"الكلامْ
عْلاشْ
تْعولْ" في
الدفاع عن
الوزير الأول
ما الذي
أَفلَتَ من الوزير
الأول؟
محمد العمري
نشر
هذا المقال
بجريدة
الحياة
المغربية. 22ـ23 ماي 2009 |
دأب
الكثير من
الصحفيين على
انتقاد غيابِ
الوزير الأول
السيد عباس الفاسي عن
قبة البرلمان للدفاع عن
حكومته في
اللحظات
الصعبة
الكثيرة التي
عرفها
التدبير
الحكومي طوال
ما مضى من ولايته.
كانوا
يتوقعون منه،
لا شك، أن يقتدي
بنظرائه في
الدول
الديمقراطية،
ولو في المظهر
والشكل. كما
تطلع
الصحفيون طويلاً
للاستماع
إليه عبر
الصحافة
المغربية بعد
أن أطل عليهم
مرة واحدة من
نافذة خارجية.
انتظروا
طويلاً
وعندما تفضل
وأهلَّ عليهم
هلالُه على
شاشة القناة
الثانية،
غداة إضراب
قطاع النقل، لم
يُعجبهم
العَجب، فقال
بعضهم: خُبز (بل
خبرٌ) بائت،
وقال البعض
الآخر: لم يقل
شيئاً؛ بدأ
الكثير من
الجمل وترك الختم
للمستمعين.
وضربوا مثلا
لإيجازه
المعجز بـِ"الخروف"
الذي أفلت منه
وهو يتحدث عن تخليص
منطقة
العرائش من زراعة
عشبة (أفلت
منه اسمها هي
الأخرى) فلم
يستطع أحد من
المشاهدين
المستمعين
الإمساك به أو
إدراك كنهه. ويسألونني
أنا كيف وقع
ذلك! وهذه
مبالغة في
التقصي.
أنا
ضد هذه
المواقف
العدمية غير
المتفهمة! فبرغم
أن الكثير مما
قاله الوزير الأول
"أفلت" مني
فإنني أتذكر
عدة كلمات
مفاتيح،
كلمات كافية
للإحاطة
بفلسفة الرجل
وتوجهه، وهذا
هو المهم: أتذكر،
على الأقل،
أنه صَرَّفَ
فعلَ "فَلَتَ"
و"أفلتَ"،
وأعطى كل
المؤشرات
التي تدل على
أن هذا الجذر
المعجمي هو
المدخل
الرئيسي للتدبير
السياسي في
المغرب، بل لرؤيته
للعالم:
ورد لفظ "الإفلات"،
أو أحد مشتقاته،
في كلام السيد
الوزير الأول
بصدد معضلتين
رهنتا مستقبل
المغرب عقودا:
المعضلة الأولى:
الإفلات من
العقاب. حين
سئل الوزير عن
مصير تقارير
المجلس الأعلى
للحسابات صرح،
بدون تحفظ أو
احتياط، أن "زمن
الإفلات من
العقاب قد
ولَّى إلى غير
رجعة". وبذلك
أنجز، في رمشة
عين، عملاً تاريخيا
سيضع المغرب ـ
إن صدق ـ في
طليعة دُوَل
العدل
والقانون. العيب
الوحيد في هذا
المنجز هو أنه
سيترك الأساتذة:
حميد أمين والصبار
وعبد الرحيم
الجامعي،
وخاصة
الأستاذتين
المحترمتين رئيستي
الجمعة
المغربية
لحقوق
الإنسان والمنظمة
المغربية
لحقوق
الإنسان،
وعشرات
المصابين بهذا
الداء، بدون
شغل. وسيسحب من
التداول كل
الملفات التي
تتحجج بها وتتبجح
جمعية حماية
المال العام ومحاربة
الرشوة ترانسبرانسي.
بل الأهم من
ذلك أن تجار الانتخابات
سيحاصرون في
قواعدهم خائبين
غير غانمين، وسيرتاح
السيد الوزير نفسه
من عبء الدفاع
عن مرشحي حزبه
الذين لا يُستبعد
أن تخرج
أرجلهم من
"الشواري"،
كما وقع في
الانتخابات
الماضية (2007) حين
شكك في نزاهة متابعة
المفسدين. وسيرتاح،
بعد كل ذلك، الأستاذ
حرزني
وزملاؤه في
المجلس
الاستشاري من
أزيز الأصوات الحادة،
ولسعات الكلمات
الجارحة التي تصلهم
يوميا من
هؤلاء "الفضوليين"،
المتمسكين
بمحاسبة الجلادين
وكل الضالعين
في الاعتداء
على حقوق
الإنسان، خاصة
وأنهم
مازالوا
يصرون على
اعتذار
الدولة عما
وقع. وسيُترك نيني وبدومة
وحافظ ومفتاح والغزيوي وغيرهم
من "الحكارين"
الذين يحكون
على "ضبرة"
حسن اليعقوبي،
وغيره من المختلين
عقليا، مرضى
السلطة
والتسلط، من
أصحاب
الحوادث..، بلا موضوع يدبجون
فيه أعمدتهم
اليومية. الله
على راحة مع
هذا الوزير
الأول الذي
يعرف ما يقول.
لن يجرؤ أحد،
بعد هذا
المنجز الضخم،
على التساؤل
مرة أخرى: "لماذا
يصلح عباس الفاسي"؟!
المعضلة الثانية تتعلق
بالوزير
نفسه، تتعلقُ
بالسؤال عن الإصلاح
الدستوري،
الوزير الأول
لا يرى أن
الموضوع ملح. بل يذهب
بعيدا فيتهم من
يُلح ويستعجل في
هذا الموضوع بالخوض
في الماء
العكر
(استغلال
سياسي). يقول: لماذا
الإصلاح
والوزير
الأول "ما
فالتَ لُو حتى
حاجة"؟ (يقصد
"لا يُفلت منه
شيء. وليس ما
يذهب إليه العوام
حين يقولون:
"فالتَ لو شي
نقشة"). وقد
تحدى الصحفيَّ
المسكين أن
يقول له ما
الذي أفلت من
الوزير الأول،
فلم يجد
جواباً.
السيد
الوزير الأول لا
يُفلت منه
شيء، فهو خير
من يصدق عليه
قولُ الناظم:
"لا
يَعزُبُ عن
علمِه مِثقالُ
* خَردَلةٍ
يأتي بها الفَعَّال"
ويعجبني
في كلام
الوزير الأول
أنه غير مُرسَلٍ
على عواهنه،
بل هو مسلَّحٌ
بأكثر من دليل،
انتبِهْ معي،
حفظة الله،
وسأقتسم مع
ثوابَ إبراز
مناقب الوزير
الأول:
الدليل الأول على صحة
ما يقوله الوزير
هو أنه كلما
اتخذ جلالة الملكُ
قراراً "إلاَّ"
أخبره به. وهذا
أمر ليس
جديدا، فقد
سبق أن لمَّح
إليه سعادتُه
حين كشف سرَّ
التلفون
الإضافي
الخاص الذي
يحمله في جيبه
أربعا وعشرين
ساعة على أربع
وعشرين. وأنا أفترض
أنه تلفون
أحمرُ ساخن.
والدليل
الثاني على أن
لا شيء يُفلت من
الوزير الأول هو
أنه يُوقِّع
على كل شيء،
حتى شؤون
الدفاع
يوقعها، فما
بالك بما هو
دون الدفاع ! فماذا
تريدون؟ إنه
يعلم في
الأخير بما
يحدث، ويوقع
على ما يقدم
إليه من
أوراق، وهذا
هو المهم.
ألستم من
يقول: "اللَّخْرة
مْدخرة". وترجمتها
حسب ما
قال أحد
العوام:
الأخيرة هي
السمينة
المصونة.
وفي
إطار هذا
الفلسفة
التسجيلية
فإنه يرى أن
الإصلاح
الدستوري
ينبغي أن
يأتي، هو
الآخر، من جلالة
الملك، محتوى
وتوقيتا. كان
الله في عون جلالة
الملك، عليه
أن يقوم حتى
بدور المعارضة.
والوزير
الأول مستعد
لتسجيل ما
يقترحه جلالته
ويوقعه، هذه
المرة بصفته
أمينا عاما
للحزب. وهكذا
تتوحد الرؤية
وتمتد فلسفة
الوزارة في فلسفة
الأمانة.
لطيفة: من ألطف
المديرين
الذين صادفتهم
في حياتي ـ
وما أندرهم ـ "مديرُ
شؤونِ
ألإدارة" في
إحدى الدولة
الشقيقة، كان
يجلس في مكتبه
طَوال النهار
واضعا رجلا
على رجل،
يتصفح
الجرائد
ويشرب القهوة بالهيل
منتظرا بصبر
أيوب أن يطرق
بابه أحد
المتعاملين
ليبصم له
بالعطف على
عمل وقَّعه
ثلاثة مدراء
قبله، يبصم
بفرح في رمشة
عين دو
الإطلاع على
المضمون.
وبالمناسبة
فالمدراء في
تلك المؤسسة
أكثر من
الموظفين.
لندع
هذا المدير الإضافي
(أو الحلية) سعيدا
بخاتمه
الأنيق
فوزيرنا أهم
لنا منه.
"وعصيفيرٌ
في كفي قائمٌ * هو خيرٌ
من طيور الشجرِ"
يرى
الوزير أن ما تسمونه "وزارات
السيادة"
مجرد كلام بلا
معنى. وهو إذ
يعرف أنكم سَتُمارون
في ذلك قرن
الحكم
بالدليل
الدامغ (من دمَغ
يدمَغ، أي "فَلَّق
يُفلَّق"، أو
فَلَق يَفلَق).
الدليل
على ذلك هو
أنه يستطيع أن
يطلب من أي
وزير، حتى ولو
كان وزير الخارجية،
أن يقدم
تقريراً
لزملائه في
المجلس
الحكومي! فما ذا
تريدون بعد
هذا؟ الوزير
يقدم تقريراً
يقول فيه ما
يريد،
والوزراء
يستمعون إليه إلـى
أن ينتهي، وقد
يسجل بعضهم
شيئا من كلامه
في ذهنه أو في
ورقة ليهمس به
في أذن أحد
الصحفيين
المتربصين،
وذلك أضعف
الإيمان.
ولأن
ساحة الحِجاجِ
لا تخلو من حُفَرٍ،
تَزِلُّ فيها
عادة أقدامُ
الغافلين، فقد
تذكر هنا أن
سلفه،
الأستاذ محمد بوستة،
كان قد زهِدَ
في الوزارة
الأولى أوائل
التسعينيات
من القرن
الماضي،
وتوقف الحوار
مع الكتلة بسبب
ذلك سنوات، بسبب
إصرار الملك
الحسن الثاني
على استمرار عميدِ
وزراء
السيادة
إدريس البصري في
الحكومة
باعتباره
حاميا
للمقدسات،
لعله سعادته تذكر
هذه الواقعة المنغِّصة
فشرع يُثني
على دماثة خلق
وزير
الداخلية
الحالي:
الوزير لم يعد
هو الوزير.. وبذلك
أعطانا درسا
جديدا، تعلمنا
منه أن التدبير
السياسي مسألةُ
أفرادٍ وأمزجة،
وليستْ مسألةَ
منهجيةٍ
وقواعدَ
مطردةٍ
تصوغها
مؤسسات ذات
مشروعية
وأهلية.
هل
تريدون من
الوزير الأول
ـ كما قال ـ أن
يزاحم الملكَ
في صفةِ أمير
المؤمنين؟! الوزير الأول لا
يمكن أن يكون
أميرَ
المؤمنين؟! هكذا
قمعَ الصحفيَّ
"الغلبان"
الذي تجرأ،
رغم تحفظه
الظاهر، فأعاد
عليه السؤال
المحرج، سؤال
تقاسم السلط.
ولا شك
أنه يريد أيضا
أن يُميط
اللثامَ عن
نوايا وأهواء
يَفترضُ وجودَها
عند الملحين
على الإصلاح. وهكذا مـدَّ
الرجل سلطةَ
الوزارة
الأولى سجالا إلى
تخوم إمارة
المؤمنين،
أخذ كل شيء
ولم تفلت منه
إلا إمارة
المؤمنين! وبذلك لم يعد يفهم المقصود
بمطلب تقاسم
السلطة مع
الملك! ومن
الأكيد أن الوزير
الذي أنجز كل
هذه الفتوحات
سيحس بمرارة كبيرة
حين يسمع واحدا،
مثلَ الأمين
العام للحركة
الشعبية، يتهمه
بالعجز عن
ممارسة مهام
الوزير الأول
المخولة له حاليا،
ولا شك أنه
سيقول له، لو
قدر له أن يواجهه:
كُنْ سْبَعْ
وكُلْني"،
"مَا حْنا في
الهمِّ سواء"
؟!
هكذا
إذن، فبمعالجة
فعل "أفلت"
نفيا وإثباتا حل
وزيرنا الأول معضلتين
كبيرتين هما
عمود السياسة
ومدخل الحداثة،
الأولى تؤرق
ضمير العدالة:
الإفلات من المساءلة
والعقاب، وما
يؤدي إليه من
إعادة إنتاج،
والثانية
تؤرق ضمير
الممارسة
السياسية في
المغرب، منذ
خمسين سنة،
وهي قضية
المسؤولية
السياسية،
مسؤولية الملك
ومسؤولية
الأحزاب أمام
المواطنين.
معضلتان
مفتاحهما في
كلمتين من
شفتي وزير يُسابق
الشباب فيحوز
قصب السبق، ويقفز
إلى الأعلى
فيتجاوز
الحاجز
القصير الذي
وقف عند سلفُ
سلفِه
الأستاذُ عبد
الرحمن
اليوسفي حين
تحدث عن "جيوب
مقاومة
الإصلاح": لا
إفلات من
العقاب، ولا
شيء يفلت من
الوزير الأول.
وما على من
يقول غير ذلك
من المعارضين
الداخليين
والمراقبين
الدوليين إلا
أن يقتنوا
نظارات جديدة
سيوزعها الوزير
الأول قريبا
بأثمنة رمزية.
بعد
هذه البيانات
تحدَّيتُ زيدا
وعمْرا أن
يأتيا بمثال لشيء
أفلت من
الوزير الأول ؟
فبدآ "يُهترفان"
بجزئيات:
قال زيد: أفلتَ
منه خبر
الإضراب الذي جاء
يتحدث عنه،
ففي الوقت
الذي يناشد
النقاباتِ حلَّ
الإضراب كانت التلفزة
نفسُها قد
أعلنت منذ حين
عن حل
الإضراب. قلتُ
له: لا ضير، لعله
تسجيل؟ قال:
ولعله مما قُضِي
دونه! ألم يُسأل
مرة عن
الزيادة في البنزين
فأفلت منه
الجواب؟
فكانت البركة
في بركة.
قال
عمرو: أفلتَ
منه ما وقع في
سيدي إفني.
رغم أنه عاد
فقال: إنما
أفلتَ ذلك من
الصحفيين
الذين بتروا تصريحه ...إلخ
فتحداه
الصحفيون بالتسجَّلات
فأفلتَ منه
الجواب. قلت:
لعلها كبوة
جواد، الرجل
متفائل، لا
أقل ولا أكثر..
قال
زيد: أفلت منه
اسم ثاباتيرو
فرقَّعه باسم
أزنار، وأنث المذكر.
وأنشد: "خوسي
ماريا، ماريا خوسي ثاباثيرو.
بحالْ بحالْ. رودريكز
ولاَّ أزنار،
بحال بحال..."
قاطعتُ
هذا الهذيان
قائلا: خَلْط
الأسماء أمرٌ
واردٌ
ومحتمل، فأنا
نفسي صرت أخلط
حتى أسماء
أبنائي: أريد
سامي فأنادي
طارق، وأريد
طارق فأنادي كمال،
وقد استعرض كل
الأسماء قبل
أن أصل إلى
الهدف. غير
أن الخبيث رد
علي هذه الحجة
التي
اعتبرتها دامغة
قائلا: هذا
صحيح، وقد
فعلت خيرا حين
تقاعدت قبل
الأوان
ولازمت بيتك. ولو
أراحنا مثلك لأرحناه.
أحسست
بالحرج فقلت:
دعْكما من هذا
العبث ولا
تتمسكا
بفلتات
الذاكرة
وعثرات
اللسان! وتقولان
لي: خروف مَا
خروف !!
قالا
معا بصوت واحد: ودعك
أنت من
التبرير
والتلميع، ما
رأيك في فلتة
الفتات، وما
سماه بعضهم ّزبلة الزبلات"
(بتفخيم الراء
والباء)، وما
تلاها من
إفلات من ..؟
قاطعتهما،
عرفت أنهما
سيفتحان ملف "النجاة"
وما ترتبُ عنه
من مأساة،
وسيتخذانه
دليلا على
فساد ما ادعيناه،
أنا وهو، من
عدم الإفلات،
فرفعت راية
الاستسلام
وأمسكت عن
الكلام. ثم
اعتذرت
للوزير عن
طلبه الأخير
في تلك الندوة،
حين طلب من
المغاربة أن
يثقوا في دولتهم
(وهي صيغة مكشوفة
لتغليف حكومتهم).
قلت
لسعادته: إن الثقة
لا تمنح بل تُكتسب،
الثقة ليست بدون
ثمن أو بدون نسب:
أمها الوفاء،
وأبوها العدل،
ونحن
"شُمِتنا"
مرات وظُلمنا
مرات. والمؤمن
لا يلدغ من
جحر مرتين.
سر مهني
(كالوشاية): كتبتُ
هذا المقال
لغرض العلاج،
كتبته لكي
أنسى ذلك
الحوار المليء
بالعيوب
الحجاجية المعنتة
التي تتوارد
علي بالليل والنهار.