[تعديل بتاريخ :    4/11/2000

وقع اضطراب في إدخال مادة هذه الصفحة فقمنا بإعادة إدخالها بالتاريخ أعلاه]

 

جاء أبي إلى الكُتَّاب بعد سنة من تسليمي إلى إمام مسجد القرية وهو الفقيهُ نفسُه الذي ساعده في حفظ القرآن، وكان قد بلغ من الكبر عُتيا، وزاد في سلم المهابة تمكنا ورقيا .....

قضيت سنة كاملة أتملى الحروف على اللوح الخشبي، أشتَم رائحة الصلصال المستعمل في تبييض الألواح، ورائحة الصُّوفِ يحرقُ لاستخراج الصمغ الأسود، لا أذكر أني غنمت أكثر من ذلك.

جاء ذات مساء، بعد صلاة العصر، يستطلع الأحوال. عندما لمحناه فجأة ضاعفنا الأصوات، وبالغنا في هز الرؤوس، والتمايل ذات اليمين وذات الشمال، متأهبين في الوقت نفسه للسكوت والسكون إن طلب ذلك. وما كاد ينبس ببنت شفة حتى انقطعت الأصوات وعم السكون.

 سأل الطيبَ، وهو طفل في سني من بني خؤولتنا:

ـ أين وصلتَ أطيب؟

ـ "ألم نعجل له عينين" ". (يقصد "ألم نجعل له عينين وشفتين... ").

قال الوالد: إذن فقد أصبحت عِجلاً.

ثم استمع إلي، فسمِع كلاماً لا يقل تحريفا عما سمعه من الطيب.

ـ اِنهضا، يا الله! كفى ستقرآن في المنزل.

 سَحبَنا معاً من الكتاب، وشرع يُقرئنا القرآن في المنزل صحبةَ مجموعة من إخوتنا وأبناء وبنات العائلة. صار منزلنا كُتَّابا آخر إلى جوار كتاب القرية، يوازيه و يطل عليه، ويَفُتُّ من عَضُدِ الفقيه. غير أن الذي كان يميز كتابنا هو جلوسُ البنت فيه إلى جانب الوَلَد؛ كتاب مختلط.

 كدت أنسى هذه التجربة! ما الذي جعل الوالد يفكر في تحفيظ البنات القرآن؟

هل لذلك علاقة بكون إحدى طليقاته (أم أخي محمد الكبير) تحفظ القرآن، و تُسيَّد من  أجله تكريما لها (لَلاَّ يَجَّة)، أم يرجع ذلك لاحتكاكه بالفرنسيين، في أول حياته؛ سنوات هجرته إلى "الغرب"، غرب المغرب طبعا.

....................

....................

 سرعان ما تفرقت مجموعة كتاب العلالي نتيجة تزوج البنات مبكرا،. وبقيت أنا وأخي أحماد نحفظ القرآن في البيت أنجزت القراءة الأولى على اللوح، ثم أعقبتها بعملية استظهار مركزة مع الوالد. فحيثما التقيت به سيراً ووقوفاً، حضراً وسفراً، أتلو القرآن ويستمع ويستدرك إذا اقتضى الحال. كنت أُُحرج من الناس، وهو لا يبالي بهم، بل لعله يفخر.. في البداية كان الإغراءُ عبارةً عن حلويات، حبات رقيقة جدا، يجلب الكثير منها في محفظته الشخصية كل سوق، ثم سرعان ما لاحظ انصرافي عن الحلويات وقلة اكتراثي بها فبدأ المقايضة بالقصص. تجده ملفوفاً في سلهامه بعد صلاة الظهر، تحت شجرة من أشجار الجنان يقرأ قصص الأنبياء. وبعد صلاة المغرب يدعوني لقراءة خمسة أحزاب، يشرع بعدها في ذكر ما كان من خبر موسى وفرعون، ويوسف وإخوته، وسليمان وبلقيس، متباطئاً بالتفاصيل، مُستعجلا صلاة العشاء ليدخر الحلقة المقبلة لما يأتي من الليالي، فبعد صلاة العشاء لا يبقى إلا تناول الكسكس بالجزر واللفت والبصل أو العصيد باللبن، ثم النوم تأهبا لصلاة الفجر

ما كدت أنتهي من "الخرجة" الأولى (أي الاستظهار الأولي لمجموع القرآن) حتى بدأ يصحبني إلى المسجد للمشاركة في قراءة الحزب، في المغرب إلزاما، وفي الفجر اختيارا وشيئاً فشيئا صرت واحداً من طلبة الحارة، بل جلموز كلها. ولعلي أصغرُ طالب وقتَها يحضر الولائم والدعوات في الأفراح والنكبات، وفي الدورات التي ينظمها الطلبة في كل موسم، يقرؤون القرآن، ويزْدرِدُونَ ما لذ من الطعام. كان ذلك في بداية العقد الثاني من عمري

لم يكن يكفيني أن يكون أبي مُقدم طلبة قرى جلموز كلها، وإن كانت هذه مزية في حد ذاتها، بل كان علي أن أقارع الطلبة برفع الصوت والتسابق في المنعرجات، والاستعداد للفخاخ والاحتياط من المتشابه. والاستعانة على ذلك بحفظ المتون التي تقي من الزلل. لقد وضعت على كل مفترق طرق علامة مرور موجهة، وهناك قانون سير لابد من حفظه عن ظهر قلب.

أكثر الناس لا يعلمون أن حافظ القرآن كثيراً ما يقرأ نصين مرة واحدة، فهو يُسمعك نصَّ القرآن، في الوقت الذي يستمع فيه هو إلى نص آخر ويفكر فيه؛ نص لا معنى له في الظاهر، من نوع:

"مرج يخرج وله كل يسأل..."

والواقع أن هذه الكلمات المحفوظة عن ظهر قلب هي بداية جُملِ سُورة الرحمن. فحين يقرأ: "مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان"، يكون قد رَقَنَ في ذهنه "يخرج"، وحين يُسرِّحُ كلمة "يُخرج" بقراءة: "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان..." يكون قد وضع كلمة "وله.." على طرف لسانه يطلقها مباشرة بعد السؤال المتردد؟ "فبأي آلاء ربكما تكذبان".

وهناك ألفاظ كررت في أماكن متعددة من القرآن، مثل: "يستخرجون منه"، و"يستخرج منه".  ولتحديد موقعها نظمت على شكل يربط كل عبارة بالسورة التي وردت فيها:

"يستخرجون" حلية في "فاطر".

"يستخرج منه" في "النحل" ظاهر

الخ

هذا فضلا عن منظومات الإملاء وبيان المحذوف والممدود.

والباء قل: خبائث الألباب     كبائر الإثم مع الأسبـاب

فهذه "محذوفة" المد، مثلا.

وغير ذلك من مكونات برنامج تعليمي توثيقي مُتعب، عمادُهُ الحفظُ، مازال مركونا في زاوية من الذاكرة النائمة، بعد أن ترك الواجهةَ لقواعد "الإملاء العصري" الذي حلَّ محلَّه دون صعوبة تُذكر، ليُسره وقيامه على منطق واضح مستوعب.

في هذا الأثناء شَرعَ الوالدُ في تحفيظي منظومةَ ابن رشد في الفقه، فحفظت ما يتعلق بالعبادات كاملاً، كما شَرعتُ في حفظ ابن عاشر، وكان يَبذلُ كل جهده في قراءة "ميارة الصغير" لمساعدتي في الفهم.

هذا طبعا إلى جانب أسماء الله الحسنى التي كنا حفظنا أكثرها سماعا من كثرة ترداد الوالد لها::

 

بدأت بِ\بِسم الله في أول السطر

فأسماؤه حصن منيع من الضر

 

وصليت في الثاني على خير خلقه

محمد المبعوث بالفتـح والنصــــــر

 

إذا نابني خطب وضاق به صــدري

تلافـاه لطـف الله من حيث لا أدري

 

وَللوقاية من شياطين الإنس والجن حُفِّظتُ دعاءً وضعه ـ فيما ذَكر لي أحد المدعين من أميي ذلك الزمان ـ الإمامُ علي ليتعوذ به الحسنُ والحسينُ من الشياطين ويسمى "حزب الأندروز" (هكذا)، ولم ألتق بعدَ ذلك بهذا المتن العجيب. وأتمنى ألا ألتقي به لأظلَّ محتفظا بنسختي (روايتي) المُحرَّفة التي تزيده إغرابا على إغراب. وقد اشتهر بتعذر حفظه، لما ورد فيه من كلمات غريبة، إما عبرية أو صوتية خالية من المعنى، ذات وظيفة تخييلية إيهامية أو محرفة،  مثل (ياهوه) و(صلصلامن )

 

كنت وقتها موقنا أن الثمراتِ المُلسِ من نوع "الجِيهَل" التي أفطر بها على الريق، بعد أن يكتب عليها الوالد: "سنقرئك فلا تنسى"، ويقرأ عليها همساً ما يقرأ من القرآن، قد "أتت أُكلها بإذن ربها"، كما قال. و كان ذلك اليقين أهمَّ وأجدى من فعلها المادي العابر. المهم أن القرآن قد استقر بلفظه ومقاصده العليا، حتى في قمة التفاعل مع الفكر الاجتماعي الاشتراكي الماركسي حين كان في أوجه. ولقد سرني ـ  في هذا السياق ـ  الانطباعُ الذي كونته عني "تلميذ حرة" صادفها الصديق العطار بوغالب في أحد المقاهي/المقانص سنة 1980 وهو يجري تحقيقا صحفيا عن "الظاهرة". فحين أخبرته أنها تدرس في "ثانوية الإدريسي الحرة" لم يقاوم الرغبة في معرفة رأيها في أستاذ اللغة العربية الذي هو شريك محنته تلك الأيام، بعد الاعتقال والتوقيف عن العمل . فكان جوابها في أغرب ما توقع: "فقيه متزمت اسمه العمري"!

 وقد سألني أحدهم مرة في أعقاب محاضرة نوهت فيها باليوسي (عالم سلفي عامل): ما الذي يفرق في نظرك بين اليوسي  وماركس؟ وكان سؤاله مشروعا، ولذلك أجبته بكل هدوء  وصدق:  لا أعلم ما يفرق بينهما! وصدقني ، لا أعني أنه غير موجود، ولكني أعلم ما يجمع بينهما، ومهتم به وحده في الوقت الراهن.

 
علمي***وعلمكم

 

العلم كلمة ساحرة ظل الوالد يجري وراءها لشخصه ولأولاده  وقد استطاع أن يتعلم الكثير من خلال الاحتكاك بالمعلمين والأساتذة من أبناء المنطقة والواردين عليها من أول بداية الاستقلال، ثم تفرغ لقراءة تفسير القرآن والتوحيد والحديث، اقتنى ابن كثير والبخاري وغيرهما من كتب الحديث والتفسير.

قال لي مرة وقد جادلته مجادلة حادة لمجرد التنشيط كالعادة: "لو مد الله في بصري لكنت كتبت تفسيراً للقرآن بعضه ببعض، فالقرآن يفسر بعضُه بعضاً. واسترسل: وهذا أحسن من فهمكم. فأنت حين تناقشني تتمسك بالألفاظ، وأنا أتمسك بالروح، بما يريده الله. ولو أنك قلت لي إن كلمة كذا تعني كذا وتعني كذا ووجدتُ ما تعنيه عندك يخالف الروح، وما يطمئن إليه قلب المؤمن الخائف من عذاب الآخرة  لقلتُ لك: إن ما تقوله غير صحيح بالنسبة للقرآن حتى وإن كان صحيحا في علمكم وإعرابكم لأنكم آه! لأنكم أضعتم "

ويخرج مباشرة كالعادة للسؤال عن الممارسة. وكيف أن غياب الممارسة يعوق إدراك المغزى، "فبذكر الله تطمئن القلوب، وتهتدي العقول لا حول ولا قوة إلا بالله!"

ونفهم أين سنصل، فنغيرُ الموضوع بشكل مكشوف فج،  فيضحك ويقول: الله! "جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً". لا حول ولا قوة إلا بالله الله يهديكم إلى طريق الخير. الدنيا متاعها قليل علمكم ينفع مرة واحدة، وعلم القرآن ينفع في الدنيا والآخرة. ما هذا العلم الذي يشغل عن الله ! ارفعوا أكفكم ...