخله النظري
الابستمولوجي ومنجزه الفعلي ندرك مدى تقاطعه مع مشروع حازم القرطاجني، بل يترسخ
عندنا أن حازماً حاول صياغة المنطلق النظري العلمي المتعلق بالأسس الخمسة للصناعة
آية صناعة، مثل ابن سنان، مستفيدا من اجتهادات الرجل مدخلا إياها في إطار نظري
أوسع متوسعا في بعض الجوانب غير الموسعة عند ابن سنان مثل قضية المحاكاة. إن حديث
حازم عن المعاني يوازي في كثير من خطواته عمل ابن سنان، بل نجد اشتراكا في مواقفَ
وعباراتٍ كثيرة.
إن
هذا الطرح من زاوية القراءة جدير بجعلنا نتلافى كثيرا من النقص الذي شاب الدراسات
البنيوية الصرف، وكذا الدراسات التاريخية التحقيبية الوضعية غير الوافية بالنمو
الداخلي للعلاقات القرائية وما تحمله من تقابلات وتعارضات. إنها تسمح:
1)
بمراجعة مفهوم البلاغة المهيمن. وتعيد إلى هذا العلم الأرض التي استُلبت منه
فحولته من إِمبراطورية مترامية الأطراف إلى مجرد إمارة محصورة داخل أسوار منيعة
متمنعة. إن التصور السائد حاليا و منذ قرون هو، تصور السكاكي، هو قراءة السكاكي
للتراث القديم، وهي قراءة مشرعة ولكنها مشروطة بظروف. و قد صار السكاكي اليوم، ككل
القدماء، جزءاً من التراث البلاغي، فينبغي أن يدمج فيه قبل القيام بقراءة جديدة.
ومن يومها سيُدرس (البيان، والمعاني، والبديع) كتصور لمدرسة لا كصورة كلية نهائية
للبلاغة العربية.
ولا أقل من
أن يقدم بجانبه مشروع حازم القرطاجني الذي يفتح البلاغة على النقد الأدبي، وعلى كل
المقومات الفلسفية واللسانية والشعرية التي تسنده.
2)
و تسمح بنقل الرصيد البلاغي من وضعية البنية التاريخية الجامدة المرتبطة بعصرها
إلى حلقة من دينامية الأسئلة الإنسانية التي يتصل أولُها بآخرها تجاورا وتعارضا
وتقابلا: حيث نجد البلاغة في تجاذب مع الشعر والنحو والمنطق: انزياحٌ مستمر، و
نزوع إلى الإنبناء ككيان قائم الذات. ومشروعَا السكاكي وحازم كفيلانِ بهذه المهمة.
3) وتسمح
أخيرا بإعادة الارتباط بين "البلاغة" وتاريخ الأدب والنقد أي بالحركة
الدائرة حول النصوص الحية وعملية الإنتاج.
ليس
من الغريب أن تجمُد البلاغة بعد أن صارت تدرس بعيداً عن تاريخ الشعر وما ينتابه من
تطورات شكلية عامة أو فئوية (الأراجيز والموشحات مثلا بل والزجل أيضا) وتدرس
بعيداً عن المعارك النقدية، وتطور مفاهيم النقد، والحال أنها في ارتباط وثيق بهذه
المجالات، ارتباط تداخل لا تقارب.
إن مركز
الجذب و المحور المستقطب في منهاجية هذا البحث هو الكشف عن الأسئلة والأجوبة
والكشف عن المشاريع والمنجزات.
لقد اقتضت
طبيعة العرض المفصل للمؤلفات البلاغية وبناء القضايا المنفصلة وتتبع بنيات الكتب
انقطاعَ الخيوط الواصلة بين المفاهيم والقضايا العامة أحيانا، أو على الأقل، صعوبة
استيعابها قبل الانتهاء من قراءة الكتاب ككل. وهذا الأمر مرهق وغير مضمون العواقب
في عصر السرعة، فمَنْ ذا يستطيع اليوم حبس نفسِه حتى ينتهي من قراءة فصولٍ كاملة،
بل حتى الانتهاء من الكتاب ليعيد آخره على أوله؟ إن لم تنقرض هذه الفصيلة من
القراء فقد صارت نادرةً. لذلك رأيت أن تكون هذه الفقرة من المقدمة توصيلا للخيوط،
وعقداً لأطراف الكلام، بقدر ما هي كشف عن منهجية البحث في الكتاب.
ب
ـ 1 ـ المشاريع والمنجزات
لقد تقوى
مفهوم النسق والبنية في البحث العلمي العربي منذ البداية، عندما غلب القياس على
الرواية. القياس الذي يقوم على استقراء الظواهر واستخراج نظامها الخفي الذي يترجمه
الاطراد.
كان الوصول
إلى النسق الإعرابي: الفاعلية والمفعولية والظرفية، وما إلى ذلك من الأنساق المطردة،
وكذا كشف النسق الصرفي والنسق العروضي دعماً حاسماً للاتجاه النسقي في التفكير
العلمي العربي، وكان من أعراضه وظواهره البحث في العِلل والأسرار. فألفت كتب كثيرة
في علل النحو في وقت مبكر، كما ألفت كتب تحت عناوين تبدأ بسِر أوأسرار في اللغة
والبلاغة. منها سر صناعة الإعراب لابن جني وسر الفصاحة لابن سنان وأسرار البلاغة
للجرجاني[7].
وترتب عن
ذلك البحثُ في القواعد والكليات، كما نجد في القراءة العربية لفن الشعر لأرسطو.
فقد صرح الشراح الملخصون: الفارابي وابن سينا وابن رشد جميعاً أنهم سيقتصرون على
البحث في القواعد العامة والكليات. هذا فضلا عن وجود كتب مبكرة نسبيا في نقد الشعر
تحمل هذا الهم مثل قواعد الشعر لثعلب أو تمارسه دون التصريح مثل نقد الشعر لقدامة.
ورغم هذا
الحرص المبكر على البحث في البنيات والأنساق فسنجد من المتأخرين مَن يصرح، بعد
ذلك، بأن الدراسات المنجزة في البلاغة قبله دراسات جزئية تهتم
"بالظواهر" وأَنَّ جِدَّةَ مشروعه تكمن في "التكلم في كثير من
خفايا هذه الصنعة ودقائقها"[8].
فالهم النسقي كان حاضرا في أعمال البلاغيين العرب.
لقد قادني
البحث في موقع الموازنات الصوتية من الرؤية البلاغية في عمل سابق مطبوع إلى تكوين
تصور عام عن مسارات البلاغة العربية وخلفياتها الفكرية والأيديولوجية، كما قادني
إلى اكتشاف الفروق بين المشاريع والمنجزات وما يؤدي إليه ذلك من تضارب بين منطوقِ
نصوص من المؤلَّف البلاغيِّ الواحدِ. وبدأ يزعجني ما أسمعه في الندوات العلمية من
استشهادات بنصوص منتزعة من النسق، لا نَعْدِمُ في المؤلَّف الذي أخذت منه ما
ينقضُها أو يخالفها مخالفة صريحة. ولذلك كان من بين همومي الموجهة حين تصديت
لإعادة قراءة تاريخ البلاغة العربية استخراج أنساق المؤلفات في حوار بين المشاريع
والمنجزات. كان أول عمل لي في هذا الصدد قراءتي لسر الفصاحة لابن سنان في أوائل
الثمانينات[9].
فبرغم أني لم أنتبه وقتَها للخلفيات المذهبية المُحرِّكة لابن سنان فقد استفزني
تحلُّل الرجل تدريجيا من التزاماته وشعاراته الأولى. انطلق ابن سنان من الجزم
بانحصار الفصاحة في الأصوات، ثم انزلق من الصوت إلى اللفظ ببُعديه الصوتي
والدلالي، ثم صار إلى المعاني المفردة، أي في استقلال عن الصوت، و ذلك كله تحت ضغط
طبيعة الموضوع[10] و ما أنجز
فيه قبله.
و ما وقع
في مؤلف ابن سنان شبيه بما وقع في بيان الجاحظ، فالمشروع عند الجاحظ هو البيان
بجميع أصناف الدلالة على المعاني من لفظ وغير لفظ (الإشارة والخط والعقد والنصبة
أي الحال الدالة)، ثم سرعان ما قُويِضَ البيان بالبلاغة ثم قُويضَتِ البلاغة
بالخطابة. وتوجه الاهتمام إلى المقام والأحوال و كان تقديم صحيفة بشر عملاً رمزيا
حاسما: تقديم البديل. وبالنظر إلى هذا المسار وهذه النهاية نلاحظ أن الجاحظ كان
موضوعَ سوءِ فهم من الدارسين بعده سواء أولئك الذين توجهوا توجها منطقيا مثل ابن
وهب في كتابه البرهان في وجوه البيان أو من طرف نقاد الشعر. فابن وهب ـ وهو الذي
تبنى موضوع البيان بكل حذافيره مستأنفاً القول فيه ـ يعلن بصريح العبارة أن الجاحظ
لم يقل شيئاً في موضوع البيان. ثم يتولى هو مهمة مَلْءِ الخانات الأربع في مجال
الدلالة وهي: الاعتبار، والاعتقاد، والعبارة والكتاب أي استنباط المعرفة
(الاعتبار) ومعالجتها (الاعتقاد) وتداولها (العبارة والكتاب) . لذلك فمن المثير أن
نجد بعضَ الدارسين المحدثين يبحثون في عمل الجاحظ عن بلاغة شعرية[11].
ويمكن
أيضاً، وفي إطار المشاريع والمنجزات، تأمل عَمل السَّكاكي في مفتاح العلوم، فمن
البحث عن "علم الأدب" من خلال النحو والصرف وصلَ إلى ما اعتُبر إبداعًا
له يُغطي على غيره، وهو تنظيم علم المعاني وتأطيره. فعلم المعاني الذي جاء لتكميل
النحو في تأسيس علم الأدب في مشروع مفتاح العلوم صارَ مركزاً، وصار النحو والمنطق
(علم الاستدلال) مجرد خَدَم له. لقد تولَّد علم المعاني، باعتباره لب البلاغة
ومركزها عند السكاكي، عبر مخاضَ تفاعُلِ النحو والمنطق والشعر في علاقتها بالمقاصد
الإنسانية.
ولعل أهم عملية تحوُّل هي التي مر
منها عمل عبد القاهر الجرجاني عبر كتابيه الأسرار والدلائل. لقد راهن عبد القاهر
الجرجاني، انطلاقا من تصور أشعري يعتبر الكلام معاني نفسية، و يُعادي مقولةَ
المعتزلة التي تجعله أصواتا ومقاطع، راهن، في البداية، على المفارقة الدلالية التي
يحققها التشبيه والتمثيل (في مستوى أدنى) وتحققها الاستعارة و التخييل (في مستويات
أعلى). وكانت نظريةُ المحاكاة الأرسطية في قراءتها العربية مُسعفة لمثل هذا
التصور. غير أنه ما إن وصل بهذا البناء إلى ذروته وقمة تعقيده حتى انتبه إلى أنه
غير مُسعف في بيان إعجاز القرآن، سواءٌ من حيث الكم أو النوع. فليس القرآن كلُّه
مفارقاتٍ دلاليةً من جهة ، ومن جهة ثانية فإن النماذج العليا من المفارقات
التخييلية تقوم على الكذب، وهذه صفة لا تلائم القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه.
لقد اقتضى
هذا المأزق، بعد محاولات ترقيعية غير ناجحة، عبرَ كتاب الأسرار (تمثلت في الدفاع
مُوقتا عن الصِّدق، ثم في الحديث عن المجاز العقلي) استئنافَ البحث عن بلاغة تناسب
النص القرآني، بلاغة تحضر في النص كله، وتتَّصل بالمقاصد والأحوال. ولم يكن له مفر
من البحث عنها في تراكيب الكلام، أي النظم.
ومع ذلك
فإن إشكالية المعنى والصوت لم تختف مع التحول من الغرابة الشعرية إلى المناسبة
التداولية، واعتماد النحو أساسًا في تحديد العلاقة بين المقاصد والتراكب، بل لقد
عادت القضية إلى الطرح والتخريج في قالب آخر؛ عولجت المسألة بصورة شاملة ونهائية
في إطار ثنائية المادة والصورة، أو المضمون والصياغة الشعرية. تم ذلك بمقايضة
اللفظ في الصياغة النهائية بالصورة أو المعنى الأول الذي ينتقل منه إلى المعنى
الثاني.
و هكذا
سيلاحظ القارئ تدخل الاعتبارات المعرفية وَ المذهبية وَ المادة المتوفرة، وطبيعة
الموضوع في إحداث تحولات داخل عملية البناء النظري. كما سيلاحظ أن هذه الاعتبارات
لم تعق أحيانا تكوين تصورٍ منسجم نظرا لاستسلام المؤلف، في الأخير، لطبيعة الموضوع
و تغليبها على الاعتبارات الأخرى كما وقع لابن سنان، الذي بنى، عبر عملية تحوله،
بلاغة منسجمة تستجيب لكل متطلباتِ المحَافظة الكلاسيكية، عمادها الصحة والتناسب، و
تجد مجالا تطبيقيا فسيحا في التراث العربي أكثر بكثير من الذي تجده نظرية عبد
القاهر الطلائعية.
ب . 2 ـ النسق
و المصطلح
من
عواقب عملية التحول داخل البناء تغير مفاهيم المصطلحات بل وتناقضها أحيانا. وهذا
الواقع يجعل مهمة استخراج المصطلحات وتعريفها دون الوصول إلى التصورِ العا م الذي
يُشغِّلها أمراً محفوفاً بالمزالق، فهو يؤدي من بين ما يؤدي إليه: إما إلى الخطأ
في تعريف المصطلح أصلا، وإما إلى جعلِ المركزيِّ ثانويّاً والثانويِّ مركزيّاً، بل
قد يؤدي إلى إهمال مصطلحات جوهرية لا يستقيم الفهم في غيابها.
وهذا
ما جعلنا لا نكف، منذ سنوات، عن انتقاد توجه بعض الزملاء من الدارسين العرب في
مجال البحث المصطلحي ممن يكتفون بالتعريف المعجمي أو بالتصريح العابر للمؤلف في
موقع من المواقع دون أن يبذلوا جهدا لكشف موقع المصطلح من خلال النسق العام
النهائي أو المتحول للمشروع العلمي. أقول: "دون بذل جهد"، لأني لا أتخيل
أنهم لايجهلون ـ من الوجهة النظرية ـ أن المصطلحات تعرف من داخل العلم الذي تنتمي
إليه، أو من سياق البناء النظري لمؤلِّف أو مدرسة، وهذا ما يقصده المختصون حين
يقولون: إن المصطلحات تتعارف، أي يَعرفُ بعضها بعضا ويُعرَّفه[12].
نكتفي هنا بتقديم مثالين أساسيين من
مشروع عبد القاهر الجرجاني يبينان المنزلق الذي يمكن أن يؤدي إليه أخذ المصطلح
خارج السياق:
المثال
الأول: المعنى العقلي
استُعْمِلَ
العقلُ والعَقلي عند الجرجاني استعمالين متناقضين: من الضد إلى الضد: وذلك داخل
كتاب أسرار البلاغة وحده.
تتبع
الجرجاني في القسم الأول من الأسرار مستويات البلاغة باعتبار الحسية والعقلية. فهو
يرى أن قيمتها تزيد صعوداً كلما زادت عقليةً وتجريداً[13]
حتى تصل إلى الجمع بين أعناق المتنافرات عن طريق التخييل.
وحين انتقل
في آخر الكتاب للحديث عن المعاني القابلة للأخذ، أي للسرقة، والمعاني غير القابلة
للأخذ، جعل المعنى العقلي في مُقابل التخييلي، فالعقلي هنا ما لا يعتد فيه بالأخذ
لأنه مشترك أي غير شعري. العقلي هنا هو المنطقي المجرد.
إنه من
السهل أن نمد قنطرة بين المعاني العقلية في أول الكتاب والمعاني التخييلية في آخره
و هذا ما بيناه فعلا، ولكن هذا لا يحل مشكل استعمال مصطلح واحد استعمالين مختلفين
متناقضين.
والمثال الثاني :"اللفظ".
تحدث الجرجاني عن اللفظ في
الأسرار باعتباره أصواتا مسموعة. وهو بذلك نقيضٌ للمعنى. وأرجع المعنى إلى أصول
عامة هي: التشبيه والاستعارة والتمثيل، والمجاز أيضا، باعتباره أصلا للاستعارة.
وعلى هذا
الأساس بني كتابه أسرار البلاغة. وعند الانتقال إلى كتابِ الدلائل، أي عند
الانتقال من الغرابة الشعرية إلى المناسبة التداولية، أدرجَ هذه الأصول المعنوية
تحتَ العناصر البلاغيةِ اللفظيةِ. فاللفظ في النَّسق البلاغي للدلائل هو:
الاستعارة والتمثيل والكناية. وهذا المفهوم يدخل في عملية مصالحة من الاتجاه
التقليدي الذي يجعل البلاغة في اللفظ. وفي إطار هذه المصالحة تمت الإبداعات الكبرى
للبيان تحت مفهوم صورة المعنى ومعنى المعنى، فما يُسميه القدماء لفظاً هو: صورة
المعنى، ومعنى المعنى، وليس ما فهمه المتأخرون أي الأصوات.
هذا، وهناك
إشكالات أخرى لا يتسع المقام للتمثيل لها هنا، من ذلك ما سبق أن بيناه في القسم
الأول من كتابنا: الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغة، من أن الواقعة البلاغية
الواحدة يمكن أن تأخذ عدة أسماء تبعا
للجهة التي ننظر إليها منها[14]،
ومعنى ذلك أن التعرف على النظام المصطلحي يتطلب الخوض في اشتغال النظرية.
ج ـ منابت
البلاغة وتُربتها
ساهمت
عوامل متعددة في نشأة البلاغة العربية و تطورها. يمكن تقسيمها إلى عوامل أولية و
عوامل مساعدة أو طارئة.
1ـ العوامل
الأولية هي تلك التي أدت إلى ملاحظة الخصوصية الأدبية، سواء كان ذلك من الداخل، أي
عن طريق معاناة موضوع البلاغة (النص الأدبي)، أو من الخارج عن طريق معاناة أسئلة
أخرى لغوية أو دينية أو معرفية عامة.
2
ـ والعوامل المساعدة هي العوامل التي ساهمت في تعميق البحث في الموضوع أو تطويره،
وهي تتعلق أساسا بالمثاقفة، وتطور البحث والتأليف في المجالات الفكرية المختلفة.
يمكن أن نجسد ذلك بالخُطاطة التالية:
أصول البلاغـة العربية
الاستكشاف
من الداخل استكشاف من
الخارج
كانت
النشأة الأولى للبلاغة من مصدرين: داخلي وخارجي:
ج.1 ـ1 ـ الاكتشاف
من الداخل
وقد
أنجزت عن طريق تأمل النص الشعري مباشرة (نقد الشعر واختياره)، أي عن طريق الملاحظة
المباشرة والاختيار الفني.
ظهرت منذ
العصر الجاهلي ملاحظات و تعليقاتٌ واصفةٌ، أو مآخذ على القول الشعري الذي صار
موضوعَ تأمل، ثم توسعت هذه الملاحظات وتكاثرت خلال العصر الإسلامي والأموي إلى أن
ثارت الخصومة بين القدماء والمحدثين حول الأسبقية إلى مجموعة من الصور سميت: البديع،
أي الجديد على غير مثال. فكانت بداية التأليف في الصور البلاغية مع ابن المعتز،
وانطلق تقليد كتب البديع ثم البديعيات.
تغذت هذه الكتب من الخصومات النقدية، فتكاثرت الصور والأمثلة و التعريفات.
فشكل عمل النقاد التطبيقيين والبديعيين المرحلة الأولى، مرحلة الملاحظة المنبثقة
من الموضوع نفسه. ومن هذه المجموعات تغذت كتب التنظير النقدي (قدامة مثلا)
والبلاغي (الجرجاني) فيما بعد، عبر معالجة الإعجازيين الانتقائية كما مارسها
الباقلاني.
إلى جانب هذا المسار النقدي البديعي كانت
عملية اختيار الشعر (والنثر أيضا) مسعفةً في كشف الصناعة البلاغية والتمهيد لطرح
الأسئلة حولها. كما في اختيار أبي تمام على أسس جمالية وفكرية وأخلاقية في الحماسة
والوحشيات. و في شرح المرزوقي لجانب من هذا الاختيار(الحماسة). هذا الشرح الذي
يمكن اعتباره من أهم كتب البلاغة التطبيقية قبل وجود البلاغة كنظرية، وذلك فضللا
عن الأسئلة المباشرة التي طرحها المرزوقي حول عمود الشعر في مقدمة شرحه.
لقد سمينا هذا العمل البلاغي النقدي في
كتابنا تحليل الخطاب الشعري بلاغة الرصد. لكونها ترصد الملاحظات وتجمعها وتسميها دون اهتمام بنسق تنظيري.
ج.1ـ 2 ـ
أما الاستكشاف من الخارج
فقد نتج عن عملية التأليف العلمي التي
استهدفت تقنين اللغة والفكر وتنزيه الدين.
ج.1ـ 2ـ 1ـ
أدت عملية الاختزال التي طالت المنجز من الخطاب (أي مجموع النصوص الشعرية و
النثرية بما فيها القرآن الكريم و الشعر الجاهلي) إلى تعارض بين القاعدة القياسية والنص الخارج عن القياس. لقد
أدى الاطراد القياسي الذي تطلَّبه وضعُ النحو إلى التعارض مع النص القرآني، من
جهة، والشعر العربي، من جهة ثانية. فكان أن فُتح باب التوسع في اللغة منذ البداية
مع سيبويه. هذا الباب الذي طبقه أبو عبيدة في مجاز القرآن بكثير من حرية الرأي
التي جَرَّتْ عليه نقمة اللغويين و دارسي النص القرآني. وتفاعل معه غيره من
اللغويين، مثل الفراء، بحذر أكثر.
من خلال
عملية استخراج العبارات التي لا تنضبط للقواعد المقررة في النحو توصل اللغويون إلى
استخراج كثير من الصور البلاغية مقارنين بين القرآن والشعر. بل لقد تعدوا ذلك إلى
تسمية كثير من المفاهيم الجوهرية، مثل: التقديم والتأخير والحذف والاختصار والتشبيه
والتمثيل والكناية...إلخ. ثم تناقلت كتب البلاغة أمثلتهم ومفاهيمهم. إذ نستطيع أن
نعيد العتاد الذي بُنِيَ به علم المعاني إلى جهد هؤلاء اللغويين، كما نجد عندهم
أغلب أسماء صور علم البيان وأمثلته، أي كل ما يتصل بالتركيب وتحول الدلالة بشكل من
الأشكال.
وفي
الحديث عن ضرورة الشعر التي هي الوجه الآخر لعملية التوسع طرح السؤال البلاغي
الجوهري: ما الذي يجوز في الشعر مما لا يحتمله الكلام؟
وعموما
فإن الأسئلة التي أثارها تقعيد اللغة سواء من زاوية مجاز القرآن أو من زاوية ضرورة
الشعر قدمت للبلاغة ثلاثة عناصر مهمة:
1ـ
متن من الأمثلة المنزاحة عن الأقيسة اللغوية المطردة.
2ـ
مفاهيم ومصطلحات تدل على إجراءات تركيبية ودلالية انزياحية.
3ـ
الحديث عن الخصوصية اللغوية للشعر باعتباره صاحب خصوصية ذاتية.
إن علاقة
البلاغة بتقعيد اللغة علاقة قديمة حديثة. ويمكن في هذا المجال سحب الماضي على
الحاضر، والحاضر على الماضي، لفهم مغرى الظاهرة. يمكن النظر في الموضوع بتأمل ملابسات ظهور مصطلحين متمايزين
متداخلين؛ مصطلح الشعرية Poètique ومصطلح الأسلوبية Stylistique.
ارتبط المصطلح الأول، مصطلح"
شعرية" بياكبسون ارتباطا قويا كاد يصرف النظر عن غيره، وذلك باعتبار صياغته
لجهود الشكلانيين الروس صياغة لسانية قوية سهلت تداولها. من أشهر عناوينه:
"نحو الشعر" هذه العبارة المباشرة الدلالة. ومن المعلوم أن الشعريةَ قد
اعتُبرت عند من سار على دربه وظيفة لسانية قصارى الاختلاف في شأنها أن يقترح لها
نحوٌ خاصٌّ أو يُفرعَ نحوها عن نحوِ اللغة التواصلية[15].
ثم تهذب
هذا التوجه بانتقاله من يد اللغويين إلى يد دارسي النص الخاص، مثل رولان بارث و
تودوروف و جان كوهن وغيرهم، فأعيد إلى أحضان البلاغة[16].
وهذا هو العمل نفسه الذي أنجزه عبد القاهر الجرجاني في أعقاب اللغويين.
وفي أدبيات
الأسلوبية نقرأ أن بالي كان تلميذاً لـِ DE
SAUSSURE وأنه
لاحظ عدم تغطية نموذج أستاذه لكل أبعاد الظاهرة اللغوية. وكان من حقه أن يلاحظ
ذلك، فتشبيه النظام اللغوي بقطعة الشطرنج وحده كفيل بجعل المبتدئ في اللعبة يلاحظ
أنه نسق بدون قلب، أي أنه نسق يفتقد الجانب الوجداني؛ هذا الجانب هو الذي بحث عنه BALLY وأسماه الأسلوبية[17].
إن عمل
اللغويين القدماء الذين ألَّفوا في مجال مجاز القرآن وضرورة الشعر داخل إطار
التوسع في اللغة يلتقي مع عمل الشعريين والأسلوبيين المحدثين في قيامه على استكشاف
ما لم يستوعبه النحو وما لم تستوعبه المعايير المنطقية الصرف[18].
وكان النحو باعتباره مَنطقًا للغة قد امتد
إلى قضايا انسجام الخطاب: توحيد الضمائر (المفرد المثنى الجمع) وتَوحيد الجهة
(الغياب والحضور: الالتفات). فالتبس بالمنطق. ثم التبسا معاً بالبلاغة.
ج.1 ـ 2 ـ
2 ـ ومن الطبيعي أن يكون أول استثمار لهذا الرصيد اللغوي في إطار سؤال آخر غير
السؤال البلاغي الذاتي. لقد استثمرت هذه الجهود من طرف المتكلمين الذين شغلوا
بتنزيه النص القرآني عن مجافاة العقل واللغة كما نجد في تأويل مشكل القرآن لابن
قتيبة وفي كثير من الشذرات التي حفظت من عمل الجاحظ.
أثار
اللغويون، دون أن يفكروا في ذلك، وهم يبررون انزياحات تعابير النص القرآني عن
القواعد الجديدة، مجموعةً من الأسئلة الفكرية حول انسجام النص القرآني. ولم يعد
الجواب اللغوي كافيا كما قال الجاحظ، بل صارت الاستعانة بالمنطق أمرا ملحا[19].
وفي هذا الإطار طور مفهوم المجاز من المستوى اللغوي العام (كل ما خالف القياس
والمألوف) إلى المستوى الكلامي الخاص الذي يعني تحول الدلالة (المجاز في مقابل
الحقيقة). ويعتبر عمل ابن قتيبة في كتابه تأويل مشكل القرآن قنطرة نحو الضفة
الأخرى: ضفة المجاز الكلامي والأسئلة الكلامية الدائرة حول انسجام النص. فقد قدم
مفهوم أبي عبيدة ثم انزاح عنه إلى المفهوم التأويلي الجديد.
تكمن أهمية
الخطوة التي خطاها المتكلمون الأوائل(أي الذين نظروا في انسجام النص) في بلورة
مجموعة أساسية من المصطلحات والمفاهيم البلاغية، تسمية وتعريفا وتمثيلا. وعلى
رأسها مفهوم المجاز والاستعارة.
وحين انتقل
عمل المتكلمين من التنزيه إلى البحث عن المزية والاحتجاج للنبوة بالإعجاز اتضح
السؤال البلاغي: كيف يتفوق النص القرآني على النص الشعري العربي؟ وكيف يتفوق نص عل
نص إجمالا.
وقد بدأت
الاقتراحات البلاغية الأولى في هذا المجال مع الخطابي والرماني و الباقلاني
والقاضي عبد الجبار (خلال القرن الرابع الهجري). ويمدنا عمل هؤلاء الإعجازيين
بمحاولات قَصدية لتفسير البلاغة على مستوى الصورة الواحدة ، ثم على مستوى العلم
ككل فضلاً عن تخريج الأمثلة المفردة مما طبع عمل اللغويين والمتكلمين قبلهم. وقد
بينا ذلك في موضعه.
ج.1
ـ 2 ـ 3ـ هذا عن عملية الاستكشاف من خلال هموم تقعيد اللغة وتنزيه الدين، أما إذا
أردنا النظر إلى المسألة من زاوية المعرفة استخلاصا وبثا فأحسن مثال يوضح الانتقال
من السؤال المعرفي إلى السؤال البلاغي هو كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
فبالنظر في
خطة البيان والتبيين للجاحظ: في حديثه عن أنواع الدلالة على المعاني، وبالنظر إلى
ما فهمه قراؤه مثل ابن وهب، كما تقدم، يسوغ لنا القول بأن الجاحظ وصَل إلى بلاغة
الخطاب الإقناعي من خلال البحث في المعرفة بصفة عامة: كيف نفهم وكيف نُفهم؟ بلاغة
قوامها الاعتدال في استعمال الصور البلاغية حسب الأحوال والمقامات، مع توظيف كل
الإمكانيات المسعفة واعتماد ذخيرة معرفية شديدة التنوع من النصوص الأدبية والدينية
والأخبار والأمثال والحكم (ثقافة الخطيب).
ج. 2 ـ
العوامل المساعدة
ج.2 .1 ـ
التفاعل الثقافي
إن دخول الثقافة العالمية من خلال التراث
اليوناني والفارسي والهندي... إلخ، عن طريق الترجمة والاطلاع المباشر وغير ذلك من سبل
الاتصال، كان ظاهر الأثر، مؤثرا سواء في بداية المشاريع وطرح الأسئلة أو في مسار
البناء.
ومن الأكيد
عندنا هنا أن الجاحظ مثلا كان على بينة من تصور الحكيم أرسطو في بناء المعرفة
وتداولها. ولكن يبدو أنه وجد في كتاب فن الخطابة وحده ما يسعف في تنظيم المعرفة
الشفوية العربية المطلوبة عند المعتزلة لبناء فن خطابي مفيد في معركتهم الفكرية،
فانحاز إلى المقام على حساب البناء اللغوي، كما انحاز إلى الاختيار من التراث
العربي وتخلى عن المشروع البياني العام في بعده المعرفي.
لقد أخذ الجاحظ أفكاراً مختلفة عامة ومُسعفة في
قراءة الخطاب وتصنيفه، من هذه الأفكار العامة:
1ـ انقسام الخطاب الإنساني إلى جد وهزل، وهذه
منطلق فن الشعر عند أرسطو، ولكن الجاحظ بنى تصوره في بعد تام عن مفهوم الشعر عند
أرسطو.
2ـ فكرة المقام ومناسبة الأحوال، وهي مدار
الإقناع في كتاب الخطابة لأرسطو.
وبقطع
النظر عن اقتطاع الأفكار وإخراجها من سياقاتها في المحاولات الأولى فيمكن القول
بأن القراءة العربية لكتاب فن الشعر لأرسطو هي التي أسعفت عبد القاهر الجرجاني في
بناء بلاغة المفارقة الدلالية في كتابة أسرار البلاغة، كما أسعف مفهوم الصحة
والاعتدال في كتاب فن الخطابة ابن سنان الخفاجي في بناء بلاغة كلاسيكية محافظة.
وهي أيضا التي أسعفت حازماً القرطاجني في مشروعه الضخم لبناء بلاغة معضودة بالحكمة
والمنطق.
و تقوم
القراءة العربية على تحويل مركز المحاكاة الأرسطية بنقله من عمل الشخصيات على خشبة
المسرح إلى عمل الألفاظ و المعاني على مسرح اللغة. لقد انتهت عملية التحويلِ إلى
مقايضةِ المحاكاة بالتغيير من جهة البناءِ والتخييل من جهة الأثر.
كما أن
مناقشة الفلاسفة لقضية الفرق بين التخييل و التصديق في ضوء واقع الشعر العربي
جعلهم يضيقون الشقة بين التخييل و الاستدلال لدرجة أنا نجد عتادَ البيان عند
الجاحظ يندمج مع عتاد التخييل عند الفارابي و ابن سينا في إطار بلاغة عامة عند
حازم.
ج.2 ـ 2.
الخلفية الدينية
بالإضافة
إلى ما ذكرناه سابقاً من كون الدِّين أحد أسباب إثارة السؤال البلاغي حيث تم
الانتقال من التنزيه عن التناقض والنقص إلى البحث في مزية النص القرآني البنائية
التي تَجعلُه خارقاً للعادة البشرية، أي مُعجزةً دالة على النبوة ـ بالإضافة إلى
ذلك فقد لعب الاختلافُ حول طبيعة كلام الله نفسُه دوراً في توجيه البحث البلاغي
خاصة حين اشتد الوعي بهذا السؤال في القرن الخامس وأصبح مُحرجاً. فابن سنان، برغم
اعتماده الصَّرْفة، بنى تصورَه البلاغي على اعتبار الكلام أصواتا ومقاطع متأثرا
بمذهب المعتزلة مقدما كتابه بتمهيد نظري يكشف هذه المسألة ويُناقشها بصراحة وقوة.
وهذا الموقف المذهبي هو الذي أوقعه في كثير من الحرج حين واجه طبيعة الموضوع
(الخطاب) وما تراكم فيه من معرفة بلاغية عبر خمسة قرون على الأقل، إذ إن اعتماد
الأصوات وحدها يلغي أكثر التراث البلاغي ويجافي طبيعة الخطاب البشري.
وعلى
النقيض من ابن سنان اعتمد عبد القاهر الجرجاني التصور السني ـ الأشعري على وجه
التحديد ـ في القول بأن الكلام حديث نفسي أي معانٍ، فحاول بناء بلاغته على أساس
دلالي حسب التأويل العربي للمحاكاة في كتابه أسرار البلاغة، ثم حسب المعاني
التركيبية النظمية المقصدية في كتابه دلائل الإعجاز. ولم يقبل من فصاحة الأصوات
إلا ما أمكن تأويله دلاليا، مثل الجناس المستوفى القائم على الإيهام.
أدى
البحث في النحو وَ المنطق (بمعنى "الكلام" في الدين والمعرفة البيانية)،
كما تقدم، إلى إثارة الكثير من الأسئلة البلاغية. كان هذا في بداية الأمر، حالَ
الاستكشاف من الخارج. كان حال البلاغة في ذلك شبيها بحال الأراضي التي تكتشف
صُدفةً أثناءَ البحث عن أراضٍ غيرِها.
وفي
المرحلة الثانية، حين تحدد السؤال البلاغي ، وأصبح صريحا قائمَ الذات، وبدأت عملية
البناء والتفسير، عاد الاهتمام بالنحو والمنطق إلى الواجهة، واعتبرا دعامة للبناء
البلاغي. يفهم هذا من حديث حازم عن البلاغة باعتبارها "علما كليا". فهي
لا يمكن أن تحصل على هذه الصفة إلا إذا كانت "معضودة" بالمنطق والنحو،
وإلا بقيت مبحثاً بسيطا من مباحث اللسان الجزئية.
لم
يقف حازم عند "القراءة العربية" لكتاب فن الشعر كما فعل الجرجاني في
الأسرار، ولا عند قراءة كتاب الخطابة التي استثمرها ابن سنان أحسن استثمار في سر
الفصاحة، بل أدمج ذلك كله ضمن قراءة
عامة لعمل أرسطو من أجل تنظيم التراث العربي النقدي(بما فيه أغراض الشعر) والبلاغي
(بما فيه العروض)، تنظيما يحوِّل ذلك المجموع إلى صناعة شاملة لعلوم اللسان، هي
البلاغة. ولعل هذا الانفتاح هو الذي حال بينه وبين استثمار مفهوم التغيير عند ابن
رشد، الذي لم أجد له ذكرا في كتابه الشاسع منهاج البلغاء. فمن المستبعد افتراضُ
عدم اطلاعه عليه. بل لم يستثمر حتى عمل عبد القاهر الجرجاني، لا في أسرار البلاغة
ولا في دلائل الإعجاز بشكل يترك له ظلا على عمله. وذلك راجع فيما يبدو إلى صرامة
صياغة الرجلين، وقيام عمل عبد القاهر خاصة على الإقصاء: إقصاء الأصوات، والمفردات، والتخبط في قضية الصددق
والكذب.
ومع
ذلك فإن القارئ المتمعن يقتنع بأن حازما كان واعيا بالمآزق والإحراجات التي وقع فيها الجرجاني وفرضت عليه، كما فرضت
على بلاغيين إعجازيين قبله، الكثير من الاختزال، فكانت بلاغته الشاملة ردا موضوعيا
على البلاغة المختزلة.
أما
السكاكي فإن بلاغته تولدت ـ على غير انتظارـ من مخاض بين النحو والمنطق والشعر من أجل "مشروعِ" اسمه علم
الأدب. إن بلاغة السكاكي هي منطقة تقاطع النحو(علم المعاني) والمنطق(علم البيان)
والشعر( علم البديsع
والعروض) :
لقد وُفِّق السكاكي إلى اكتشاف المنطقة الملتبسة
التي اقتتل حولها متى بن يونس والسيرافي جاعلا إياها منطقة تعايش لا تقاتل. وهذا
ما يجعله اليوم موضع عناية من طرف اللسانيين التداوليين و المناطقة فضلا عن
البلاغيين المقعدين، وموضع انتقاد من نقاد الشعر والانطباعيين عامة الذين يأخذون
عليه إفساد البلاغة بالنحو والمنطق .
لقد عاش المشروعان، مشروع السكاكي ومشروع حازم،
وهما متزامنان مفارقةً عجيبة، ففي الوقت الذي قرئ مشروع السكاكي شرحا وتلخيصا،
إيجازا وتطويلا، إلى درجة التخمة غير المنتجة، لم يهتم أحد، فيما نعلم، اهتماما من
هذا النوع، بعمل حازم. ولم يحتفظ التاريخ من الكتاب، على قرب العهد به، بغير نسخة
مبتورة! لعل هذه المفارقة تجد
تفسيرا في انكماش الفكر الفلسفي المركِّب وهيمنة التقنينات النحوية. يؤيد ذلك تحول
شراح بلاغة السكاكي ـ في معالجة قضايا علم المعاني، وهو مركز بلاغته وصلبها ـ من
الوظائف البلاغية إلى المقولات النحوية. فبدل الاهتمام مثلا بالغرض من التقديم أو
الحذف انصب الاهتمام على بيان طبيعة المقدم أو المحذوف: مسند، مسند إليه…الخ
نتيجةً
للعوامل السابقة ولملابسات تاريخية لا تتسع لها هذه المقدمة سارت البلاغة العربية
في مسارين كبيرين يمكن أن تمثيلهما بالخطاطتين التاليتين:
1 ـ المسار اللغوي : النص الخاص
[المقصود بالنص الخاص هنا القرآن والشعر. وحولهما
دارت مباحث اللغويين والمتكلمين في قضيتي الملاءمة بين النص المعياري الذي أحاط به
االقياس النحوي والنص المتميز الذي عولج عند اللغويين ضمن مجاز القرآن وضرورة
الشعر. وعند المتكلمين في إطار تأويل المشكل وتقنين المجاز. وكل هذا داخل في هم
التنزيه عن الشذوذ والتناقض. ثم تلاه البحث عن المزية البديعية ضمن سؤال الإعجاز:
كيف يكون النص القرآني متفوقا على النص البشري بمقاييسه البلاغية نفسها باعتبار
نزوله حسب تقاليد العرب في الفصاحة والبيان.]
عندما نخرج من دائرة المشاريع الخاصة والقراءات
المشروطة بظروفها وننظر في مجمل الإنجاز البلاغي العربي في ضوء الأسئلة البلاغية
الحديثة نقتنع بأن هذا التراث مازال مُحاوراً يثير الدهشة، من جانبين: من حيث الشمول
والعمق.
هـ.1 ـ الشمول:
إن
تشعب المنطلقات والمصادر، وتعدد المؤثرات والخلفيات أدى بشكل عفوي طبيعي
إلى تنوع الأسئلة والاهتمامات وبذلك امتد مجال البلاغة العربية مغطيا البعدين
الكبيرين للمجال البلاغي في معناه القديم والحديث على حد سواء: الغراب والمناسبة. وبرغم تلازم هذين المكونين في الخطاب
الأدبي فيمكن رصد مواطن هيمنة كل منهما:
1) ارتبط
سؤال الغرابة والانزياح والبديع، في مبدأ أمره، كما تقدم، بنقد الشعر واختياره، ثم
طُرح في سياق وضع النحو بالنظر في "توسع" اللغة يترجمه المجاز والضرورة،
ثم عولج، بعد ذلك، معالجة خاصة في إطار التنزيه من خلال تأويل المشكل، وذلك كله
قبل محاولة البحث عن صياغة تجمع أطرافه: تكشف نسقه، وتبرز آليات اشتغاله، من خلال
تأويل المحاكاة الأرسطية إلى "تخييل" و"تغيير"، وتوظيفها في
قراءة الشعر العربي.
2) ارتبط سؤال المناسبة المقامية التداولية، في
أجلى صوره، بالبحث عن فعالية علمية إقناعية خطابية من جهة (عند الجاحظ مثلا)، كما
ارتبط، من جهة أخرى، بملاءمة العبارة للمقاصد ضمن نظرية النظم الإعجازية: (أو ما
يمكن أن ندعوه تداولية لسانية في مقابل التداولية المنطقية الإقناعية النصية)،
وارتبط من جهة ثالثة بالبحث عن بلاغة كلاسيكية ذوقية تقوم على الصحة والمناسبة،
عند ابن سنان مثلا.
لقد تنبه حازم القرطاجني إلى هذا التنوع والغنى
فحاول أن يدمج المداخل المختلفة في بلاغة شعرية كلية يتداخل فيها المحاكي والمقنع.
فامتد التخييل عنده ليحتوي المعرفة والاستدلال، بالرغم من أن مدار الكتاب على
بلاغة الشعر. وعن طريق التخييل خرج من دائرة الصدق والكذب التي شوشت مواقف كثير من
البلاغيين.
في إطار هذا التصور العام أعيدَ لشعرية أرسطو
جناحُها الضائع، حيث صار الهزل حاضراً إما كاستثناء من الوظيفة التواصلية للخطاب
الطبيعي ،كما عند ابن سنان، وإما كشريك، منذ البداية، كما هو الحال عند حازم
القرطاجني، حتى ولو كانت شراكته على المستوى النظري أكثر مما هي على المستوى
التطبيقي. فقد عاشت البلاغة العربية إشكالية الحوار أو الصراع بين الشعري
والتداولي بعفوية، من أول نشأتها إلى عنفوان تضارب مذاهبها.
بخلاف المذهب الذي سلكته بلاغة المعنى والنظم
النحوي مع عبد القاهر الجرجاني فقد توجه الأعلام الثلاثة الذين شاركوه في صياغة
البلاغة العربية ابن سنان الخفاجي والسكاكي وحازم القرطاجني إلى الاهتمام بالبعد
الإيقاعي فاستحضروا جميعاً العروض بصور متفاوتة سواء عن طريق الاستدراك والعرض
المدرسي كما فعل السكاكي أو عن طريق التذكير به داخل نسق عام: التناسب،كما عند ابن
سنان، أو بإعادة النظر فيه ضمن مبحث بناء النص بصفة عامة، كما فعل حازم في مبحث
النظم. وقد طرح حازم في مبحثه أسئلة ذات قيمة منهاجية كبرى حتى وإن لم يذهب فيها
بعيدا مثل علاقة الأوزان بالألفاظ والتراكيب والأحوال الممكنة في ذلك بالنسبة لكل
بحر.
ولعل أشمل خطاطة دالة تستوعب الصور البلاغية في
نسق مفسِّر هي الخطاطة التي قدمها ابن رشد تحت مفهوم "التغيير".
فالتغيير عنده صفة مشتركة بين الصور الصوتية والدلالية والتركيبية. ويمكن لذلك
اعتبار عمله من أكمل الصياغات القديمة لنظرية الانزياح.
هـ.2 ـ العمق
إذا كانت المراهنةُ على عنصر واحد
من عناصر البناء البلاغي (المعنى أو الصوت) تجلب النقد من منظور المشروع والبحث عن
النماذج، فإنها من زاوية المنجز تثير الإعجاب بعمق حفرياتها. يمكننا اليوم أن
نختلف مع عبد القاهر الجرجاني في مراهنته على المعنى وإقصاء الأصوات، ولكننا لا
نستطيع أن نتجاهل كشوفاته الرائعة وتحليلاته العميقة وتفسيراته الوجيهة التي
يقرؤها الخبير اليوم دون إحساس بأية مسافة زمنية بينه وبين المؤلف، نسجل منها:
1 ـ بناء الشعر على المفارقة الدلالية، برغم كل
الإحراجات، هذه المفارقات التي تصل قمتَها حين تعتمد التخييل والبناء على الصور
التشبيهية والمجازية، بناء يخرج من الجملة إلى النص. فقد كانت هذه الترقية استجابة
للنماذج العليا من الشعر العباسي، من شعر ابن الرومي وأبي تمام، أي كانت تنظيراً
طليعيا.
2 ـ إدخال عنصر النظم باعتباره مراقباً للمزية
الانزياحية ومكملا لسانيا للبناء الدلالي مدمَجا في البناء التركيبي.
3
ـ تأويل قضية السَّرقة تأويلا لسانيا شعريا يتصل بالتخييل يعتبر خروجاً من المنزلق
الذي وقع فيه نقاد الخصومات بين الفحول. إنه تدخل بلاغي لحسم قضية نقدية مشبوهة.
وإدخالها في المفهوم الحديث للتناص.
4 ـ الإلحاحُ على البعد الدلالي للموازنات
الصوتية يعد عملاً طليعيا بقطع النظر عن الموقف المذهبي الذي قاد إليه، وقد بسطنا
هذه القضية في موضع آخر[21].
5 ـ تأويل الضرورات الشعرية وربطها بالمقاصد،
وإظهار مزاياها الخطابية خروجاً من الجدل العقيم حول شعريتها وعدمها، أو الموقف
المعادي غير الممحص الذي تداوله نقادُ الشعر.
6 ـ ومن المنجزات المهمة التي لم تلق عناية من
الخلف قضية البناء على الصور البلاغية الذي عمقه الجرجاني وفصله[22]
من خلال تناسي التشبيه والمجاز والبناء عليهما في الأسرار، والبناء على الجملة في
الدلائل. فلو درست هذه القضية بعمق لتبين لنا أن البلاغة العربية لم تكن كما هو
شائع بلاغة جُملة، على الإطلاق. بل كانت إنجازاتها المتقدمة العميقة قد انتقلت إلى
مستوى النص؛ تنبني المعاني بعضها على بعض، ويفهم النص بعضه من بعض.
وعليه، فلن يحول بين الدارس البلاغي الحديث وبين
الاهتمام بأسئلة البلاغة العربية واقتحاماتها إلا عدم استيعابها سؤالا وإنجازاً،
أو تلقيها من أيدي أقوام عاجزين، أقاموا أنفسهم سدنة لهذا التراث العظيم فحنطوه
حين لم يفهموا منه إلا جوانبه الضعيفة التي لا تتطلب جهداً.
* * *
أما بعد
إن
تاريخَ البلاغةِ المُرتقبَ في المرحلة الراهنةِ مثقلٌ بالمهام المتأخرة والمنتظرات
المتوقعة. فنحن وإن لم نعش بعمق المراحل التي اجتازتها الدراسات الأدبية في الغرب،
فقد مرت أمام أنظارنا وبين أصابعنا، كما تمُرُّ حباتُ السبحة أحيانا بدون وعي أو
استيعاب، فصرنا مسؤولين عنها محاسبين بها. فنحن كالغربيين الذين سبقونا في الموضوع
نحصي مراحل نعدها مما هو خلفنا، لا تجاوزاً، بل حملا على ظهورنا.
1) فقد بدأت
محاولة تحقيق التراث ولما تنتهي، وبدأت الفهرسة و صنع المعاجم ولما تنتهي، وصاحبها
بعض الاهتمام بالتاريخ الأدبي نال البلاغة و البلاغيين منه بعض الاهتمام. و لكنه
بقي جزئيا و مليئا بالأخطاء.
2) ومرت
موجة من الاهتمام بالدراسات السوسيوـ أدبية ولم تمس مجال التاريخ البلاغي إلا من
بعيد. في شكل إثارة بعض القضايا الحضارية و الاعتقادية التي أثرت في البلاغة.
3) وجاءت
موجة البحث البنيوي والاتجاه إلى النص فنال التراث البلاغي بعض الاهتمام من خلال
تحليل بنيات بعض النصوص القديمة.
4) والآن يعم الاهتمام بالقراءة والقارئ وينتظر
أن تطرح أسئلة القراءة في تاريخ البلاغة العربية من خلال عدة زوايا ما تزال مظلمة
لحد الآن.
[1] ـ صدر سنة، 1965 وصدرت له
طبعة ثالثة سنة 1976.
[2] ـ جمعت مقالاته في تاريخ
البلاغة و ترجمت مرتين إلى العربية. الترجمة الأولى لـِ عمر أو كان بعنوان: قراءة
جديدة للبلاغة القديمة. طبعت بالدار البيضاء 1994. وَالثانية لعبد الكبير الشرقاوي بعنوان: البلاغة
القديمة. صدرت عن دار الفينيك بالرباط 1994.
[3] ـ لقد عرفنا بمشاريع هؤلاء
الباحثين في مدخل كتابنا: تحليل الخطاب الشعري، بما يغني، فلينظر هناك.
[4] ـ نقصد الكتب التالية:
أ ـ تحليل الخطاب الشعري: البنية الصوتية(الكثافة، الفضاء،
التفاعل). الدار العالمية . الدار
البيضاء.1990.
ب ـ الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية. نحو كتابة
تاريخ جديد للبلاغة العربية. منشورات سال . الدار البيضاء
1991.
ج ـ اتجاهات التوازن الصوتي في الشعر العربي القديم. مساهمة
تطبيقية في سبيل كتابة تاريخ للأشكال. منشورات سال. الدار البيضاء. 1989.
د ـ في بلاغة الخطاب الإقناعي . مدخل نظري وتطبيقي لدراسة
الخطابة العربية، الخطابة في القرن الأول نموذجا. دار الثقافة. الدار
البيضاء.1986.
[5] ـ نستنير هنا بمفاهيم جمالية
التلقي في توجهها التاريخي عند HANS ROBERT YAUS في كتابيه: POUR UNE HERMINEUTIQUE LITTERAIRE
.
POUR
UNE ESTHETIQUE DE LA RECEPTION
[6] ـ من هذا المنطق نفسه حذفنا،
في نهاية المطاف، الكثير من المقارنات التي عقدناها بين تاريخ البلاغة الغربية
والعربية.
[7]ـ هذا بالإضافة إلى كتب أصول
العلوم، أصول الفقه وأصول النحو.
[8]ـ حازم منهاج البلغاء 18.
[9]ـ نشر بمجلة دراسات أدبية و
لسانية، العدد 4 سنة 1985 .
[10]ـ نقصد طبيعة اللغة التي هي
أصلاً تواصل، ثم معطيات البلاغة العربية.
[11] ـ نشير هنا إلى بعض الدراسات
الجامعية مثل: الرؤية الشعرية عند الجاحظ، أطروحة دولة لِـ عبد الرحيم الرحموني.
نوقشت بكلية الأدب.
[12] ـ نشير ـ من بين نماذج كثيرة
ـ إلى تجربة مجموعةِ معهد الدراسات
المصطلحية بكلية الآداب بفاس حيث تعتبر مؤلفات الشاهد البوشيخي، رئيس المعهد،
مثالا يحتذى من طرف عشرات الطلبة الذين يحضرون شهادات جامعية تحت إشرافه، أو إشراف
المتعاونين معه. لمزيد من التوضيح في هذه المسألة انظر مقالنا "المصطلح
الأدبي والنسق المعرفي". (ينتظر ظهوره ضمن أعمال ندوة "المصطلح
الأدبي" المنعقدة بالقاهرة بتاريخ 16-20 مايو 1998 تحت إشراف المجلس الأعلى
للثقافة).
[13] ـ انظر تفصيل ذلك في القسم
الثاني. الفصل الثاني. المبحث الأول.
[14] ـ الموازمات الصوتية ص 30.
[15] ـ انظر مناقشة هذه القضية
عند NICOLAS RUWET في
كتابه LANGAGE, MUSIQUE , POESIE .P.153.-
[16] ـ انظر مقدمة كتابنا تحليل
الخطاب الشعري.
[17] ـ انظر مقدمة: TRAITE
DE STYLISTLQUE FRANCAISE خاصة
الصفحات:7-12. ويقول حمادي صمود معبرا عن مفارقة خروج الأسلوبية من أحضان اللغة:
"اقترن هذا الاتجاه (أي الأسلوبية التعبيرية.. أسلوبية اللغة) باسم شارل
بالي...أحد رواد الأسلوبية.
ومن المفيد أن نشير إلى أنه
تتلمذ على عالم اللغة السويسري فيردينان دي سوسير... وفائدة هذه الإشارة أن بالي
سيبني نظريته في الأسلوب على ما لاحظ لَدَى الأستاذ من نقص في تصوره لإشكالية
اللغة، ورأيه في نظامها".(الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة89).
[18] ـ يقول فان ديك في مثل هذا
السياق: "ففي حين ترتبط اللسانيات، قبل كل شيء، بدراسة الجمل (ومكوناتها)
وتنشغل أساسا بوضع مبادئ النحو ( أو الأنحاء) فإن علم النص يدرس الأقوال
اللغوية في كليتها، كما يدرس الأشكال والبنيات الخاصة بها ، تلك التي لا يمكن
وصفها بواسطة النحو. من هذه الزاوية يقترب علم النص من البلاغة، بل يمكن
اعتباره ممثلا معاصرًا (عصريا) لها". («النص بنياته ووظائفه ضمن نظرية الأدب
في القرن العشرين» 46.)
[19] ـ سجل الجاحظ لحظة الانتقال
من السؤال اللغوي إلى السؤال المنطقي بقول: "ولو كنتَ أعلم الناس باللغة لم
ينفعْك في باب الدين حتى تكون عالما بالكلام".(الحيوان 2/660).
[20] ـ ابتداء من وظيفة الفهم
والإفهام عند الجاحظ ووصولا إلى البلاغة الكلية عند حازم.
[21] ـ انظر تحليل الخطاب الشعري.
الفصل الثالث القسم الثاني.
[22] ـ قلنا عمقه وفصله لأننا نجد
اجتهادات عميقة وجميلة شبيهة باجتهاداته عند الآمدي في الموازنة تحدث فيها عن بناء
الاستعارة، وهي اجتهادات رفضها ابن سنان كما بينا في موضعه.