في فم الخطيب ماء!!
حين يتكلم المرء بدون مراعاة لأية ضوايط
يقال له: " اللسان ما فيه عظم". ولعلهم يقصدون بذلك أنه مرن يمكن أن يدور في جميع الاتجاهات.
وكذلك كانت ألسنة بعض خطبائنا قبل 16مي. أما حين يكون عند المرء ما يقوله ويود
الإفصاح عنه ثم يجد نفسه مكرها على الصمت فإنه يقول: "في الفم ماء". ولا
شك أن الماء الذي يبقى في الفم
مانعا صاحبه من الكلام هو ماء
غير صالح للبلع أو النفث. إنه أشبه بالغصة، وهذه حال بعضهم بعد الحدث.
كان لسان الفقيه بنحمزة في الحوار الذي أجرته
معه الصحفية المجتهدة مريم وكريم (في جريدة الأيام.ع.92. 26/07/2003) ينطق بهذه
العبارة : في الفم ماء، في الفم ماء"، من أوله إلى آخره.
وقد ترجم العزوف عن القول بعدة صيغ: منها الرفض
الصريح وادعاء عدم المعرفة بما وقع، وصولا إلى المراوغة السفسطائية…الخ
أ ـ فبخصوص الموقف من القضايا الفقهية الخلافية
وعلى رأسها التعدد والولاية، وهي قضايا فقهية لا علاقة لها بأسرار اللجنة، نجد هذه
العبارات: "لا أريد أن أتحدث في هذه الموضوعات"، "لا أريد أن أدخل
في هذه التفاصيل…"، "لن أرد على هذه الأسئلة…"،
[ ـ وبخصوص العلاقة بالتنظيمات الدينية/السياسية
(العدالة والتنمية بالتحديد) وكيف تدخل الدكتور الخطيب لصالح بنحمزة، لدرجة تفجير
لجنة الوزير الأول وإحداث لجنة ملكية تستوعب "الفقيه بنحمزة" يدعي أنه
"لا يعرف" شيئا عن الموضوع فيقول: "هذا يتعلق بالدكتور الخطيب،
وطبعا أنا أولا لست من المنتمين لحزبه… وإذا كان قد
اقترحني وقدم بذلك ملتمسا للملك هذا الأمر يتعلق به، ولم استشر فيه…!!". صدق أو
لا تصدق.
ج ـ وبخصوص رفض الفقهاء (من عينة السي بنحمزة) مصافحة
النساء المساهمات في اللجنة، قال: "هل تسألين عن المدونة أم عن أمور شخصية،
هذا موضوع يطول شرحه، وليس موضوع حديثنا أساسا، ولا أريد الخوض فيه … أن ندخل مع الناس
في قضاياهم الشخصية، التي لا تتعلق أبد لا بالمدونة ولا بالفكر، أعتقد أن الأمر
يتجاوز هذه القضية…".
د ـ
وبعد الامتناع عن الجواب يأتي ما هو أسوأ من الاستنكاف، وهو السفسطة
والمراوغات، وأكثرها من النوع الفج الذي لا يستسيغة حتى ضعاف العقول. وسأكتفي في
هذه المناسبة بمثال واحد:
الانزلاق من تقييد الزواج "المتعدد" بالعدل إلى تقييد
"المفرد" بالاستطاعة!!! (تسأله الصحفية: هل صار الآن يقبل تقييد التعدد،
على خلاف ما هو معروف عنه من إطلاقه داخل اللجنة، فيجيب بأنه يربط الزواج من واحدة
بالاستطاعة!!). إنه يوهم هنا بأن الاستطاعة هي العدل، وهذه مغالطة سخيفة لا تليق
بفقيه علما أو خلقا لأن الرسول (ص)، حين تحدث عن العدل تحدث عنه بصدد التعدد، فهو
عدل "بين النساء" بصريح النص: " ولن تستطيعوا أن
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". هذا من حيث المحتوى، أما من حيث
الشكل، فإن الآلية السفسطائية التي استُعملت هنا هي الإيهام بأن تقييد الأقل دليل
على تقييد الأكثر، وصيغتُه المضمرة: إذا كنت أنا أقيد الزواج بواحدة (وهي الأسهل)
فكيف ينسب إلى إطلاق التعدد (وهو الأصعب). وهناك مغزى سفسطائي وراء كل هذا، وهو
المحرك لكل هذه الآليات الفجة التي تكشف عورات فقهائنا: إعطاء جواب يحتمل الـتأويل
في اتجاهين؛ فإذا تغيرت الظروف غدا، وصار بالإمكان التكشير عن الأنياب مرة أخرى،
فسيقول الفقيه مرفوع الرأس: أنا لم أتحدث عن التعدد ولا عن العدل، تحدثت عن الأصل
المشترك في الزواج وهو الاستطاعة، واستشهدت بالحديث النبوي الشريف: "من
استطاع منكم الباءة فليتزوج".
أما بعد، فما سبب هذا الاستنكاف المتعدد
الألوان؟
السبب واحد، ووحيد! السبب هو ما ألِفَهُ هؤلاء الخطباء من إطلاق
اللسان بدون حدود أو قيود في تعداد مساوئ "الآخرين": يجرمون المجتمع
والدولة والغرب الكافر؛ الآخر بصفة عامة. المجتمع جاهل والنخبة منحرفة علمانية
اشتراية/شيوعية كافرة؛ تخدم أهداف الصهيونية. والغرب عفن فيه (فقط) اللوطيون
والسحاقيات، إلى آخر الأسطوانة المشروخة. وهؤلاء المنظرون في الغالب ممن غيروا
الاختصاص من الأدب واللسانيات (بل والمنطق أيضا) إما بسبب العجز عن التلاؤم مع
المعارف الحديثة (وقعت أحيانا هجرة جماعية من شعبة اللغة العربية إلى شعبة
الدراسات الإسلامية ـ وسمي ذلك زحفا)، وإما بسبب أعطاب سيكولوجية أسبابُها سياسيةٌ
واجتماعية معروفة حالةً بحالة، فلم يقدموا للبحث الفقهي الإسلامي ما يستحق
الاعتبار. ولذلك فكلما ثُقِفُوا وأُلجئوا إلى الدخول في دائرة الحوار العقلي
البناء انقبضب صدورهم وتلجلجت ألسنتهم، وضاقت بهم خارطة القول، إنهم لاعبون
محترفون خارج دائرة الحوار. وخارج هذه الدائرة لا يوجد غير العنف: العنف الكلامي
ثم العنف المادي مباشرة. وقد مارسوه عندما طرحت قضية المرأة للحوار، وهذا ما حذا
بنا وقتها لتتبع خطابهم في مقالات بعنوان: "الإعنات والمغالطة في مقام الأخذ
والعطاء". وقد نشرت هذه المقلات في حينها في الصحافة، ثم ضمت إلى كتابنا
دائرة الحوار ومزالق العنف.
وبالمناسبة فإن المقالة المدخلية للكتاب المذكور
كانت قد أعدت بطلب من هيئة تحرير جريدة المناهل؛ العدد المخصص للغة والسلطة. غير
أن الأمثلة المعتمدة في المقال كانت من كلام هؤلاء الخطباء المكفرين فأحرجت هيئة
التحرير المذكورة، باعتبار انتماء المجلة إلى جهة حكومية. وطُلِبَ مني وقتَها حذفُ
"الأمثلة المغربية" المتعلقة بالخطاب الأصولي المحرض، فلم أفعل وأقصي
المقال. واليوم نرى وسائل الإعلام الرسمية تتصدى لهذا الخطاب وبأفواه الوزراء
وكتاب الدولة، أي بشكل رسمي، فسبحان مبدل الأحوال! هل كنا في حاجة إلى مأساة لندرك
أن خطاب هؤلاء خطير لا تجوز مجاملته.
وبصدد استشارة الجمعيات
النسائية ذكرت الصحفية أن الجمعيات التي استمع إليه وهي تربو على سبعين جمعية
اتجهت إلى اعتبار الولاية مجرد استشارة بما في ذلك المنتمية إلى العدالة والتنمية
والعدل والإحسان. ومع ذلك ظل هو واللفيف الذي ينتمي إليه من الفقهاء يتمسكون باعتبار الولالية إذنا من ذكر قريب أو من
عامة المسلمين. فماذا كان جواب الفقيه قال بأن المسألة مجرد استشارة لن يؤخذ بها،
لأن المسألة ليست بعدد الجمعيات إذ يمكن أن تخرج جمعية واحدة إلى الشارع بعدد يفوق
كل الجمعيات. لا يمكن أن يفكر المرء بأنه يقصد جمعية من اليسار أو الوسط لأنها كلها
مع الإصلاح، سينصرف الذهن لا محالة إلى والعدل والإحسان والعدالة والتنمية بالنظر
إلى أن المسيرة المرجع في حديث الرجل هي مسيرة الدار البيضاء. ولكن السائلة استثنت
في سؤالها الجهتين المذكورين ولم يعترض على مضمون سؤالها. فماهي هذه الجهة المحافظة
دينيا التي تتفوق على من كل من ذكر في القدرة على التجييش؟ ذلك في علم الفقيه
وحده!