حواشٍ
على محاورة ذ.م. عابد الجابري
برنامج: " في الواجهة" |
أريد،
في البداية، أن يفهم القارئ أن مفهوم الحواشي التي سأوردها هنا ينتمي إلى عالم
"تحقيق النصوص"؛ حيث يكون المسعى إلى خدمة القارئ أولا وأخيرا؛ وذلك
برفع اللبس، وزيادة الشرح، واستحضار المغيب، في أدنى الحدود. وهذا قد يتم من داخل
العمل المحشَّى (مسايرة للمؤلف) أو من خارجه؛ إضافة من المحشي، تكميلا أو مخالفة.
وبعيدا
عن هذا التعليق ـ أو قريبا منه لا يهم ـ يحق للمغاربة أن يقولوا في حق الأستاذ الجابري ما قاله
الوشاح الأندلسي في حق علَم من أعلام عصره:
أما
ترى أحمدْ
في
مجده العالي، لا يلحقْ
أطلعه
المغربُ
فأَرِنـا
مثلـَه، يا مَشرقْ
يعرف
جيلي من تلاميذ أواخر الستينات أكثر من غيرهم قيمة الخدمة التي قدمها الأستاذ عابد
الجابري وزميلاه السطاتي والعمري لجيل كامل من الشباب المغربي المعرَّب المتعطش
للمعرفة. (ودعْك ممن "يصدعه" السؤال، أو "يشقق" رأسه النظر).
كنت أخشى ألا يُعرج محاوروه على هذا الحدث، ولكن مقدمة البرنامج كانت في الموعد.
وحين رفع الأستاذ الجابري اللبس مبينا أن
الفلسفة كانت تجميعا لعدة علوم (منطق، نفس، اجتماع، مناهج …) يجمعها الطابع النقدي
تمنيت أن يطور النقاش نحو موضوع الديمقراطية، موضوع الحوار من هذه النقطة:
عقلانية، حداثة، ديمقراطية. ليبقى في المستوى الفلسفي العالي مشرفا من أعلى على
الموضوع لا ملتفا حوله وجاريا في أعقابه. ومع ذلك فالحوار كان حدثا مدهشا؛ ربما
حتى بالنسبة للأستاذ الجابري الذي فضل التحفظ، راكبا المجاز والتعريض، في كثير من
الإجابات كما سيتضح من خلال تعليقات نوردها في غير نسق مساهمة في تطوير الأسئلة:
"أنا
أريد أن أكون قاضيا نزيها، وبالتالي فأنا افتقد إلى المعطيات".
ربما كشفت هذه العبارة
عن المستوى العالي من الرقابة التي فرضها الأستاذ الجابري على نفسه في هذا المقام.
والواقع أن المشاهدين، من العينة التي تتابع مثل هذه البرامج، لم يكونوا ينتظرون
إصدار حكم، بل كانوا يتطلعون إلى كشف العلاقات بين وقائع متجاورة ومتعاقبة في واقع
يبدو كاللغز: حيث شبح العودة إلى الصفر يطل من كل جانب. ولذلك فالنظر سيكون في
إطار تطور المغرب الحديث نحو المؤسسة وإعادة تشكيل الخريطة الحزبية. والأستاذ
الجابري في موقع ممتاز لمعرفة المعطيات العامة الكافية لتأمل المسار. وفي إطار هذا
النظر العام لتطور الحياة الحزبية والديمقراطية في المغرب يمكن استيعاب جميع
"الشؤون الداخلية" لجميع الأحزاب. لقد انتهى عهد "الشؤون
الداخلية" عالميا، والأجدر بنا أن ننهيه وطنيا وجمعويا، ولن يتم ذلك إلا بتغليب
القيم العليا على الحسابات الفئوية وعقلية التآمر. الذي كنا ننتظره هو قراءة
البوصلة والمسح الطوبوغرافي بالتصوير من أعلى، لا معاناة السير في الأحراش على
الأقدام، فتلك مهمة السياسيين (المدبرين). سيقال بأن تلك العبارة جاءت في سياق
السؤال عن واقعة بعينها: الخلاف الحالي بين الشبيبة الاتحادية وقيادة الحزب، ولكن
المتوقع من الفيلسوف هو أن يخرج هذا العيني من عينيته، وينزع عنه
"داخليته" لكي يصبح ممارسة من
الممارسات التاريخية المفهومة بالمماثلة. وفي غياب هذا التعميم ظلت صفة القاضي
مهيمنة على الحوار يترجمها التحفظ و"الإفراط في الاعتدال" إفراطا عاق
الحوار حتى عن استيعاب ما هو معروف متداول من فكر الأستاذ الجابري.
"السياسة
في المغرب أصبحت كالولائم والأعراس".
أورد الأستاذ هذه
العبارة في سياق الإيجاب، أي أن هناك إمكانية للالتقاء مع الاختلاف. غير أن اللغة
وانحراف الممارسة السياسية فعلا في المغرب نحو ملأ البطون المختلفة تفترض أن نحارب
أي مماثلة أو تقريب بين السياسة والوليمة (أي الزرود).
فهل
قول الأستاذ: " والآن هم يلتقون حول وليمة السياسة"، مدح أم هجاء؟
أنا
متأكد من أن الحالة النفسية التي تستدعي الوليمة في هذا المقام هي حالة الاستهجان،
لأن المأكول في وليمة السياسة ـ إذا صارت كذلك ـ هم عامة الغائبين عن الوليمة، أي
الشعب.
ومن المؤسف أن ثقافة الوليمة السياسية التي اعتبرت إيجابية
هي سليلة ولائم الوصال بين المخزن والمعارضة التي يدعو الأستاذ، في جملة عابرة إلى
تجاوزها نحو عمل المؤسسة.
ولا
شك أن الوليمة السياسية هي نفسها التي وضعت الحَب والتبن في "الشواري".
فهل الشواري هو الثمن الوحيد الممكن لأربعين سنة من المعاناة؟ لا بد من الالتفات
أيضا لمن يطرح هذا السؤال. ليس من المنطقي أن أحمل الأستاذ أي مسؤولية، لا مناضلا حزبيا
ولا مفكرا نزيها ملتزما، ولكني أجد ارتياحه لهذا التقليد محل نقاش ومنازعة، بل قد
يكون مستفزا للبعض، مثل خنق النقاش في القضية الأمازيغية.
"السياسة هي مجال اللاعقلانية، ويجب أن نعترف
بهذا". يمكن أن يكون هذا الكلام عاديا بين المختصين حيث يرام التفريق بين
البرهاني والاحتمالي، أما في المجال العام فمن الأكيد أن نفي العقلانية عن السياسة
سيؤدي إلى كثير من الخلط والفساد؛ والذين كذبوا علينا عرفناهم وسحبنا ثقتنا منهم!
ولم يبق لهم من السياسة غير "الشياشة" يَهُشون بها عن الوهم حتى جحظت
أعينهم.
وقد زاد الأمر تعقيدا حين احتج بحاجة السياسة إلى الكذب. كنت
أتمنى ألا تطلق مثل هذه العبارة على عموم المستمعين. قد يكون استعمال الكذب هنا
أشبه باستعماله في مجال الشعر، حيث يقال: الشعر أعذبه أكذبه. غير أن هذه
"الكذبة" الشعرية متداركة
بمبدأ انغلاق النسق؛ حيث لا يطالب الشاعر
ـ كما قال الجرجاني ـ بالتدليل على صدق مقدماته. أما الكذبة في مجال السياسة فقد
يطالها القضاء: الإدلاء بمعلومات زائفة يترتب عنها ضرر، قد يكون الكذب في السياسة
خيانة للأمانة. ونحن نتحدث عن واقع عيني عملي لا يكفي اجتزاء شاهد من هنا أو هناك
لتمرير فكرة بهذه الخطورة.
كان الحديث عن نوع العقلانية السياسية أنفع لجمهور
المشاهدين، وقد نص الأستاذ في مكان آخر من الحوار على أن السياسة هي الأخلاق. وما
دامت كذلك فينبغي أن نصر على أنها أخلاق الحق والعدل، أي النفع العميم، عبر
المصارحة والشفافية.
إن الذي يستدعي لفظَ
الكذب للحضور في مثل هذا المقام هو اعتماد
"الاستهواء" استمالة وتنفيرا، في الإقناع؛ خاصة في المجتمعات
الديمقراطية والليبرالية حيث تهيمن قيم السوق. غير أن بين الاستهواء والكذب فرقا
لا يمكن تجاهله كما بينا في مقال ينتظر ظهوره في العدد المقبل من مجلة المناهل
[أعد فعلا بطلب من المجلة المذكورة ولكنه لم
يظهر فيها لملابسات خاصة، بل ظهر كمدخل لكتاب: دائرة الحوار]. الكذب عنف
وإعنات وهو ينتمي إلى المطلق، وبذلك يفسد الحوار والتشاور أي السياسة، إنه غش.
وقد ذكر الأستاذ أن العرب لم يعرفوا السياسة إلى أن اتصلوا
بالفرس واليونان لأنهم كانوا قبائل… الخ وأنا أضيف إلى ما
قاله أنهم حين أسسوا دولة وشرعوا في ترجمة مفاهيم تدبير شؤونها اختاروا كلمة سيئة
وهي: ساس يسوس، وكلمة أخرى تشرحها وتدعهما وهي كلمة الرعي: الراعي والرعية.
وللكلمتين مفهوم العلاقة بين الإنسان والحيوان. وقد أحس الشاعر الشيعي الكميت بن
زيد بمرارة سياسة الإنسان كالحيوان فقال:
يسوسون الناس سواء ورِعْيةَ الأغنام
ومن هنا نسمع في الدارجة: "سايس معاه حتى تقبطو".
فصارت سياستنا مجرد وسيلة للتمكن!!!!
"التجارب الديمقراطية، في الغالب تطبعها الخصوصية،
فالطريق الفرنسي إلى الديمقراطية ليس هو الطريق الإسباني، وليس هو الطريق الألماني
والإنجليزي".
حين يلحق هذا الكلام بكلام آخر في نفس الحوار (يقول بأن لا
طريق إلى الديمقراطية غير الديموقراطية) سنحتاج إلى مزيد توضيح لرفع اللبس. والذي
أخشاه أن يُفهم ما لا يقصده الاستاذ من أن تعدد الطرق إلى الديموقراطية يؤدي حتما
إلى تعدد الديمقراطيات.
- الطريق إلى الديمقراطية هو الديمقراطية
- الطرق متعددة حسب الشعوب
= إذن: الديمقراطيات متعددة حسب الشعوب
والأستاذ يعلم ما وراء هذا القول من احتيال على حرية الشعوب.
ينبغي الخروج من هذا الغموض.
وفي تاريخ المغرب من قال باللسان ـ كما روي ـ أو بالحال ـ
كما علم : ما يصلح للبشر لا يصلح للبقر. ولكل مستبد أبقار تخول له ديمقراطية
الجزار.
"الصفحة
المطوية قابلة للفتح منا أو من غيرن"ا. هذه فكرة جوهرية عبر عنها الأستاذ الجابري
أحسن تعبير رمزي حين قال: "إنها صفحة مطوية في كتاب نحتفظ به". ولكنها
تحتاج إلى ضرب الكثير من الأمثلة. كما تحتاج إلى بيان مرجعها النظري.
فمن الناحية النظرية لا بد لكي يبقى الإنسان إنسانا بامتداده
الزمني أن يعيد قراءة القراءات الماضية كلما خطا خطوة إلى الأمام، وذلك ضبطا لدرجة
الاتصال والانفصال عن الماضي. ولا يمكن أن ينوب عنه غيره في ذلك. أما الأمثلة فما
أكثرها؛ وأسخنها خطة إدماج المرأة. وقد سبق أن عرضت لهذه القضية: فلسنا نحن من
يقرر فتح هذا الملف أو ذاك، فقد يفتحه أي طرف، وليس في وسعنا أن نعلن بأن القطيعة
مع هذا أو ذاك قد أعلنت كما تعلن حالة الطوارئ، لأننا نحمل شعار الديمقراطية ونعطي
الكلمة للجمهور. ولم يكن عند من يدعي القطيعة ما يقوله مثلا "للعلماء"
(بين قوسين) حتى ولو كان كلامهم مجرد شغب وهذيان. وإنما قمعهم العارفون بأصول
التشريع والفقه في الإسلام.
من الأفكار الهامة التي أبرزها الحوار
كون التطرف ظاهرة كونية تاريخية عادية ما دامت في حدود الأطراف أي الهامش، أما حين
تنتقل إلى المركز وتطال الغالبية فحينئذ ينبغي البحث عن الأسباب في الاجتماع
والسياسة.
"بالنسبة لي شخصيا، لم يستدعني أي أحد، لا المكلفين
باللجنة ولا حزبي".
دعك مما جاء بعد هذه العبارة من قول الأستاذ: "هناوني…" فمجالها الدلالي واسع يمتد بين: "سامحهم
الله"، في أسفل السلم، وبين:
"فليذهبوا إلى الجحيم"، في أعلاه. وأنا أجد المعني الثاني أنسب لمرارة
يمكن أن يشعر بها مناضل بأنفة الأستاذ عابد الجابري.
بعد الحوار الذي أجراه نفس البرنامج مع الأستاذ عبد الله
العروي التقيت صدفة بزميلين من أكاديمية المحمدية، ونحن نتجول في حديقتها الجميلة،
دار الحديث حول رأي العروي في التربية والتعليم، فقال أحدهما بمرارة: كيف توضع
برامج التعليم في المغرب في غياب مفكرين من مستوى عابد الجابري وعبد الله العروي؛
يعالج المسألة إداريون لا تصور لهم.
هذه قضية شائكة حقا، إن الكفاءات المغربية (العلمية
والرياضية وغيرها) ضائعة بين مناضلين ميدانيين (سرعان ما يتحولون إلى سياسيين محترفين،
إن لم يكونوا كذلك من البداية) وبين موظفين بيروقراطيين. وما دامت المواقع
والمناصب (واللجن، والوساطات) هي الطريق المباشر إلى المنافع وليس الإبداع
والإنتاج الملموس المفحوص بالموازين السليمة فلن يكون مكان للكفاءات إلاَّ بالقدر
الذي يخدم مصالح "المناضلين" الشلاهبة والبروقراطيين الجاهزين لكل
مقايضة.
تحياتي وتقديري