المرجعية الدينية أم التأثيم والعزلة؟

تسونامي بين عقاب الله وافتراء البشر

 

(ظهر هذا المقال في الأحداث المغربية يوم الجمعة 05/02/2005، أي بعد شهر من كتابته)

 

 

بعد ردود الفعل القوية المستنكرة لما نشرته جريدة التجديد حول كارثة تسونامي ـ حيث اعتبرت هذه المأساة الإنسانية عقابا إلهيا ـ جاءت ردود فعل مسؤولي حزب العدالة والتنمية ومنظريه متناقضة؛ تراوحت بين التنصل من الفتوى، من جهة، وتأييدها  بالنص القرآني والمزايدة الكلامية، من جهة أخرى.

أكد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية وأعضاء آخرون أن التجديد ليست صحيفةً للحزب ولا ناطقة باسمه ولا تعبر عن مواقفه. كما أكد ذلك مديرها السيد عبد الإله بن كيران، البرلماني والعضو البارز في حزب العدالة والتنمية، بل زاد على ذلك مضيفا معلومة جديدة في الموضوع بقوله: "والأستاذ سرات (صاحب فتوى العقاب الإلهي) ليس عضوا في العدالة والتنمية، فيما أعلم". وقوله: "فيما أعلم" لا تفيد الشك، أو نسبية العلم، بل تتضمن عتاب من يفترض غير ذلك.

يمكن اعتبار هذه التصريحات من باب الدفع الشكلي، احتياطا لما قد ينكشف عنه الأمر من صعوبات الدفاع عن الموقف برمته. أما من حيث الجوهر فإن موقف زعماء الحزب اتسم بالاحتراس وسد الذرائع، فقد صرح السيد الرميد حسب ما نقلته الصباح في أحد أعدادها، أنه ما كان ليوافق على نشر المقال لو كان في الموقع الذي يسمح له بذلك، كما امتنع الأمين العام للحزب، في نفس المناسبة، عن التعليق على محتوى المقال لأنه لم يطلع عليه بسبب انشغالاته وعزوفه عن الخوض في هذه المشاحنات، ولا بد أن نصدقه . أما بنكيران فقد صرح في عدة منابر بأن المسألة خلافية حتى بين أعضاء الحزب، ومن المناسب طرحها على أهل الاختصاص العلمي والديني.

الذي يهمنا من عرض هذه المعطيات الشكلية والموضوعية هو التقاؤها في التنصل من أي مسؤولية فيما نشر: تبرؤ من الكاتب والناشر، وتبرؤ من المحتوى نفسه حتى ولو كان ذلك لصالح الشك كما يفهم من كلام بنكيران. لندع قضية التبرؤ من الكاتب والجريدة جانبا فهذه دعوى لم يقتنع بها حتى أصحابها بدليل رد الفعل العنيف الذي عبروا عنه في البرلمان والشارع وعلى صفحات الجرائد. وكيف نقتنع بذلك ونحن نتذكر الدور التحريضي الذي أسندوه للشيخ الزمزامي حينما ركبوا ظروف خطة إدماج المرأة في التنمية من أجل الاستقطاب الواسع؟! الكل يتذكر المدى الذي وصل إليه الزمزامي في القدح ـ مثل الدكتور الخطيب  يا للمصادفة! ـ في ضحايا القمع ورموز الوطنية والنضال ضد الاستعمار، نتذكر فتواه في المهدي بن بركة! وكان الزمزامي يصرح، وقتها، بأنه لا ينتمي إلى العدالة والتنمية، وهو محمول على الأكتاف ومحاط بالغلاظ الشداد من شباب الحزب في المعرض الدولي بالدار البيضاء، وفي ردهات المؤسسات الجامعية التي يستقبلونه فيها بالترحاب قبل الحدث المشؤوم 16 ماي. كانوا يعلمون أن خطابه لا يختلف في شيء عن خطاب شيوخ السلفية الجهادية الذين يتناغمون معه على صحافة العدالة والتنمية، أو "المقربة منها". وعموما فقد بلع لسانه بعد استغناء "الإخوة في الله" عن خدماته، ولم يلبث أن غير وجهته نحو حزب آخر جارًّا وراءه مجموعة من الغاضبين فيما يشبه الانشقاق.

إذن، لندع التملص "اللساني" جانبا، ولندع رد الفعل الميداني لمنظمات محاربة الكراهية ودعاة التضامن الإنساني. فالذي استفزني شخصيا هو تمادي الجريدة نفسها في الدفاع عن أطروحة العقاب الإلهي من خلال النص الديني والمزايدة الكلامية. فقد خصصت التجديد عددها 1068 (07 يناير 2005) للرد على منتقديها. وفي هذا الإطار تتبعت الآيات القرآنية التي ترى أنها مؤيدة لمؤاخذة الله الناسَ بظلمهم، دون تمييز بين بريء ومذنب، وهي تزيد على الأربعين آية، ليس من بينها طبعا قوله تعالى الجامع المحكم: "ولو يواخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة، ولكن يوخرهم إلى أجل مسمى" ( النحل60)، ولا قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" (فاطر17). وفي نفس العدد مقال بقلم محمد يتيم بعنوان: "هل يجرؤ الاستئصاليون على اتهام القرآن بالمسؤولية المعنوية عن الإرهاب والتحريض على الكراهية؟" (ص12).

يتضامن المتن القرآني  ومقال محمد يتيم في طرح ممجموعة من الأسئلة الصريحة والضمنية، من قبيل:

أبعد كل هذه الآيات تشكون في أن الزلزال عقاب إلهي؟!

وإذا كان لا مفر من التسليم بأنه عقاب إلهي (تسليما بالنصوص المقدمة)، فهل يكون الله بقوله هذا إرهابيا؟!

وبعبارة قريبة: قلنا لهم: هذا عقاب إلهي، فاتهمنا الاستئصاليون بالمسؤولية المعنوية عن الإرهاب، وهذا الله سبحانه يقول مثل ما نقول، فهل يجرؤون على اتهامه بالإرهاب؟!

 وبعبارة أكثر مباشرة: من يتهمنا بالإرهاب إنما يتهم الله!

إن هذا الخطاب ينبني على ادعاء غير مقبول، بل قاتل، وهو: نحن لا نقول إلا ما قاله الله! وتبدو المسألة هينة بالنسبة لغير العالم بالخطاب الديني، والقرآني على وجه التحديد. فالتاريخ القديم والحديث يشهدان على أن هذا الادعاء هو القشة التي قصمت ظهر بعير الفكر الإسلامي قديما وتقصمه حديثا. فالذي يقول: أقول ما قال الله، سرعان ما يقوم بتحويل تركيبي بسيط غفلة أو بسوء نية، فيقول: ما أقوله هو ما قاله الله. فيصبح الله تابعا لا متبوعا. أليست هذه هي العبارة التي أطلقها الشيخ الفزازي، فك الله أسره، في حواره لأحد نشطاء حقوق الإنسان على أمواج قناة الجزيرة، أي على مسمع ومرأى من العالم كله؛ قال له بعصبية: "عندما أقول: قال الله، فالله قال". وانتهى الحوار بمطالبته محاورَه بالتوبة مما صدر عنه من أقوال مخالفةٍ مخافة أن يُقتل عند خروجه وهو كافر، وقد نوه الفزازي في تلك المناسبة بقتلة فرج فودة. (أشيرإلى أنه سبق لي أن أوردت هذه الحادثة في كتابي دائرة الحوار والشيخ طليق، فلا حرج من إيرادها وهو أسير، عبرة لمن يعتبر).

وقديما استفز هذا السلوك الانتقائي المغرض في التعامل مع النص الديني الخليفة عمر بن عبد العزيز حين استمع إلى غيلان وصاحبه وهما يحتجان  بالنص القرآن في قضية القضاء القدر (الجبر والاختيار)، حسب ما جاء في الخبر التالي:

"بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلاناً وفلاناً نطقا في القدر، فأرسلَ إليهما،

 قال:   ما الأمرُ الذي تنطقان به؟

فقالا:   هو ما قال اللهُ، يا أمير المؤمنين.

قال:   ما قال اللهُ؟

قالا: "هلْ أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ، لم يكُن شيئاً مَذكوراً". ثم قال: "إنَّا هديْناه السبيلَ، إما شاكراً وإما كَفُورا". ثم سكتا.

فقال عمر: اقرآ. فقرآ حتى بلغا: "إنَّ هذه تذْكِرةٌ، فمن شاءَ اتخذَ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤُون إلا أن يشاءَ اللهُ"، إلى آخر السورة.

فقال: كيف تريان يا ابني الأتانة! تأخذان الفُروع وتَدعانِ الأصول"؟! (سبق أن أوردناه منذ عقدين في كتابنا: في بلاغة الخطاب الإقناعي . ص47-48 ط2):

فهل يجوز أن نفترض أن محمد يتيم (أستاذ الفلسفة المهتم بالشؤون الإسلامية) يجهل ـ وهو يستشهد بالقرآن والحديث على تعجيل الله مؤاخذه الناس بظلمهم ـ أن في القرآن آيات أخرى ذات دلالة مخالفة، وأن رفع التعارض بينها يقتضي المنهج الذي دعا إليه عمر بن عبد العزيز محاوريْه بعد أن أغلظ لهما القول لشناعة ما أتيا به من بتر الشاهد، وهو النظر في الأصول، أو النظر الشمولي المقاصدي. وهل ترتاح فعلا ضمائر الذين استقصوا القرآن الكريم لاستخراج الآيات الدالة على تعجيل العقاب وهم يغضون الطرف عن نصف الحقيقة المتمثل في مثل قوله تعالى السابق الذكر: "ولو يواخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة، ولكن يوخرهم إلى أجل مسمى"، المؤكد في قوله: "ولو يواخذ الله الناسَ بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يوخرهم إلى أجل مسمى، فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده  بصيرا" (فاطر45)، وقوله: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" (فاطر17). وهو مكرر هذا باللفظ والمعنى في مواضع عدة من القرآن الكريم (الأنعام164، الإسراء15، الزمر 7، النجم 38)؟ فما الداعي إذن لهذا البتر؟ لا شيء، في نظلانا، غير طلب الغلبة والإحراج بما اتفق. وهذا استخفاف بالنص القرآني واعتداء عليه، وهو يفسر عنف الرد الذي يلقاه مثل هذا الخطاب قديما وحديثا، كما سبق من كلام عمر بن عبد العزيز.

لقد بذل العلماء المسلمون الأوائل من لغويين ومتكلمين جهودا كبيرة في التدليل على انسجام النص القرآني ردا على تهمة الاختلاف التي تؤدي إلى الشك في مصدر النص نفسه. فقد ظهر من استغل قوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"، وهو يُذكِّر بما ثار من خلاف حول معاني القرآن وقراءاتهالخ إن الحل الذي وصل إليه الأشاعرة في القول بالكسب كان اجتهادا للخروج مما ظهر من تعارض في النصوص والقراءة حول مسألة العدل (الحرية والمسؤولية). وهذه هي بالضبط القضية التي يُراد حسمها اليوم بالبتر والاحتيال. كفي عبثا بالدين!

لا أعتقد أن الأستاذ يتيم يجهل أن القرآن نزل منجما، وأنه يحتوي ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وأن فصل الآيات عن سياقها الخاص والعام وإهمال المقاصد الكبرى هو طريق مباشر إلى الفتنة. هذا الطريق الذي فتحة الخوارج قديما فكانوا يعترضون القوافل فيقتلون الذكران من المسلمين ويبقرون بطون النساء الحوامل (خوفا من أن يلدن ذكورا)، وذلك تطبيقا لفهمهم السقيم لقوله تعالى: "ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا". نعم يقتلون الذكران من المسلمين باعتبارهم كافرين لأنهم لا يغيرون المنكر، ويحفظون حياة أهل الكتاب باعتبارهم ذميين. قد يبدو هذا الفعل الشنيع من الذكريات الإسلامية غير السعيدة، ذكريات مضى أوانها مع خوارج القرن الأول والثاني الهجريين، والحقيقة غير ذلك، فالخطاب الإسلاماوي االحديث يتراوح بدوره بين تفسيق المجتمع وتكفيره. ويحمل المسؤولية في المقام الأول للحركات القومية والاشتراكية والعلمانية؛ فهي ـ في منطق الخوارج ـ لا تعوق الإصلاح فحسب بل تساند الفساد الآتي من الحكام والغرب ولذلك فهي العدو الأول؛ قبل الحكام الظالمين وقبل "الغرب الكافر"، والكثير من اليساريين الحالمين الذين قلبوا من صفحات الكتب أكثر مما خبروا الوقع، أو استنطقوا التاريخ الإسلامي، لا يفهمون هذه البديهيات فتجدهم يتحدثون عن التحالفات المرحلية والتكتلات التاريخية. وقد ترددت في كلام مدير التجديد عبارات "أعداؤنا" عدة مرات خلال استجواباته. والمعروف أن عبارة العداوة غير مستحبة في الخطاب السياسي؛ إذ العادي أن يتحدث عن المنافسين والخصوم.

إن النقمة على هؤلاء "الأعداء" هي وحدها التي يمكن أن تقود إلى موقف شاذ مثل الموقف الذي تدافع عنه التجديد ومن وراءها. نقول: موقف شاذ، لأننا لا نستطيع أن نستوعب كيف أنه في الوقت الذي تعبأ فيه العالم لإنقاذ ما تبقى على قيد الحياة من المفجوعين؛ أيتاما وأرامل، والحيلولة دون انتشار الأوبئة في أعظم كارثة عرفتها الإنسانية، تجاوز قتلاها المائتين وعشرين ألفا، في الوقت الذي يتقاطر فيه آلاف الإنسانيين من مسعفين وأطباء نفسيين لدعم المنكوبين وحماية الأطفال الميتمين العديمي الحيلة من الطبيعة القاسية والعقبان الإنسانية الكاسرة، في الوقت الذي يضع فيه "الكفار" أيديهم على صدورهم من شدة الألم وهم يمشاهدون صور الفناء، في الوقت الذي تطيب نفس "الكافر بالله" شوماخر بما لم تجُد به نخوة عدة دول مسلمة بترولية غنية تبعثر المال يمينا وشمالاًالخ، في هذا الوقت يجد "الإخوة في الله" العاجزون ماديا الحالة النفسية المسعفة التي تجعل المأساة مجرد تحقيق للعدالة الإلَهية، لا تستحق ألما ولا إسعافا، فينضاف إلى عجزهم المادي عجز فكري  وفقر روحي. إن هذا المنطق البئيس ينتهي دائما إلى اعتبار مقاومة الآفات تعطيلا لإرادة الله وعدله. شيء شبيه بفتاوى الشيخ شعراوي في قضية زرع الأعضاء قبل أن يُبتلى؛ فقد كان ينفخ شدقيه ويقول: أتريدون أن تؤخروا لقاء العبد بربه، أو الحبيب بمحبوبه!!

إن الموقف الديني ليس جوهريا ولا مقصودا لذاته في هذه المناسبة؛ كان حدث تسونامي مجرد فرصة ـ في ظرف قلت فيه فرص التحريض على المجتمع ـ فرصة للخوض في موضوع السياحة في المغرب في إطار التنديد بالواقع عامة تمهيدا للانفصال عنه والتجرثم حول التنظيم الذي يجمع المطهرين. وقضية الانفصال هذه مسألة حيوية، بل مسألة حياة أوموت بالنسبة لحركات الإسلام السياسي كلها، فليست بين أيديهم حلول لأي مشكل حيوي بالنسب للمغرب ابتداء من البطالة وانتهاء بقضية الصحراء، ولكنهم مشغولون بإبراز كل جزئيات الاختلاف معهم من موقع الناطق باسم الله، وهذه مغالطة كما تقدم. والامتحان الطويل العسير (الشبيه بالبيزيطاج) الذي تُخضع له الدول الأوروبية النظام التركي يدخل في هذا السياق: مدى قدرة الأتراك على الشفاء من عصاب مؤمن وكافر في مجال المواطنة، ومدى قدرتهم على الاندماج في القيم الكونية لحقوق الإنسان. ونحن نتمنى أن يتسلم "معتدلونا" ـ وهم يشتركون مع إسلاميي تركيا في الإسم ـ تلك الوصفة المقترحة للأتراك، ويطبقوها بالحرف، فإن هم لم يظفروا بحلاوة العيش مع "الكفار" ظفروا بحلاوة حسن الجوار مع مواطنيهم. أما حال الإسلاميين في المغرب اليوم فمفتوح على آفاق لا تدعو إلى الاطمئنان؛ لا فرق بين معتدل ومتشدد، وهذه المؤشرات:

يُتحدث في المغرب عن ثلاث تيارات إسلامية كبرى: تيار برلماني، يعلن قبول اللعبة السياسية، وتياران جهاديان: أحدهما يعلن الجهاد المسلح من أجل الخلافة الإسلامية ويكفر الديقراطية والأحزاب جهارا، والثاني يعلن الجهاد النفسي التربوي والتعبوي من أجل القومة الطوفانية الموعودة لتحقيق الحكم النبوي، ويبدع ما سوى ذلك.

غير أن الذي ينبغي الانتباه إليه هو أن هؤلاء "الإخوة في الله" الذين تنشب بين بعض نشطائهم مناوشات كلامية عابرة، رغم عنفها أحيانا، يلتقون في التظاهرات والتجمهرات والاعتصامات ليكونوا كتلة واحدة لها شعارات مخصوصة وحركات مدروسة، لا مكان فيها للعفوية. حركات وشعارات أناس تخرجوا من معسكرات أو تربصات كشفية قوية التنظيم. فوجئتُ شخصيا بهذا السلوك، لأول مرة، في تظاهرات فاتح ماي العمالية بفاس خلال الثمانينات. حيث فاجأنا الإسلاميون بكل ألوانهم بالانعزال في آخر المسيرة في تنظيم محكم، مثيرين بلبلة في صفوف المنظمين وارتياحا ظاهرا في نفوس "المراقبين". ثم رأيت نفس الشيء في السنوات الأخيرة في مسيرات التضامن مع العراق وفلسطين بمدينة المحمدية؛ نفس الانعزال، ونفس الصرامة التنظيمية، ونفس النظرات المتحدية . فما الذي يعنيه توحد هذه الجماعات وانفصالها عن جميع أطياف المغاربة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في تظاهرة تضامنية، لا خلاف حول موضوعها، ؟! الجواب في نظري هو أن فلسطين والعراق وتسونامي ليست أكثر من مناسبات للتكتل وإعلان الانفصال.

في إطار هذا السياق الانعزالي القادم من الشرق العربي يفهم الطرح المتشنج لقضيايا لم تشغل قط بال المغاربة بدوا وحضرا ـ وهم مسلمون منذ أربعة عشر قرنا ـ مثل الحجاب (والحجاب الشامل) واللحية المعشوشبة واللباس القصير والأفغاني وما يتبع ذلك عند البعض من أكسيسوارات كالبخور الشرقي والسواك الخ. فهذه المظاهر هي بداية المسافة مع الآخرين، ثم يصل الأمر مداه في  الانعزال التنظيمي، كما في المخيمات والتنظيمات النقابية وما شاكل ذلك.

أما الفصل بين "الذكور" و"الإناث" في التظاهرات والمسيرات فيراد منه أن يكون التعبير المادي الملموس عن استحالة الاشتراك مع الآخرين المختلطين. ولا يحتاج المرء أن يكون ضليعا في الدين لكي يدرك أن الفصل بين الرجال والنساء، في الأماكن العمومية خاصة، لا يكتسي خطورة شرعية تبرر الشرخ الاجتماعي المترتب عن الإصرار عليه. وأقرب ممارسة إسلامية يمكن أن يسترشد بها في هذا المجال هي الركن الخامس من أركان الإسلام (الحج) الذي يزدحم فيه الرجال والنساء ازدحاما تلتصق فيه الأجساد بالأجساد خاصة عند رمي الجمرات وتقبيل الحجر الأسود والسعي بن الصفا والمروة..الج. وقد مورست هذه الشعيرة على هذه الشاكلة طوال تاريخ المسلمين.

نعود بعد هذه البيانات لنقول: إن اللقاء بين هذه التنظيمات على مستوى القاعدة واضح جلي، وعلى أساسه يتم حشد المؤيدن في التظاهرات، وتجميع الأصوات في الانتخابات، حيث يصوت جميع الإسلاميين مع أي مرشح يحمل الشعار ضدا على خصم مشترك، هو الطرف الذي ينفصلون عنه في التظاهرات والأزياء، أي غير الإسلاميين. ومن خلال هذا التواصل يتم الانتقال من تيار لآخر حسب استعدادات الأشخاص؛ في ميلهم للحسم أو قدرتهم على الانتظار، وهذا ما كشفت عنه محاكمات ما بعد 16 ماي.

وكما هو حال الإسلاميين في جميع البلاد العربية فإن هذا "الآخر" المنفصل عنه ليس منسجما ولا على مستوى واحد بعدا وقربا منهم، بل فيه حليف مرحلي (عند الضرورة القصوى)، يضم كل أطياف اليمين والقوى الرجعية والحكام (الفاسدين في الغالب)، والعساكر الذين يقبلون تقاسم السلطة والغنيمة موقتا، أو التكفل بسحق العدو الإستراتيجي المتمثل في اليسار الاشتراكي "المتبجح" بالحداثة والعقلانية، الموسوم عندهم بالعلمانية التي يصرون على أن يفهموا منها شيئا واحدا، وهو الخروج من الدين جملة، لا يقبلون به بديلا مهما شرحت لهم. (في حلقة يوم الأحد 30/01/2005 من برنامج الشريعة والحياة، طلع الشيخ القرضاوي بفتوى جديدة من فتاواه "الوسطية" متحدثا عن علمانية اشتراكية أوشيوعية ملحدة، وعلمانية لبرالية محايدة).

في هذا الإطار يفسر تحالفهم مع شخص مثل الدكتور الخطيب حليف المجوبي أحرضان، ودع خيالك يسترسل حتى يصطدم بأفقير وزمن أفقير، ودورهما فيه، وحكم التاريخ عليه، ذلك الحكم الذي أزعج الدكتور الخطيب. إن حديث الدكتور الخطيب عن "الصعاليك"، وصفا لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وحديث الزمزامي الوقح عن المهدي بن بركة، وحديث التجديد عن "عقاب الله" وصفا لمأساة  الإنسانية في مصاب شعوب شرق آسيا رصاصات من عيار واحد أطلقت من بندقية واحدة بعينها: مدفع اسمه الحقد على "الآخر".

إن لقاء إسلاميينا بالدكتور الخطيب يذكر بالطرفة الت تناقلتها كتب الأخبار حول الصداقة غير الطبيعية التي جمعت بين شاعر الشيعة الكميت بين زيد الأسدي وشاعر خصومهم الخوارج الطرماح بن حكيم، فقد قيل أنهما اجتمعا على كره العامة، أي جمهور الناس. ومع ذلك فإن هذا السلوك قريب من التصور باعتبار الرجلين الشاعرين مثقفين يلتقيان في أشياء لا يجدانها عند جمهور حزبيهما، فما الذي يجمع الدكتور الخطيب المحمل بتاريخ الإخلاص للنظام المخزني المدان ـ وهو يترنح اليوم أمام هذه الإدانة مشهرا بذاءة لسانه ـ وبين هؤلاء الإخوان الذين يبشرون بإسلام نظيف متسامح؟

ومن المعلوم أن حدث 16 ماي نفض الغبار عن عبارة كانت مكتوبة على ظهر علبة الدكتور الخطيب منذ بداية الحوار مع الكتلة أواخر الثمانينات: "انتهت صلاحية هذه البضاعة". كانت هذه العبارة مكتوبة بالحبر السري منذئذ ثم جاء حدث إيواء الخطيب للشيخ الكتاني، لينهي المسألة ويقول الصانع للمصنوع: انسَ ظروف قتل عمر بن جلون، فنحن في مركبة أخرى، الكتاني ليس النعماني! مع السلامة.

ويبدو أن حزب العدالة والتنمية قد وقع في مأزق الخطاب السياسي حين فُرض عليه بعد حدث 16 ماي أن يستعمل لغة السياسة، ويبتعد إلى حد ما عن التحريض الديني القائم على تأثيم المجتمع، خاصة على منابر المساجد، كما أن تجربته في الجماعات المحلية التي تحالف في تسييرها بدون اعتبار لا للأشخاص ولا للهيآت، كما وقع في مدينة المحمدية، لم تقنع المواطنين بأن هناك ميزة يمكن المراهنة عليها. فبدأ الرجوع إلى ذلك الخطاب التأثيمي بطرق ملتوية ومن خلال الإنابة.

أضف إلى ذلك أن الوسيلة التعبوية الأساسية التي تعطي مزية للخطاب الديني عماة، كما سبق، وهي الانفصال عن الاخرين، لا تنهض بدون تأثيم، والتأثيم لا يتم دون كواهية، والكراهية بداية العنف اللفظي ثم المادي. والمعتدلون منهم، إن وجدوا، لا يتحكمون في اعتدالهم لأنهم يمارسون هذا النشاط التعبوي/الانفصالي مع حلفاء بدون فرامل (الجهاديون)، أو بنوايا بعيدة الغور (المهدويون). لماذا يلومون من يتهمهم بالتحريض؟