زلَّة ٌ بَلقاءُ مشهورة

تعليق على حوار خالد عليوة

محمد العمري

 

نشر هذا المقال بالعدد 37 من جريدة الحياة الجديدة (مغربية)

 5ـ18 دجنبر 2008

 

 

 

قال زياد بن أبيه، أحد أشهر القادة الخطباء في العصر ألأموي: "إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة. فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي... واعلموا أن عندي أمثالها".(من خطبته البتراء). كلام زياد خطير من جهتين: الكذبة الواحدة تشي بوجود أمثالها، ومع الكذب تذهب الثقة ويسقط المثال، والأمير، هنا، هو النموذج والمثال.

برغم استبعادي أن يكون الخبر ملفقا بدون سند فقد صعُب علي أن أصدق، في البداية، ما نسب للسيد خالد عليوة الرئيس المدير العام للقرض العقاري والسياحي في جريدة الحياة الجديدة: اقتناء شقة بمساحة خمسمائة متر مربع وسط الدار البيضاء بثمن دون ربع ثمنها، حسب ما تناقلته الصحافة، شقة في ملكية المؤسسة التي عينه الملك محمد السادس على رأسها قصد تقويم وضعيتها وترشيد تسييرها واسترجاع ديونها العالقة بعد أن حقنتها الدولة بملايير من المال العام. افترضت أن الأمر يتعلق بسوء تفاهم سرعان ما يتبدد، بتوضيح أو بيان حقيقة، إلى أن جاء تصريح المعني بالأمر في جريدة المساء، ضمن حوار عام، يؤكد الواقعة ويلتمس لها المبررات، ثم يعدو ذلك إلى الاتهام والتهديد. صعُب علي أن أصدق الخبر لسببين كبيرين:

 أولهما أن السيد خالد عليوة إطار بارز في قيادة حزب كان رأس ماله، إلى عهد قريب، التضحية بكل معانيها، والعفة في التعامل مع المال العام. وقد رأيت الإتحاديين وعايشتهم داخلا فيهم وخارجا منهم، حين تولوا شؤون المجالس البلدية، يأكل بعضهم بعضا على الشبهةِ والتافه من الادعاء، رأيتهم في الدار البيضاء وفاس وأكادير والمحمدية ومدن أخرى. رأيتهم في المحمدية يمتنعون عن الاستفادة المشروعة من تجزئة لاكولين بتوصية من الحزب، ورأيتهم في فاس يحملقون طوال النهار في علبة سجائر يدخنها رئيس المجلس البلدي أو نائبه لأنها من مارلبورو وليست من كازا سبور تبغ المناضلين البؤساء. ثم إن جريدة الإتحاد الإشتراكي كانت تتعقب المتطاولين على الملك العمومي وترهبهم في ذلك الزمن الذي كان فيه الإستيلاء على الملك العمومي فلسفة للدولة، في إطار التقاسم بين المخزن وعملائه. ومن دلائل ما أقوله أن مدير الصحيفة التي أثارت مشكل عليوة مناضل من ذلك الإتحاد الذي كان، رفض المقعد البرلماني في سابقة لا لاحقةَ لها، لمجرد شبهة لا يد له فيها. هل رحم الله ذلك الإتحاد؟ أطرح هذا السؤال لأن الصحفي الذي استجوب السيد عليوة ختم حواره بسؤال ذكي مضمونه: هل ودعت السياسة؟ فجاء جواب خالد عليوة بالنفي، مازال يحتفظ على انتمائه.

إن هذه الاعتبارات هي التي تستتبع تعليقا قاسيا من قبيل قول عبد الرحيم تفنوت: "إن ما فعله عليوة، وما صرح به، فيما بعد، لجريدة المساء يجعل المرء في حيرة من أمره ! فهذا الرجل الآتي من بيت اشتراكي، صارع مناضلوه الدولة الاستبدادية واقتصاد الريع لأزيد من ثلاثين سنة، لا يستحيي من نفسه، وهو يدافع عن استحواذه على ملك ليس له". (الحياة الجديدة. ع.33). 

والسبب الثاني (لصعوبة التصديق) هو أن الرجل أُنتدب من طرف جلالة الملك شخصيا لقيادة عملية إصلاحِ حالةٍ من الإفلاس قاد إليها عدم الحرص على أموال المؤسسة. وتاريخ هذه المؤسسة وحده كفيل بجعل المسؤول عنها يحتاط في أن يقع فيما وقع فيه سابقوه مهما كان بين يديه من إمكانيات التحايل المسطري. يقول الخبير الإقتصادي السيد إدريس بن علي، في هذا السياق: "كان على خالد عليوة أن يتنزه عن السقوط في مثل هذه الأمور، خاصة وأن مؤسسة القرض العقاري لها إرث وماض مليء بالفضائح المالية طيلة عقود من الزمن. ثم إني أتساءل كيف يفوت مدير مؤسسة لنفسه حتى لو كان ذلك من حقه قانونيا وبمصادقة مجلس المؤسسة، لأن أعضاء هذا المجلس يوجدون، في نهاية المطاف، تحت سلطته الفعلية، وقد تكون لبعضهم مصلحة مشتركة، مما يدفعهم إلى التصويت لفائدة الرئيس. أكثر من هذا، فإذا ما امتنع عضو واحد من المجلس، فقد يشعر بالحرج خشية أن يتعرض فيما بعد إلى الانتقام من الرئيس الذي له صلاحيات واسعة في تقييم أدائه داخل البنك. ثم هناك معطى آخر وهو أن مجمل العاملين في المؤسسة سيسحبون طلبات شراء عقار تابع لممتلكات البنك عندما يصل إلى علمهم أن رئيسهم تقدم بطلب لشراء نفس العقار. إذن، كان من الأفضل أن يبقى خالد عليوة بعيدا عن هذه الشبهات".

إن قول الأستاذ ابن علي: "كان على خالد عليوة أن..."الخ، وهي عبارة تكررت عند غيره، يدل على أن الرجل وضع نفسه في موضع لا يلائمه. وستبقى زلته، ما لم يتراجع عنها، بلقاءَ مشهورة تتراءى من بعيد ككذبة الأمير في قول زياد بن أبيه. ومن الأكيد أن عدم تراجع عليوة سيعني أنه طلق الحياة العامة بصورة نهائية معتبرا ذلك ثمنا كافيا.

هذا عن الواقعة والشخص أما التبرير الرئيسي الذي قدمه خالد عليوة في حواره فغير مقنع. لأنه يقول، من جهة، بأنه معين من طرف جلالة الملك، لا يدين بالفضل في ذلك لأحد، ويقول، من جهة أخرى، بأن السياش بنك ككل الأبناك يتصرف في ممتلكاته بحرية، يفوتها بمقابل أو بدونه: "لنفرض (حسب لفظه) أن مجلس المؤسسة في السياش قرر أن يفوت هذا العقار إلى شخص خالد عليوة مجانا فهذا يدخل في صلاحياته".

هذا كلام لم يقنع، ولن يقنع، أحدا، لأن الكل يعلم أن الصفة التي سمحت للملك بتعيينك على رأس السياش ولا تسمح له بتعيينك رئيسا مديرا عاما لأي بنك آخر، مثل مصرف المغرب أو البنك المغربي للتجارة الخارجية هي أن الدولة ضخت مالا عموميا من خزينة الدولة في السياش، وما تزال يدها هي العليا فيه. وهل تعتقد أن أحدا كان سيسألك: لماذا وكيف؟ لو حصلت على ما حصلت عليه من بنك آخر بعيد عن المال العام؟ لا، أبدا سيبقى الأمر بينك وبين المكتتبين فيه.

بالإضافة إلى التبرير المسطري الشكلي الذي اعتقد عليوة أنه وجده في قرار مجلس الإدارة وعدم اعتراض مجلس الرقابة حاول أن يسوِّغ الفرق الكبير بين الثمن الحقيقي للعقار والثمن الذي فُوِت به لصالحه معتبرا ذلك تعويضا له عن العمل الذي قام به في تقويم حال المؤسسة. وهذا خلط لا محل له. ذلك أن هذا المنطق كان يفرض عليه أن لا يتسلم ذلك البنك لتقويم حاله ـ كما لايفعل كل خبير واثق من مؤهلاته ـ إلا بعقد واضح يحدد فيه شروطه. سأفعل كذا مقابل كذا. أما اقتطاع جزء من الثوب بعد خياطته فيذكر بقصة الذئب الذي أكل القربة مقابل أجرة خياطتها. والمناسب في مثل حاله أن يدفع مقابل التدريب: تعلم الحجامة في رؤوس اليتامى.

 وقد استغربتُ رفضَه التصريحَ بأعلى أجرة تؤديها السياش، أي الأجر الذي يتقاضاه هو شخصيا، وكذا رفضَه ذكرَ الثمن الذي باع به إحدى الفلات !! سبحان الله! سبحان مغيرَ الأحوال، لقد تولى السيد خالد عليوة لفترة ما إدارة الجريدة التي اشتهرت في المغرب بالتشهير بالأجور الكبيرة، أجور مدراء المؤسسات الكبرى المرتبطة بالدولة نوعا من الارتباط. ما هو السر الذي يخفيه التكتم على ثمن بيع ملك من أملاك السياش، هذه المؤسسة الملتبسة؟ المفروض أن يكون علنيا عند الجميع.

ومن أغرب ما جاء في الحوار، لغرض تشتيت الانتباه، اعتبار كشف قضية الشقة مؤامرة ضد المؤسسة! وتهديدُ المتآمرين باللجوء إلى القضاء! أتمنى ألا أكون منهم. والتآمر على المؤسسة قد يكون في خياله تآمرا على من يقف وراء المؤسسة. أما قوله بأن أعوانه كانوا سيبادرون بالرد فمجرد ذكرى من تكتيكات الحياة السياسوية.

قال السيد خالد عليوة كلمة صادقة لا بد من تسجيلها وهي أن المسؤولية مشتركة بينه وبين مجلس الإدارة ومجلس الرقابة. وعليه فالمنتظر من المجلسين، خاصة مجلس الرقابة، تقديم توضيح.

المحمدية في 09.11.2008