مدخل بلاغي
لتحليل النص الشرعي
"الاجتهاد مع النص"
محمد العمري
أ ـ مقدمات منهاجية: البعد التداولي للنص الشرعي
تنوير: يحمل هذا البحث همين: همَّ الاستكشاف في تخوم البلاغة وامتداداتها في المجالات المعرفية المختلفة استكمالا لتعريفها، كما يحمل هما حواريا هدفُه تحقيق قدر من التوازن مع خطاب نراه سطحيا نكوصيا معاديا للعقلانية؛ يضحي بالحقائق العلمية باسم التخصص.
فنحن نقدم هنا تصورنا ــ الذي نعتبره جديدا، ولكن غير منقطع ــ في حوار مع تصور مخالف له يروج بقوة في المنابر والكراسي العلمية المغربية، ونترك لأولي الألباب من طلبة العلم فرصة الموازنة واستخلاص النتيجة التي تبدو لهم أقرب إلى العقلانية، ولا حديث لنا مع من رَغِبَ عن نعمة الله (العقل) مُنكرًا لها أو مُشوها. وشعارنا الدائم هو: "الكلام مع الكلام، لا مع المتكلم". وبناء عليه نقول:
يحرص الفقهاء/الخطباء (خاصة حين يخوضون في النزاع السياسي، وتشغلهم خلفياتهم الحزبية المضمرة، (أو المعلنة)، على إنكار حق غيرهم من الباحثين، من مفكرين وعلماء اجتماع وفلاسفة وبلاغيين...الخ، في قراءة النص الديني وتأويله ضمن قوانين المنظومات التي يشتغلون في نطاقها. وحُجتهم الأولى في ذلك أنه نص (أو خطاب) إلهي ذو طبيعة خاصة، غير بشرية. وفي حملتهم هذه يصطدمون بالعقل، فيقعون في مأزق بين ادعائهم بأن خطابه من طبيعة أخرى غير طبيعة الوحي، وبين الاعتراف بأنه أصل التكليف. فيحاول الأذكياء منهم التخلص من هذا الحرج بتعويضِ القدح فيه ــ لاستبعاده ــ بتكييف مفهومه وتغيير طبيعته، كما تخلصت الباطنية من النص بالتأويل غير المنضبط.
ويصل بهم الأمر إلى حد القول بأنهم "يكشفون" الأحكام الفقهية ولا ينشئونها. والكشف أقوى من الاكتشاف والاستكشاف؛ يعني مجرد استخراج مادة مخبوءة دون التدخل فيها. وحين يضطرون للحديث عن الاستنباط يعودون به إلى أصل الكلمة في اللغة (استخراج الماء) فيرجعونه بدوره إلى الكشف. ومؤدى هذا الكلام أنه لا يوجد في النص الشرعي غير معنى واحد، وبذلك لا يحتمل غير قراءة واحدة! ومعنى هذا الكلام نفي الاختلاف واستبعاد الاجتهاد! وهذا مأزق آخر يتخبطون فيه بعد مأزق معاداة العقلانية، لأن "الاختلاف: واقع مشهود، و"الاجتهاد" قيمة إيجابية، وسلوك محمود.
ولذلك تراهم وتسمعهم (بالصوت والصورة) مترددين بين غلق الباب وفتحه: تسمعهم يرددون عبارات غريبة من قبيل أنهم يوقعون عن الله، وأن خطابهم من جنس الخطاب الشَرعي![1]، ثم ينكسرون أمام الواقع، ولو ظاهريا، ليعترفون بوجود الاختلاف، والاحتكام إلى الظن. ولكن المتتبع لخطابهم سرعان ما يفهم أن الاختلاف الممكن عندهم هو ذلك الذي وقع في الزمن الماضي بين السلف القريب من زمن الوحي حتى ولو استعان بما وصله من منطق أرسطو. أما "الكائنات العقلانية" الحالية التي لا تتطابق معهم فليس من حقها الخوض في الموضوع أصلا. حق الاختلاف مضمون لمن لم يعد ينازعهم في المكاسب المتوخاة من احتكار المجال كما يتخيلون[2]. وبعبارة أخرى فإن الاختلاف، بالنسبة إليهم، وقع وانتهى عصره. فهم يمارسون شيئا أشبهَ بدعوى سد باب الاجتهاد في عصور الانحطاط. وهذا النوع من الاعتقاد لا يصمد أمام الفحص، بل ينطوي على تناقض، لعدة وجوه، منها:
1ـ القول بأن الخطاب الشرعي، وعلى رأسه القرآن الكريم، خطاب إلهي لا يمكن تناوله بمناهج تحليل الخطاب البشري ادعاءٌ غير وجيه، لأنه يخلط بين الخطاب الأصلي (الموجود في عالم الغيب، المخطوط في اللوح المحفوظ) وبين الخطاب المُبلَّغ للناس حسب طرق تخاطبهم وتصوراتهم وأسئلتهم. فالمناهج العلمية القديمة والحديثة تتناول هذا البعد البشري، ولا تتطاول على ما ليس في متناولها. وسيجد القارئ في الحديث عن "البناء اللغوي" النصوص القرآنية التي تتحدث عن هذه الطبيعة البشرية الإنسانية للخطاب الشرعي.
2 ــ القول بِـ"كتشف" الأحكام من طرف الفقيه يقتضي كما أشرنا سابقا، التقاءَ الأفهام عند حكم واحد يكون ما سواه خطأ، وهذا غير واقع، بل هو منبع تطرف الخوارج وتهافت السلفيين الحَرْفيين. فالتاريخ يؤكد تنوع الأفهام. وهذا يناقض أيضا القول بظنية الأحكام الفقهية، كما سيأتي.
3 ــ وما بني على القول بـ"الاكتشاف" من أن الخطاب الواصف، أي كلام الفقهاء (وهو مفسر وشارح للنصوص المرجعية) هو محاولة لاكتساب العصمة، من مدخل امتلاك مفاتيح الخطاب الأول، وهذا تأله لا مبرر له.
ومن هنا يتبين أن النص التشريعي الذي يعالجه الفقه نصٌّ يدخله التداول بين المؤمنين من أجل تعاقد ينظم الحياة المدنية داخل كيان سياسي يعيشون فيه مع غيرهم، ومع العالَم حيث تتعايش كيانات وتتفاعل قناعات مختلفة. وهو، من هنا، قابل للتحليل والتناول بأدوات تحليل الخطاب "الموجه للبشر" من أي مصدر. فَحِصَّةُ المتلقي من إجاصة النص مضمونة، وإلا ما كان هناك فهم، وما كان هناك خطاب. أما الإيمان، في حد ذاته، فقد يكون إيمان عجائز زمن الرسول كافيا.
ظنية الأحكام الفقهية
وقد ثارت هذه القضية (التي نحاول مقاربتها بألفاظ البلاغة الحديثة) منذ القديم بين الفقهاء تحت عنوان ظنية الأحكام (الآراء) الفقهية. فالرأي الراجح هو أن الأحكام الفقهية، كلَّها أو أكثرها، ظنية بحجة "الاجتهاد" و"الاختلاف" الذي وصل حد اختلاف القواعد والاعتبارات الأصولية (التي بنيت عليها الأحكام) بين المذاهب، فهذا الاختلاف لا ينكره أحد، فيما أعلم، لأنه حاضر معاين، وإنكاره يعني إنكار وجود مذاهب فقهية، وهذا نزوع سلفي متزمت لا يُعتد به[3].
وإذا ما نحن عدنا إلى تعريف الفقه الأكثر تداولا بين الفقهاء فهمنا معنى هذه الظنية ومرجعيتها، ومؤداها: "الفقهُ هو العلم (أو المعرفة)[4] بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية". وذلك بواسطة قواعد مِنهاجية تُسمى علم أصول الفقه.
من المتوقع أن أي فقيه أصولي تقليدي ــ وأكثرهم كذلك ــ سيسمع أن هذا التعريف يجعل النشاط الفقهي التنظيري في "مرمى" التحليل البلاغي ومتناوله سيُصاب بقلق، وسيشرع توا في شحذ أسلحته لطرد هذا الدخيل من حمى تُعتبر البلاغة فيه مجرد خادم مطيع: يُفتَّش عندَ الدخول وعند الخروج توقيا من أن يكون حاملا لسؤاله المحظور (سؤال النسبية)، أبسط ما سيقوله لك الأصولي المحافظ غير المطلع على التداوليات الحديثة، وهي مبحث بلاغي: "ليس هذا بعشك فادرجي".
أما لو نقلتَ تعريف الأصولي نفسه للفقه إلى بلاغي حديث من حضارة أخرى، ضليع في نظرية الحجاج في بُعديها اللساني والمنطقي، فإنه سيقول لك: إذا كانت هذه الأحكام الفقهية "عملية" و"ظنية": أي ليست اعتقادية قطعية ولا برهانية بديهية، ولا مجرد هذيان، فإنها ستكون لا محالة بلاغية. سيقول لك هذا حتى وإن لم تترجم له كلمة عملية بكلمة pragmatique/pragmatic، أي تداولية؛ التي تعني عندنا ما تعنيه كلمة "عملية"، وحتى لو لم تترجم له كلمة ظنية بمقابلها المشتق من كلمة vraisemblance، أي الاحتمال، أو الاحتمالية، أو مشاكلة الواقع. أما إذا استعملت المقابلين المذكورين فلن يكون عنده حينئذ مبرر للتردد.
الخطاب الفقهي خطاب "عملي" يتعلق بشؤون الحياة التي تتفاعل فيها الذوات، وهذا مصدر احتماليته؛ مهما كان من قطعية مستنداته النصية أو ظنيتها، فمهما يكن من واقعية القضايا والأفكار فإنها حين تُعرضُ على أفهام الناس، وتطلب مصادقتهم، تصبح احتمالية ظنية[5]. ومهما تحرى المُفتي فإن ورعه يفرض عليه ــ إن كان ورعا حقا ــ أن يقول: "هذا ما غلب على ظني" أنه مراد الشرع من هذا النص، أو من مجمل النصوص كما سيرد. أما قضية "التوقيع عن الله" فالأجمل بالفقيه أن يعيش رهبتَها ولا يتفوه بها، فمن عاشها حقا وصدقا صام عن الكلام.
هناك أدلة قوية في أصل القول بهذه الهوية الخَطابية، في مقدمتها:
1 ــ الحجة التاريخية المتمثلة في تعدد القراءات. وهذا تاريخ طويل يبدأ من الاختلاف في فهم آيات من القرآن في نفس البيئة التي انبجست منها الدعوة المحمدية، ويصل قوةَ نضجه في التفاعل مع البيئات الجديدة: من العراق إلى الشام وفارس إلى مصر وشمال إفريقيا والأندلس.
2ـ ظهور مذاهب فقهية ذات أصول استنباطية مختلفة، وتطبيقات متنوعة حسب البيئات. هذا دون الحديث عن الفرق والطوائف التي وصلت حد التنابذ والتكفير.
ب ــ خطوات تحليل النص التشريعي
ب ـ1 ــ تمهيد: النص والاجتهاد
هناك مفهومان للنص في المجال الذي يهمنا، وهما:
1ــ المفهوم العام، بل العامي، الذي تُقصد به آيةٌ، أو آياتٌ من القرآن، أو حديثٌ صحيح من أقوال الرسول ص. وفي هذا المفهوم يكون التركيب اللغوي مقطوعا عن سياقات تشريعية وبلاغية كثيرة ضرورية لتوجيه معناه الوجهةَ الصحيحة، أو المُثلَى.
هذا هو المعنى الذي يستعمله الدينسيون[6] لفرض ما يخدم أهدافهم السياسية، ويقمع غير العارفين من مخالفيهم. وهو المفهوم الذي يتحذلق به الخطباء الدينيون من أعلى المنابر، ويتراشق به أشباه الأميين من السياسيين، وينقله عنهم المعلقون التائهون على الشابكة (النيت) بدون فهم. ونظرا لأن هذا المفهوم استعمل على مدار التاريخ لتبرير المواقف بعيدا عن المقاصد العليا السامية للدين فقد وفر المتراشقون بالنصوص ــ في إطار الفتنة الكبرى ــ عتادا مسعفا في كل معركة مهما كان اتجاهها عن طريق وضع الأحاديث واختلاق الأخبار والحكايات. والنتيجة مزيد من سوء التفاهم والفرقة.
2 ــ المفهوم الخاص، أو الخاصي، وهو التركيبُ اللغويُّ (أو الملفوظ) المُحصَّنُ بسياقات مختلفة ترجحُ مساره في اتجاه يصبح فيه حجة، والبلاغيون ومناطقة القيم يعلمون معنى الحجة (argument). وهذا هو المقصود بالنص في السياق الأصولي بقطع النظر عن تشقيقاته. غير أنه كثيراً ما يقع التضارب بين السياقات فيختلف المؤولون في اتجاه النص حسب أحوالهم وبيئاتهم، فتتواجه الحجج، ويتسع مجال الاختيار في إطار المقاصد العليا التي يحددها السياق الأكبر للدعوة الإسلامية، كما سيأتي.
وربما لهذا السبب قال الرسول ص، لوابصة في الحديث المشهور: "استفتِ قبلَك ... وإن أفتاكَ الناسُ وأفْتوْك". فهناك حالات لا يكفي فيها الإفتاء، بل لا بد من تحمل الشخصِ نفسِه المسؤوليةَ في ترجيح الفتوى التي تلائمُه من بين الفتاوى المؤسَّسة المُعتبرة، وعلى رأسها فتاوى العلماء الكبار المجتهدين الذين حملوا لقب فقهاء بحق. وما يصدق على الفرد ــ في شأن الترجيح ـــ يصدق على الجماعة (الدولة) التي تُعتبرُ كيانا متضامنا يُلزم ما يختاره كلَّ أفراده إلى حين التوافق على اجتهاد آخر.
والنص بهذا المفهوم الخاصي الاصطلاحي الحُجي هو موضوع الإشكال؛ لأن تَرقِّيه في سُلم الحجية يمر عبْر درجات: يكتسب فيها مراتب وصفاتٍ تتفاوتُ في القوة والضعف والقطع والاحتمال. وأذكِّــرُ أصحاب النوايا الحسنة الذين ترهبهم كلمة "القطعي" في التشريع أن اقتراح الاحتكام إلى "النصوص القطعية الثبوت والدلالة" عند تعديل الدستور المصري (سنة 2013) أدى إلى اضطراب في صفوف السلفيين وإدانة بعضهم بعضا، بل إلى تخوينه. وعندما سئل نائب رئيس الحزب، ياسر برهامي، عن سِرِّ هذا الاضطراب قال: إن ما هو قطعي الدلالة من النصوص الشرعية قليلٌ جدا، بل أقل من القليل[7].
والاجتهاد يتم في مستويين: السياق الخِطابي والبناء اللغوي. وفي هذين المستويين تندرج علوم: منها أصول الفقه، وضمنه ما صار يُعرف بعلم المقاصد، والبلاغة بكل متطلباتها المنطقية، خاصة جناحَها التداولي، وكل ذلك داخل في اعتبارنا، دون إثقال على القارئ بالقواعد والأدبيات. فمخاطبنا في هذه المناسبة هو من يمتلك هذه الأرضية، أو من هو مستعد ومتحمس للاطلاع عليها في مظانها، فلو انشغلنا بتقرير تلك المعارف الأولية وتوثيقها لضاع الهدف من هذا العمل النسقي النقدي.
ب ـ 2 ــ السياق الخِطابي والبناء اللغوي
يلجأ الفقهاء الخطباء الراغبون في احتكار قراءة النص الشرعي وتأويله إلى القدح في المناهج القرائية الحديثة ناسبين هذه القراءات، عن غير علم بها، إلى الذاتية والأهواء. فالقراءة لا تخرج في تصورهم عن منحيين: إما أن تكون اجترارا لما أنجزه القدماء في ظروفهم المعرفية الخاصة؛ تعيده بقدر ما تستطيع منظوما ومنثورا، وإما أن تكون من إنتاج أهواء "ذوات" مغرضة! فتسمع أحدهم يقول متهكما ساخرا كلام المؤولين: يقولون: "لي قراءتي ولك قراءتك!!". ويُشبِّه المناهج القرائية الحديثة بالباطنية التي استبدلت إنكار النص بالعبث به مدعية ما تريده من دلالات بدون ضابط.
وهذا تبسيط مخل لمبحث معقد! هذا تصور غير موضوعي، فالواقع هو أن بين اجترار ما أنتجه القدماء (في سياقاتهم الخاصة، وضمن إمكانيات معرفية أقل بكثير مما هو متاح اليوم)، وبين الأهواء والتأويلات غير المؤسسة، موقعاً ثالثا ذا طبقاتٍ ومعارجَ، هو القراءة النقدية التي تقتضي من محلل الخطاب الشرعي، لأي غاية كانت، أن يستوعب ثلاثة عناصر تفنى فيها الأعمار:
ــ المعرفة بثقافة عصره وعلومه حسب اختصاصه، ومتطلبات موضوعه، ولا نجد في كتابة هؤلاء، ولا في محاضراتهم المسجلة، ما يُفيد اطلاعهم على منهج واحد من المناهج التي ينتقدونها في أصوله، بل ولا في وسائطه.
ـــ استيعاب أسئلة عصره وحاجياته التي تختلف جذريا عن أسئلة العصور الوسطى وحاجياتها، ومن حاجيات العصر فهم الخصوم والتفاعل معهم، لا منابذتهم ومنابزتهم. وهذه قضية سنعود إليها في سياق آخر.
ـــ وثالثة الأثافي تمحيص جهود القدماء، وقراءتها قراءة تستوعب أسئلتها وأجوبتها، مشاريعَها ومنجزاتِها، منطقها الداخلي والإمكانيات التي أتيحت لها، والصعوبات التي اعترضتها. ومن الأكيد أن قراءة أعمال القدماء تستوعب قراءة الأدوات التي شغلوها، من لغة ومنطق، قراءة تاريخية فاحصة، وليس مجرد ترديدها كما صاغوها هم، فأحرى كما نظَمها خَلْفٌ أضاعوا حرقة السؤال ومحنة الجواب.
الحديث عن "التأويلية" يقتضي، أولَ ما يقتضيه، وضع خارطة للنصوص تتدرج بها من أدنى درجات التخييل التي يتقاطع فيها الخطاب البلاغي "الاحتمالي المؤثر" مع الأسطورة والجنون، إلى أعلى درجات الخطاب الحجاجي حيث تتداخل الحجة بالبرهان، وينازع الإقناع والتيقين، ويهيمن المقام الكوني على المقام الخاص. وبين العلامة المفتوحة والوثيقة المغلقة توجد أيضا التحفة.
سيكون من العبث إيراد خطاب واصف يعالج نصوصا تخييلية سردية وشعرية متحدثا عن "سلطة النص" و"موت المؤلف" والرد عليه بوثيقة تشريعية، أو توثيقية (العقود)، هذه مغالطة موصوفة، اسمها: التعميم، وهو شكل من أشكال الانزلاق. القرآن الكريم نص مركب: فيه مستويات تخييلية ومستويات حجاجية تعليمية وإقناعية، وفيه نصوص تشريعية وتوثيقية. وقياس متنه كاملا بمقياس بلاغي موضوع لجنس خطابي معين (الشعر الرمزي مثلا، أو الحكي الغرائبي) إجراء بعيد عن الموضوعية، ولن ينتج غير الخبط والخلط.
المطلوب ممن يتصدى لتحليل الخطاب الديني، وتنزيله على العصر الذي يعيش فيه، أن يبذْل مثل هذا الجهد، الذي بذله ابن رشد وابن خلدون في الاتجاهات الثلاث المذكورة. أما اصطناع ضدية وهمية بين النور والظلمة من أجل القدح في كل المفاهيم القرائية الحديثة فسلوك يحتاج إلى تحليل ووصف لا نخوض فيه: يقدحون في "القراءة" و"الهيرمينوطيقا" و"التلقي" و"سلطة النص"، وما شاكل ذلك من مصطلحات سمعوا بها ضمن خطاب خصومهم. وكان حريا بهم أن يبذلوا جهدا في فهمها ونقدها من الداخل، مع الاستعانة بالنقد الذي وجه إليها من الخارج؛ فقوَّمَ أوَدَها وكبح غُلوها. فالمناهج اجتهادات وضعت لتنظيم البحث وتقدمه.
ومن المفارقات الدالة في هذا المجال أن بعضَ هؤلاء الذين يقدحون في الأدوات المنهاجية الحديثة، باعتبارها دخيلة ــ في نظرهم ــ وغير مناسبة منهاجيا، لا يكفون عن ترديد دروس مكرورة من المنطق الأرسطي، ومن توظيفاته المنحرفة في علم الكلام، وتراهم حين يعرضون هذه المعارف المتقادمة المتكلسة يشمخون بأنوفهم وكأنهم جاءوا بما لم يأت به سابق ولا لاحق، وعذرهم، إن كان لهم عذر، هو أنهم يجهلون أن المعرفة الحديثة التي يقدحون فيها مبنية على ذلك التراث الإنساني وممتدة فيه، خاصة التراث الأرسطي الذي هضَمَ ما قبله[8]، وطعَّم ما بعده.
ولو أتوا البيوت من أبوابها وأعدوا للبحث العلمي عدته، كما فعل القدماء، لأوْلوا مَعارف عصرهم (البلاغية والفلسفية...الخ) من العناية ــ في مظانها ــ ما يساعدهم على فهم حدود اجتهادات القدماء، وهي كبيرة وعظيمة، ولكنها مشروط بشروطها التاريخية والموضوعية، كما سبقت الإشارة. وأن الأحسن من ترديدها على علاتها إعادة صياغتها برؤية جديدة للجواب عن أسئلة جديدة. وأقل ما سيستفيدونه هو أخذ أمثلة من الواقع الراهن، وحل مشاكل عصرهم. وبذلك سيخرجون من الأمثلة المضحكة المبكية التي لا يجدون لها بديلا: أمثلة القرون الوسطى ذات الحمولة الحقوقية التي لا تتلاءم مع العصر الحديث، فمن أمثلة الشيخ بنحمزة المضحكة: حالة من وطئ امرأة خطأ: هل هو مذنب أم لا[9]. فالأجدر بالفقيه اليوم نشر ثقافة دينية تحقق استحالةَ أن يطأ رجل امرأة، (أو تطأءَه) خطأ. أنا لم أفهم معنى أن يطأ الرجل امرأة خطأ!! إلا أن يكون المقصود أن يطأها بقدمه وهو مار في الظلام...؟ لا يمكن تصور الوطء خطأ إلا داخل نسق مجتمعي يمنع على المرأة أن تسأل عمن يقتحم جسدها! فهل هذا هو المجتمع الذي يفكر فيه الشيخ[10]؟
المدخل المناسب:
تخضع قراءة كل نص ديني لمستويين من التحليل متداخلين متفاعلين: مستوى السياق الخطابي الحاكم، ومستوى البناء اللغوي البلاغي. ولكل من المستويين أسبقيةٌ من زاوية: فالتحليل اللغوي سابق عند قراءة نص بعينه، حيث يُستجلب السياق الخِطابي كبعد تفسيري، على نحوٍ شبيهٍ بتصوُّر البنيوية التكوينية: من النص إلى رؤية العالم[11]. والتأطير السياقي (رؤية العالم) سابقٌ في عملية تنظير الحوادث والظواهر و"الدعوات" وتأريخها، مثل الدعوة الإسلامية: الدعوة إلى الحرية (التوحيد) والعدل و التضامن (الإحسان). ونحن إذ لا نحلل، في هذه المناسبة، نصا دينيا بعينه إلا عرضا، وإنما نفحص مدى إجرائية نصٍّ واصف ينتمي إلى المنهاجية ــ وهو قولهم: "لا اجتهاد مع النص" ــ فمن المجدي أن نبدأ بالإطار العام الذي يشكله سياق الخطاب القرآني في علاقة نصوصه بعضها ببعض. والغرض من ذلك هو رسم خطة، وبناء نسَق، يحاوره العارف، ويسترشد به المتعرِّف. خاصة وقد كثر الخبط في تناول البعد الحجاجي في القرآن الكريم هذه الأيام.
2 ـ 2 ــ السياق الخِطابي للنص التشريعي
لكل نص ديني تشريعي سياقان: سياق أكبر، حضاري، وسياق أصغر، تدبيري، أو تنزيلي.
2ـ2ـ1ـ ــ السياق الأكبر
نقصد بالسياق الأكبر للنص المسارَ العام الذي تتكامل النصوص مجتمعة في رسمه للخروج من بنية قائمة إلى فضاء جديد كلا أو بعضا. والسياق العام شبيه بالمجرى الذي ينحته النهر في مساره الطبيعي نحو المصب: هناك راسيات تحكم مسار النهر لا تؤثر فيها تقلبات المناخ وهبوب الرياح وانصباب الجداول والروافد حيث يبقى المصب واحدا. وهذه الراسيات التي تضبط مسار النهر ملخصة عندي في ثلاث غايات، هي في نفس الوقت مقاصد المقاصد، وحكم الحكم، وعلل العلل، أو المقاصد العليا للدعوة الإسلامية التي تستوعب كل التفاصيل التي يجترها الشيوخ بدون روح[12]:
2ـ1ـ تحرير الإنسان من كل عبودية لغير ِإِلَــهٍ واحد مُستغنٍ عن الوسيط، مُنزه عن الشبيه والمثيل. وكل محاولة للتشبه به، والتوسط بينه وبين خلقه، خُروج من الباب وعودة من النافذة إلى التصنيم والأسطرة (من ألفاظها: المرشد والشيخ والإمام والمَرْجِع، والمجذوب والولي...الخ، فهذه كلها وسائط غير شفافة؛ تحجب رؤية الله مباشرة). وقد كان تكسير أصنام قريش من أولويات الدعوة الجديدة، كما تحدث القرآن عن تردد الإنسان، قبل التوحيد، بين ظواهر الكون، ومنها الشمس والقمر، وانتهى إلى رفض الشرك[13]. ولأن الإسلام جعل التوحيد مدخلا لتحرير الإنسان، فقد جعله أيضا مدخلا للدين، فاعتبر الشِّركَ الخطأَ الوحيدَ الذي لا يُغتفر: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" (النساء 48).
2 ــ2 ــ تحقيق العدل بين الناس بجعل الجزاء مكافئا للعمل والإبداع، بقطع النظر عن الجنس واللون أو أي حيثية سابقة على العمل. والعدل هو الذي يُتيح تكافؤ الفرص فيجفف منابيع الأصوليات الطفيلية.
2ـ3ــ التكافل (والتراحم والإحسان) بين الناس في السراء والضراء، وفي مقدمة ذلك رعاية ذوي الحاجات إلزاما إلى حد الاستغناء، وتطوعا وكرما بدون حدود. وهذا منطق الزكاة والصدقة...الخ.
والمقصدان الثاني والثالث مقترنان في أمر إلهي: "إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...[14]". (النحل 90).
تعليق: هذه المقاصد العليا متعارفة، فاكتساب الحرية من العبودية لإله واحد لا يزاحم على مصالح ولا ينتقم لحزازات لا يجعل هذه الحرية سائبة، بل هي مقيدة بالعدل، والعدل لا يعني صراع الأقوياء، بل هو مقيد برحمة الضعيف. وهذه الرحمة ليست اختيارية إلا فيما يفوق تحقيق الكرامة الإنسانية: في الرفاهية[15].
تنوير: يمكن للقارئ أن يجد في حديثي عن التوحيد والعدل انتسابا إلى الفكر الاعتزالي[16]، ويمكن أن يجد في إضافة الإحسان نسبا صوفيا: يقول الشيخ أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي للملك إسماعيل: "الناس كلهم عبيد له"، أي لله، "وسيدي واحد من العبيد"، كل ما في الأمر أنك "ابتليتَ" بحكم عباد الله لتقوم "عليهم بالعدل والرحمة"[17]. إن تذكير ملك جبار (سعى لتملُّك فئة من المغاربة بعقد شرعي)، بأنه عبد من عبيد الله، هو أحسنُ دليل على قيمة "وحدانية" الألوهية في بيئة دينية، فبدون هذه الوحدانية يستحيل تحقيقُ "العدل" و"الرحمة". وقد برعَ اليوسي في جمع هذه القيم جمعا وظيفيا (العبودية لله وحده تحقق العدل والرحمة)، ولذلك أحببتُه وصاحبته في الشدائد، أسيرُ معه إلى باب "الزاوية" ثم أتركه وأتابع سيري. حاول الشيخ ياسين، مرشد العدل والإحسان، أن يستنسخَ صورةَ أبي على (في وَصفته وشخصه)، ولكن هيهات، لا يُستحمُّ من النهر مرتين. كما حاول الحسنُ الثاني استنساخَ صورة الملك إسماعيل فجر المغرب نحو القرن السابع عشر بدل القرن الواحد والعشرين. انتهى.
وفي الطريق نحو تحقيق تلك المقاصد العليا سد الإسلامُ أبواباً (المحرمات) وفتح أبوابا (الواجبات) وهجن وحبب دون تحريم أو فرض، وضيق المداخل ووسع المخارج في بعض الأحوال، (كما هو الحال بالنسبة للرقيق والإماء)، وترك للناس باب استباق الخيرات مفتوحا حسب تغير الأزمنة والأمكنة والقيم الإنسانية. ونظرا لأن زمن النسخ قد انتهى مع موت الرسول ص فقد فهم الصحابةُ الأوائل، رضوان الله عليهم، أنه كلما صار ظاهر النص متعارضا مع المقاصد العليا للدين الإسلامي لزم توجيهُ النص نحو تلك المقاصد تحقيقا للمناط ومراعاة للمآلات كما يقول الأصوليون. ففي هذا الأفق العام جاءت اجتهاداتٌ مشهورة للخليفة عمر بن الخطاب صاحبا وخليفة، من أشهرها:
1 ــ أوقفَ عمر بن الخطاب قطع يد السارق في ظرف خاص. والنص صريح: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. [المائدة:38]. واجتهاد عمر هنا متعلق بمفهوم السارق: هل المضطر سارق؟
2 ــ وأوقف سهم المؤلفة قلوبهم، والنص صريح لا يُقيدُه نصُّ آخر، وهو قوله تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ..." [التوبة 60]. وعلل هذا الإجراء الأميري بانتفاء السبب الذي كانوا يأخذون به من مال المسلمين[18].
وفي ظل هذه المقاصد والغايات العليا مُنع "تشريع الرِّق" في جميع البلاد الإسلامية بعد قرون، ثم عقود، من التردد والممانعة: منع في المغرب سن 1920، وفي السعودية 1960، وفي موريطانيا 1981. ولم نعد نسمع حتى أعتى المتطرفين من الأصوليين يطالبون بتفعيل الإباحة، أو تفعيل نص ما ملكت الإيمان رغم صراحته، وعدم وجود سياقات صغرى تغير مسار دلالته. منع التشريع وبقيت الممارسة بأقنعة مختلفة هي التي نتقرب إلى الله الآن بفضح بعض تجلياتها. وهي تتعلق بفئات مستضعفة في بيئة بدوية أو شبيهة بالبدوية، على رأسها المرأة والأطفال والعمال...الخ.
ولا يستبعد أن توجد هناك جماعات مغلقة تمارس أنواعا من الرق التقليدي بشكل مقنع، فهذا ممكن مع الفقر وانحراف الطباع، وهو موجود في أكثر بلاد العالم. ولكن المثير للتساؤل والريبة هو تمسك بعض البيئات الإسلامية بفقه الرق وثورتهم حين لجأ بعض ضحايا العبودية في موريتانية إلى حرقٍ رمزي لكتب الفقه المالكي التي تتضمن أحكام الرق منذ سنوات قليلة. أنا لست مع إحراق وثائق تاريخية مهما كانت بشاعة محتواها، ولكن ليس هذا ما حرك من تحرك ضد الإحراق.
ولم يعد حَدُّ قطع يد السارق يُمارس إلا في بيئات خاصة تُعتبر شذوذا بعد أن وفَّرتِ البشريةُ البدائلَ الوقائية والزجرية والإصلاحية غير الدموية. وفي المسار نفسه ستحرم ــ عاجلا أم آجلا ــ عقوبةُ الإعدام التي صارت حقا للمجتمع، وليس لأهل القتيل حيث كان يكفي أن يتنازل واحد من ذوي الحقوق ليسقط الحد. وقضية حق المجتمع من الأمور التي لا يستوعبها الفقه البدوي القبلي.
2ـ 2ـ2 ــ السياق الأصغر
يتمثل السياق الأصغر في علاقة النص المستشهَد به (أو موضوع التحليل والنظر) بالنصوص التي تعالج القضيةَ موضوعَ الشاهدِ، أو تتصل بها بوجه مُؤثِّـر في الحكم المتوخَّى استخلاصه. والتأثير يكون عن طريق النسخ والتخصيص والتقييد والتعميم...الخ. هذا الاعتبار منهاجي معروف في صياغة القوانين والدساتير والمعاهدات والمواثيق، ولكنه يزيــد أهميةً ومشروعيةً بالنسبة لمدونة النصوص الدينية التي صدرت مُنجَّمَة، على مدى سنوات، تبعا لمتطلبات الحياة ومستجداتها: أسباب النزول[19].
فالنصوص التي تتناول موضوعا واحدا دالةٌ بتجاورها أو بتعاقبها أو هما معا على أن المشرِّع (الله هنا) قد فتحَ بابَ الاجتهاد للمخاطبين لمسايرة تطورهم الطبيعي الذي فطرهم عليه، والتعود على الأخذ بالأسباب والعلل. أما في العمل البشري فكثيرا ما يُلجأ، في الدساتير والمعاهدات، إلى إدراج نصوص متعارضة عمدا للخروج من مأزق (توافق مستحيل)[20]. وهذا إجراء حواري بشري مهم؛ أفضل من الجمود المؤدي إلى التصادم. ونقدم هنا نموذجا للنصوص المتجاورة، وآخر للنصوص المتعاقبة، متوسعين في الأول استجابة للظرفية الحالية. والمهم عندنا وضع آلية علمية بلاغية للتحليل قابلة للاختبار.
1ـ النصوص المتجاورة: الاجتهاد في تقسيم الإرث نموذجا
عندما طالب الحقوقيون، وساندهم بعضُ السياسيين، بتفعيل مقتضيات الدستور المغربي فيما يخص المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، خاصة ما يهم قضيةَ اغتصاب الأطفال (وراء قناع "عقد النكاح")، وتعدد الزوجات، واقتسام الإرث، ثارت ثائرة الخطباء الدينسيين رافضين مبدأَ التغيير والحقَّ في النقاش معا. وقد ركزوا على قضية الإرث باعتبارها خاضعةً ـــ في نظرهم ــ لنصوص "صريحة قطعية" نهائية؛ لا مجال للاجتهاد فيها، أو نقل حجر من أحجارها من مكان إلى آخر. بل وصل عنفُ الخِطاب في هذا المجال إلى حد القول بأن من يُناقشُ قضيةَ الإرث لا يَــرُدُّ على الفقهاء وعلماء الدين وإنما يرد على الله، وبذلك يخرج من الملة! هذا ما قاله الشيخ مصطفى بنحمزة في محاضرة استنجدَ بها المُعترضون، فأعادوا نشرها مقروءة ومسموعة، وبنوا على ما جاء فيها خطابهم العنيف.
وهذا نص كلام الشيخ بنحمزة حتى لا نُتَّهَم بالتقول عليه، أو التعسف في تحميل كلامه ما لا يحتمل:
"الإرث ليس موكولا إلى شخص، بمعنى هذه القسمة قسمة إلهية، فالذي يَـرُدُّها لا يرُد لا على إمام ولا على فقيه... الذي يتوجهون إليه بالنقد هو القرآن الكريم، وحكم الله... قضايا الإرث هذه قضايا نص، من قبيل النص... والنص هنا واضحُ الدلالة، لا يأتيه التأويل... جميع الأعداد في القرآن نصوص، أي لا يدخلها التأويل، ولا الاحتمال من جهة من الجهات، إذن فهذه نصوص. ثُـم [إن] القرآن شدد [فقال]: "تلك حدود الله فلا تعتدوها"، فسمى الله هذه القسمة حدودَ الله... قضايا الإرث من المعلوم من الدين بالضرورة... ومن أنكره فقد طعن في دينه، فدينه مطعون فيه، لأنه رد شيئا من القرآن وأباه...رفض حكم واحد من أحكام الشريعة... هذا خروج عن هذه الملة"[21].
هذا الكلام يُغلقُ النص بالضَّبَّةِ والمِزْلاجِ، ومع انغلاق النص ينغلق ذهنُ متلقيه، وتَسْوَدُّ الدنيا في وجهه فلا يرى أكثرَ مما رآه أبو النعيم في من وقف أمامه داعيا لفتحه[22]. وليس هناك من حجة أنسب لرد هذه الدعوى من عرضِ سلوك صحابة رسول الله رضوانُ الله عليهم: سلوكهم العلمي العقلاني في معالجة قضايا الميراث، وسلوكهم الأخلاقي في ممارسة الحوار وقبول الاختلاف والتعايش معه.
اختلاف الصحابة والتابعين في قضايا الإرث
نحن لا نعتقد أن بعض هؤلاء "الشيوخ" يجهلون أن قضية الإرث كانت من أكثر القضايا إثارة للنقاش والتشريع بعد موت الرسول (ص)، أي بعد توقف الوحي. وهو نقاش في الجوهر والأعراض، لأنه أعطى وحَــرَمَ، كلا أو جزءا، وقدم وأخر، كما سيأتي[23].
من المعلوم أن أحكام الإرث مُركزةٌ في آيات قليلة من القرآن الكريم غاية في الإيجاز: حَددتْ بعض المبادئ والخطوط العامة، وعالجت بعض الحالات، وتركت ما سوى ذلك لاجتهاد المخاطبين. ولذلك توزعت الآراء بحسب اعتبارات عدة؛ على رأسها اعتبار قوله تعالى: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" [النساء 11]، وقوله تعالى: "وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" [النساء: 176] قاعدةً عامة تنضبط لها النصوص الجزئية التي تخالفها، وبين اعتبارها خاصة بمن توجهت إليهم بجانب من لفظها (الأولاد والإخوة)، وأخْذُ ما سواها على ظاهر لفظه. الرأي الأول مرجَّحٌ عند مجموعة من الصحابة، والثاني مرجح عند مجموعة أخرى، وهم جميعا من الصف الأول، كما سيأتي.
وعموما فقد كانت هناك أسباب عديدة وراء الحاجة إلى فتح باب الاجتهاد في الموضوع، منها:
1) التباس العلاقة بين نَصٍّ اعتُبر عند بعض الصحابة والتابعين قاعدة عامة ونصوصٍ خاصة بحالات معينة، رأى غيرهم ضرورة استقلالِها بالحكم الظاهر من لفظها، كما تقدم.
2) عدم صدور تشريع في بعض الحالات (كميراث الجد للأب مع الإخوة مثلا، وميراث الجدة أيضا)،
3) ظهور حالات جديدة معقدة تقتضي الاجتهاد في الملاءمة بين النصوص.
وهذه نماذج وعينات ممثلة تُغني عن غيرها:
النموذج الأول: التباس العلاقة بين النص المعتبر عامًّا والنصوص الخاصة، كما في قوله تعالى: ـ "... فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ". [النساء 11]. مقروءا في ضوء قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين".
فالمعنى المأخوذ من ظاهر اللفظ مفصولاً عن غيره يقتضي ألاَّ يكون مع الأبوين أي وارث. وفي هذه الحالة ليس هناك أي إشكال: تأخذ الأم الثلث فرضا ويأخذ الأب الثلثين تعصيباً، فيتحقق المبدأ العام: "للذكر مثل حظ الأنثيين".
القراءة الثانية تقتضي استحضار الحالات الممكنة والنصوص المجاورة، ومن احتمالاتها أن يكون مع الأبوين زوجٌ أو زوجةٌ. ففي حالة الزوج فهو يأخذ النصف تطبيقا لقوله تعالى: "وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ". [النساء ]. وتأخذ الأم الثلث تطبيقا للنص أعلاه، فتكون القسمة على الشكل التالي:
1ــ للزوج النصف (6/3)، وللأم الثلث (6/2)، والباقي، أي السدس (6/1)، يأخذه الأب تعصيبا.
هنا أخذت الأم ضعف حصة الأب خلافا للقاعدة العامة: "للذكر مثل حظ الأنثيين". ولإعادة هذا الفرع إلى الأصل اجتهد الصحابي زيد بن ثابت، ولقي اجتهاده القبول. اقترح التعاملَ مع حصة الأبوين بمعزل عن حصة الزوج: أي تؤخذ حصة الزوج أولا، ثم تمارسُ القاعدة العامة فيما تبقى: الثلث للأم والثلثان للأب. ولتسويغ ذلك تأوَّلَ النصَّ مُفترضا أن المقصود هو "ثلثُ الباقي"، ولذلك يُقال أن ابن عباس راجعه في ذلك، سائلا عن المكان، من القرآن، الذي وجد فيه "ثلث الباقي"، فرد عليه بقوله: "إنما أنت رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي".
ويقاس على ذلك اجتماع الزوجة بالأبوين: تأخذ الزوجة الربع المفروض لها بالنص، ويقسم الباقي بين الأبوين بحسب القاعدة العامة.
[الزوجة4/1] + [الأم ثلث الباقي، أي 4/1] + [الأب ثلثا الباقي 4/2] = 4/4
وللفخر الرازي، في مفاتيح الغيب، تخريج جميل لفتوى زيد بن ثابت حيث اعتبر الزوجين شريكين بعقد الزواج، فمتى حُررتِ التركةُ من حقوق الغير عاد إليهما الباقي ليقتسماه بحسب القاعدة العامة.
المهمُّ عندنا هو أن النص لم يعُــقِ الاجتهادَ، والمهم عندنا أيضا هو أن رجلين فهما في ذلك العصر أنهما يقولان برأييهما دون أن يحسا بأي ذنب. وقال القرطبي معلقا على اجتهاد زيد بن ثابت، وأخذ الجمهور به: "وهذا صحيح في النظر والقياس" (تفسير القرطبي)، يقصد تقديم النظر على النص.
النموذج الثاني: أما أشهرُ قضية تضاربت فيها الآراء بين فقهاء الصحابة والتابعين، والفَرضيين أجمعين، فهي قضية ميراث الجد للأب (أي من جهة الأب) مع الإخوة، فقد انقسم بصددها الصحابة، بعد موت الرسول ص، إلى طائفتين كبيرتين، وامتد اختلافهما في التابعين وفي كل المذاهب الفقهية والفرق الدينية:
الطائفة الأولى تضع الجَد في مكان الأب، وتحجبُ به الإخوةَ حَجْبَ حِرمانٍ. وهي تضم الخليفة الأول، أبا بكر، والسيدة عائشة وابن عباس وعمار بن ياسر، وعليها سار أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وتبناها ابن تيمية وابن القيم. ومن حججهم على ذلك نقلاً: ما ورد في القرآن من تسمية الأجداد آباء: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ" (يوسف 38). ومنها عقلاً: قياسُ الجد على ابن الابن: فالمسافة الفاصلة بين الهالك وبين كل من الحفيد والجد متماثلة: الهالك ابن الأول وأب الثاني. هذا مع الإشارة إلى أن البنوة أقوى في هذا المجال من الأبوة.
والطائفة الثانية تقول بمشاركة الجد للإخوة. وتضم الخليفة عمر بن الخطاب والخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، كما تضم ابن مسعود وزيد بن ثابت. وعليها اعتمد مالك والشافعي، وبعض أبرز أصحاب أبي حنيفة. وحجتهم من المنقول قوله تعالى: "لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً" [النساء 7]. ومن المعقول: قياسُ المسافة والرابط بين الهالك وجده بالمسافة والرابط بينه وبين الإخوة، وهي الخط الممتد بين الجد والإخوة عبر الأب. فَـ"الأخ يدلي ببنوة أبِ الميت والجد بأبوته"، حسب تعبير القدماء. فكأن الأخ يقول: أنا ابن أبِ الميت، والجد يقول: وأنا أبو أبيه. فهما معا يَعبُران نحو الهالك من قنطرة الأب، غير أن البنوة أقوى من الأبوة كما سبق. وهذه حجة تقابل حجة الطائفة الأولى التي قاست الجد على ابن الابن الذي يحل محل أبيه.
هكذا كان الحوار: "نص بنص، وقياس بقياس". (نُحيل من أراد التوسع في هذه الإشكالية، واستقصاء حجج الطرفين، على مقال حجاجي موثق ليونس الطلول، ومراجعة عبد الوهاب الشرعبي، بعنوان: ميراث الجد والإخوة. موجود على الشابكة. وفي كتب التفسير الكثير من الاجتهادات الطريفة).
النموذج الثالث: ومن الحالات المعقدة التي اختلف فيها الصحابة، رضوان الله عليهم، اختلافاً كبيراً الحالة المكونة من: أم وأخت وجد. ولها أسماء كثيرة، من بينها "المخترقة" إشارة إلى اختراق الآراء لها:
1 ــ فأبو بكر وابن عباس أنزلا الجد منزلة الأب، فحجبا به الأختَ انسجاما مع موقفهما السابق، وأعطيا الثلث للأم تطبيقا لظاهر النص القرآني، وتركا الباقي للجد تعصيبا.
2 ــ وأعطى الخليفة علي بن أبي طالب الثلثَ للأم والنصف للأخت وما بقي للجد.
3 ــ أما عثمان فوضع الثلاثة في نفس المرتبة، وقسم التركة بينهم بالتساوي: الثلث لكل منهم.
4 ــ وأعطى ابنُ مسعود النصف للأخت فرضا والثلث للجد والسدس للأم.
5 ــ أما زيد بن ثابت فأعطى الأم الثلثَ، وقسم ما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين .
وهذا تلخيص بصري لهذه الحالات على أساس رقم 6 قاسما مشتركا:
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | |
أم | 2 | 2 | 2 | 1 | 2 |
أخت | X | 3 | 2 | 3 | 1,3 |
جد | 4 | 1 | 2 | 2 | 2,6 |
فأنت تلاحظ أن الاختلاف تجاوز الزيادة والنقصان في الحصص إلى الحرمان من الميراث أصلا. فحصة الأخت تراوحت بين الحرمان ونصف التركة، وحصة الجد بين خمس التركة وأربعة أخماسها، في حين خُفِّضت حصةُ الأم إلى النصف في حالة واحدة.
النموذج الثالث: أريدُ رأيَـــك...
يُروى أن عمر بن الخطاب دخل مرة على زيد بن ثابت طالبا فتواه في قضية الجد، وهو خليفة، فأبى أن يُفتيه، فانصرفَ مغضبا معاتبا. ثم عاد إليه في نفس الموعد مُلحا في الطلب، فوعده بجواب مكتوب يسلمه له لاحقا. والكتابة تعني التدبُّر، كما تعني التوثيق. وعندما تسلَّم عمرُ الجوابَ مخطوطاً على قَتَبٍ توجَّه به مباشرة إلى المسجد، وقرأه على الناس. (لعل هذا التحرج والإلحاح ناتج عن كون الفتوى تخص عمر نفسَه، فقد روي أيضا أنه كان أولَ جَدٍّ يرث في الإسلام، والله أعلم). (انظر تفسير القرطبي. تفسير "يوصيكم الله..").
الذي استرعى انتباهي في فتوى زيد بن ثابت أنها لم تدخل في حوار مع نص من النصوص المُؤسِّسة لمنظومة الميراث، بل دخلت في حوار مع الكون، مع خلق الله حيث تسكُن حكمتُه، سلك زيد مسلك الاعتبار والتفلسف: انتقل من المجاز إلى الحقيقة، من "شجرة النسب" إلى شجرة النبات! ما يجري على شجرة النبات من انتقال الماء والغذاء (أسباب الحياة) عَبْــر الجذع (= الجد) إلى الأغصان (= الأبناء) فإلى الغُصينات(= الأحفاد)، يصدق على شجرة النسب. ولذلك حين يُقطع الغصين (الحفيد) تعود حصته من الماء إلى الغصن (الأب)، وحين يقطع الغصن تعود حصته إلى الجذع (الجد). هذا منطق الطبيعة، وهذه دورة الحياة، هكذا تفلسف زيد، ولهذه الحكمة كان أفرضَ أهل عصره. (انظر تفاصيل هذا الحوار الإنساني الطبيعي العميق في تفسير القرطبي ومصادره).
وكان عمر صريحا بدوره حين أخبر زيدا بأن الأمر يتعلق برأي؛ قد يتبناه وقد لا يتبناه. قال عمر: "إني جئتك لتنظرَ في أمر الجد! فقال زيد لا والله! [ثم استدرك] ما تقول فيه؟ [أي ماذا تقول فيه أنت؟]. فقال عمر: ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص، إنما هو شيء تراه، فإن رأيتُه وافقني تبعتُه، وإلا لم يكن عليك فيه شيء ". (ولا تنس أن زايد هو الذي قال لابن عباس: تقول برأيك وأقول برأيي).
لو أن أحدنا تجرأ اليوم وسلك طريق عمر في السؤال، وطريقة زيد في الجواب لاتهم بالزندقة، وعلقت له المشانق.
درسان وسؤال
الدرس الأول: الحاجة إلى العقل والأخلاق
أما بعد، فهذه "معركةُ عقولٍ" تستحق كل التقدير من زاويتين: من زاوية حشدها للحجج النقلية والعقلية، ومن زاوية الأخلاق العالية التي مورس بها هذا الاختلاف. فأقصى ما ظهر خلالها من ضيق لا يعلو فوق قول ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد بن ثابت! يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبَ الأب أبا؟!" عِتابٌ منصب على ما رآه مفارقة في الحجة، وليس على الشخص. ويُروى أن الخليفة عمر بن الخطاب ــ وهو المجتهد الجريء في الحق ــ أبدى وأعاد في تقدير حصة الجد مع الإخوة، ثم عاد، في آخر حياته، ليقول: "أُشْهدُكم أني لم أقضِ في الجَدِّ قضاء"، قال ذلك تحرُّجا لدينه. لقد كانت حجج الطائفتين قويةً، وكان اطمئنانُهم لإرادة الله كبيراً، فانصرفت أنظارهم إلى الموضوع.
لماذا لم يفكر أحدٌ من الصحابة في اتهام الآخر بِــرَدِّ كلام الله كما فعل "فضيلة الشيخ" بنحمزة؟ فما بالُ أقوام يُكفِّرون من أجل السؤال؟!
الدرس الثاني: أصل التمييز، ومناط السؤال؟
من الأكيد أن الإنصاتَ الهادئَ إلى هذا الحوار المفتوح في قضية الإرث، في صدر الإسلام، يَـرُدُّ القولَ بأن للإسلام موقفاً تمييزيا ضد المرأة على أساس الجنس، كما رد دعوى النص المغلق. ومعنى ذلك أن القسمةَ ليست رقمية تعبُّدية، (ليست طقْسا يؤدَّى بقطع النظر عن إدراك حكمته، أو عدم إدراكها)، بل هي قسمة مُقدرة بالأقدار التي تحقق مصالح ذوي القربى (بل واليتامى والمساكين الذين يحضرونها).
والتسليم بهذه المقدَّمة يقتضي ضرورةً البحثَ في الأسبابِ التاريخية الخاصة التي جعلتِ المُشرع يُعطي الرجلَ ضعفَ حصة المرأة في بعض الحالات في تلك البيئة الخاصة البعيدة عن بيئة المدينة الحديثة بقرون. والحمد لله أن الدينسيين المعتدلين صاروا يَخطون اليوم هذه الخطوة، فهم يقرون بأن التمييز ليس جنسيا تعبديا، بدليل عدم شموليته. والحجة على ذلك وجود عدد من الحالات التي تأخذ فيها المرأة مثلَ حصة الرجل أو أكثرَ منها، إذ لو كان التمييز على أساس الجنس لما جاز أن توجد هذه الحالات.
أساس التمييز عندهم هو التكاليفُ الماديةُ التي كُلِّف بها الرجل. ومدارها الإنفاق على المرأة بنتا وزوجة وأما، فهي مكفولة، كما يقولون، من أبيها وزوجه وأبنائها...الخ.
لا شكَّ أنكَ مَسرور وأنت ترى إخواننا الدينسيين قد قطعوا نصفَ الطريق، ولا شك أنك استبقتَ الأحداثَ وانتظرت أن يسيروا في الطريق إلى نهايته. فمن دخلَ هذا الطريق السيار التاريخي الوضعي مُلزم بالسير فيه إلى نهايته، ونهايتُه هي: دوران المسبب مع أسبابه؛ إذا سقطت العلة سقط المعلول. نهايته ما يقدمه الحقوقيون حين يقولون: لقد تغيرت الظروف، ولم تعد المرأة مكفولة، بل صارت كافلة أو متقاسمةً للكفالة مع الرجل، صارت تقتسم الولاية مع الرجل: هو ولي عليها وهي ولية عليه، بالمودة والرحمة، لا بالإكراه وبيت والطاعة. ولذلك وجب النظر في إعادة تقاسم الإمكانيات المادية كما تُتقاسم الأعباء.
لقد دخل إخواننا هذا الطريق السيار بشكل عفوي، وساروا فيه مدة، ثم لمحوا علامة "الأداء" فتوقفوا، رفضوا تأدية مستحقات الطريق، فأَرْبَكوا حركة السير! فما إن يُطلب من الدينسيين ترتيبُ النتائج المنطقية على مقدماتهم حتى تثور ثائرتهم! تثور ثائرتهم حتى ولو جاء هذا الطلب من خارج المعسكر "العلماني" الذي يسبب لهم حساسية مفرطة. حتى ولو جاء من مفكر إسلامي، خطيب جمعة، وإمام مسجد مجتهد، وغيور على الدين، مثل عدنان إبراهيم. فقد سبق لعدنان إبراهيم أن دعا إلى التفكير في الموضوع على أساس الوضعية الجديدة للمرأة، فأقيمتْ له المحاكمات، وقُذف بأقبح النعوت والموبقات، كما سنبين في مقال مستقل، جاهز.
خاتمة: سؤال للتأمل
ما دلالةُ قولِ الرسول (ص) في حق الصحابي الجليل زيد بن ثابت: "أرْحَــمُ أمتي بأمتي أبو بكر... وأفرضُهم زيدُ بنُ ثابت"؟
هذا الحديث صححه كثيرون (ومضمونه مؤيَّـدٌ بوقائع كثيرة على كل حال): فما معنى أن يكون زيد بن ثابت مجتهدا في تخريج المواريث في عهد الرسول ص، عهدِ القرآن والحديت؟
وزيد بن ثابت ليس المجتهد الوحيد المستنبط لِـ"القوانين التشريعية" من "الدستور" (القرآن)، بل هو الأمهرُ في تخريج القضايا، هو الأفرضُ (أو الأنحى) ومعه فرضيون آخرون نَحوا غير "نَحْـوه"، وسلكوا طريقا غير طريقه؟
هذا، وإذا كان هذا الحديث صحيحا، وكان زيد صاحبَ اختيار (وهو التأويل في اتجاه القاعدة العامة، كما تقدم): ألا يدل ذلك على ترجيح الرسول ص لهذا الاختيار على الاختيار الآخر الذي يقدم الدلالة الظاهرة المستقلة لكل نص (قال القرآن: "لهن الثلث"، نعطيهن الثلث دون اهتمام بِـ"المآل" )؟ وهو يدل قطعا على قبول الاجتهادات الأخرى التي تصل إلى حد التوريث والحرمان، كما سبق.
وأخيرا: كيف يقبل الرسول ص اجتهاداتٍ تصلُ إلى هذا الحد و"نتقاذف" نحنُ، ويكفِّر بعضنا بعضا ويُجهِّلُه لمجرد الدعوة إلى التفكير في الموضوع في ضوء المستجدات؟!
ب ــ النصوص المتعاقبة: مسلسل تحريم الخمر نموذجا
ومن النصوص التي تمثل البُعد البيداغوجي التدريجي ــ الذي مرت منه الأحكام والتشريعات ــ النصوصُ التي تعاملت مع الخمر. فقد تدرج حكمُ الخمر، كما هو معلوم، عبر الدرجات التالية:
1) "الإباحة الضمنية" غير الموصوفة بصفة (ترك الأمر على ما كان عليه، وقد استمرت من بداية الدعوة إلى سنواتٍ بعد الهجرة)،
2) تَلتْها الإباحةُ المَرجوحة ("يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وإثْـمُهُمَا أكْبَـرُ مِنْ نَفعِهمَا" [البقرة:219]). الإثم أكبر من المنفعة،
2) إلى التقنين المرتبط بسبب مُعين دون تهجين صريح. ("يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" [النساء:43]). أضافت هذه الآية حرجا إلى صفة الإثم، ويتمثل في إعاقة القيام بركن من الدين في وقته، وفي أحسن ظروفه،
3) وصولا إلى التهجين الذي ارتقي إلى درجة التحريم المستخلص من السياق الدلالي المحيط بالنهي. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". [المائدة:90].
ولكل نص من هذه النصوص هيمنةٌ على الفترة التي تفصل بينه وبين الذي يليه، وهي هيمنة تقيد معنى قولِه تعالى (سابقا أو لاحقا): "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [المائدة 93].
نحن لا نناقش هنا الحكم الشرعي (وقد نوقش)، فهو يؤخذ من الآية المتأخرة زمنا، بل نبحث في دلالة وجود الأحكام الأخرى. وهذه الدلالة متضمنة أولا في الحديث عن "الأـسباب" (أسباب النزول)، كما هي مُتضمَّنةٌ في استمرار النص المنسوخ ضمن المدونة التي تُتلى إلى اليوم. فما معنى استمرار وجود نص معطل الدلالة/الحكم في المصحف الكريم، بل في صدور المؤمنين وعلى ألسنتهم؟
فبديل ذلك كله أن يصدر الله حكمه النهائي منذ البداية، وهو قادر على أن يهيئ الخلق لتقبله أو رفضه بالشكل الذي وقع في نهاية المطاف، أو بأي شكل آخر لو أراد، "لَا يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ" [الأنبياء 23].
وهل استمرار تلاوة نص صار حكمه منسوخا مجرد تعبُّد بالتلاوة، كما اعتقد من قال بذلك، أم هو للعبرة والموعظة، والتذكير بالمسار التاريخي للتشريع؟ الجواب الثاني أرجح عندي. والله أعلم. وترجيح هذا الافتراض يفتح باب الاجتهاد تبعا للظروف وموازنة المنافع والمضار[24].
وأنت لو سألك شخص خالي الذهن، من حضارة أخرى، عن موقف الإسلام من الخمر لأخبرته أن موقف الإسلام تدرج من الإباحة، إلى التقنين إلى التهجين المُحرِّم.
ومعنى ذلك أن موقف الإسلام من الخمر يستخلص من مجموع هذه النصوص المتعلقة به: موقف الإسلام من الخمر متدرج نحو حكم.
يضاف إلى ذلك ما قبل هذه النصوص وما بعدها: ما قبلها السكوت عن الخمر زمنا، وما بعدها الأحاديث النبوية التي قد يكون لها مساس بالموضوع، وأشهرها، وأكثرها إثارة للخلاف بين المشرعين قوله ص: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة". فهذا الحديث يطرح السؤال اللغوي المفهومي، وينقل النقاش إلى مستوى آخر.
لم يعد السؤال هو: ما حكم الخمر؟ بل: ما المقصود بالخمر؟ وليس الجواب هنا من معاجم اللغة فقط، بل هو من تعيين صاحب الدعوة (ص). واعتبارا لهذا الحديث جاء موقف أبي حنيفة من المسكر من غير مُخَمري التمر والعنب، الشعير مثلا. وللخروج من هذا اللبس توجه النظر إلى علة التحريم، والأخذ بالعلل يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فما تحقق بعلة زال بزوالها، وتبقى المهارة في سد الذرائع وفتحها[25].
هذا المسلسل في تحريم الخمر، والرسول ص عليه وسلم حي يتلقى الوحي، هو نفسُه المُسلسل الذي بدأ في تحريم العبودية، ولم يصل مداه وغايتَه ــ بعناية الله وعلى يد غير المسلمين ــ إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبشكل مُحرج للمسلمين الذين مالوا إلى الكسل.
وعندما بلغت إرادةُ الله في تحرير الإنسان غايتها على أيدي غيرهم، ومنعت الأمم المتحدة الرق سنة 1948، مانعوا ثم أذعنوا وصاروا يفتخرون بأن الإسلام وجد الرق ثقافة انسانية ثم خطا خطوات مهمة في التحرير وهيأ الآلية التي تضمن وصوله إلى نهايته، أي اختفاءه. ولو أخلصوا لمنطقهم لاعترفوا بأنهم خالفوا هذه الروح التحررية في الإسلام، فعاقبهم الله بالإذلال من قِبَـل طوائف أخرى من خلقه؛ تُعلِّمهم اليومَ كيف يحترمون حقوق الإنسان، فيماطلون ويراوغون ثم ينصاعون خانعين قبل أن يعلنوا اكتشاف حقوق الإنسان في مزودهم الذي لم يفلحوا في فتحه بأيديهم.
ب ـ 2 ــ البناء اللغوي البلاغي
يأخذ الفقيه بنحمزة على من يستعملون المناهج العقلية في تحليل الخطاب الديني عدم وعيهم بكون هذا النص خطابا إلَـهيا من طبيعة أخرى. وهذا الكلام يجافي الحقيقة الواقعية ويتجاهل التاريخ. يرى نصف الواقعة ويتجاهل عن عمد نصفها الثاني، وهو أن هذا الخطاب الإلهي ربما كان بعيدا عن تصور البشر وفهمهم في صيغته الأولى المحفوظة في عالم الغيب، في اللوح المحفوظ. فتلك الصيغة المحفوظة في عالم الغيب بعيدة فعلا عن متناول البشر، ومنهم "الشيوخ" أيضا. ومن "انجذب" إلى تلك الصيغة بإصرار صار ــ حسب رأي الشيخ اليوسي ــ "مجذوبا"، يعود بجسده ويبقى عقله هناك، فيرفع عنه القلم[26]. أما الصيغة التي وُجِّهتْ لبني البشر ــ وهي التي يعمل بها أهل السنة ــ فقد صيغت بلغتهم وحسب أساليبهم البيانية. وهي الأساليب التي استعملها الأصوليون في حدود ما يفي بحاجتهم في استنباط الأحكام، واعتمدها البلاغيون في استخراج إعجاز القرآن. ثم خَلَفَ من بعدهم خلف تأثروا بثقافة عصور الانحطاط فاكتفوا بالاجترار. ولذلك ترى الواحد منهم ينفش ريشه ويتهكم من العالم كله وهو يردد منظومات من معارف القدماء المطعمة بمنطق أرسطو وبلاغته، كما سبق، والحال أن ذلك التراث أعيدت قراءته وصياغته في أنساق تداولية حديثة أقدر على فهم الواقع الحديث.
وقد ألح القرآن على انتمائه للغة العرب حسب بيانها الذي يفهمه العرب في عدة مواقع، فقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ". [إبراهيم 4] ــ "وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ"[ النحل 103] ــ "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً".[ يوسف 2]ــ "نزل بهِ الرُّوحُ الأمينُ... بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" [الشعراء 103، 195]ــ " وَهَذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً". [الأحقاف 12].
وكانت اللغة العربية عند مجيئ الإسلام لغة ناضجة: لغة شعر وبيان، لغة المعلقات والأمثال والحكم التي جمعت رصيد أمة كانت الكتابة فيها محصورة في حدود ضيقة جدا. كان الشعر معمار العرب الذي يشهد على ماضيهم. وفي ذلك قال عمر بن الخطاب: " كان الشِّعْرُ علم قوم لم يكن لهم علم أصحُّ منه[27]"، ويقال ليت شعري، أي: ليتني علمت بالأمر. وقال القرآن في العرب: "وَقَالُوا أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" (الزخرف43). أي جدلون شديدو الخصومة.
ولذلك توجهت دهشة العرب إلى البعد التخييلي والحجاجي الراقي في القرآن الكريم، فاختلط عليهم أمر تصنيفه؛ التبس الأمر حتى على قريش التي تقاطعت عندها لغات العرب، فقالوا في صاحبه: شاعر وكاهن وساحر... أي صانع فضاءات، وباني حجاجات.
إن نصا بهذا الغنى التخييلي والحجاجي الإقناعي لجدير بأن يُتلقَّى مستويات متباينة من التلقى تبعا لثقافة المتلقي. ولهذا كان من الصحابة من اشتهر بالرأي والنظر، مثل الخليفة عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، ومنهم من عرف بالتوقف عند ظاهر النص، وهم كثيرون، على رأسهم الخليفة الأول أبو بكر.
وقد بقيت قضية اختلاف التأويلات في حدود المتحكم فيه طوالَ الصدر الأول لحضور صاحب الكلمة الفصل الذي كان يحسم القضايا الخلافية بالترجيح حينا والتخيير حينا. ثم زرعت بذرة الاختلاف واستمرت تنمو وتترعرع حتى أصبحنا أمام مذاهب لكل منها أسسه، بل أمام فرق ونحل، أقواها وأشهرها ما دار حول الأخذ بظاهر النص والقول بتأوله، كما سبق بين المعتزلة والحنابلة.
إن مشكل اللغة لا يختلف عن مشكل العقل في التعامل مع الخطاب الشرعي. الأصوليون يفضلون تقديم خدمة تحت مراقبتهم المتعلقة بكفاءة مشروطة بزمان ومكان محددين، واللغة والفكر يطلبان حقهما كاملا.
وإذا كان البعد التشبيهي والاستعاري للغة قد لعبا دورا أساسيا في تكوين التصورات الاعتقادية المذهبية حيث انقسم المسلمون إلى ظاهريين لفظيين لا أدريين، يتحاشون التأويل ويأخذون الكلام على ظاهره تأسيسا على اعتبارات مختلفة، وإلى مؤولين يسعون بمستويات متعددة إلى إعادة انسجام النص، فإن الذي شغل أصول الفقه أكثر هو دلالات الألفاظ والتراكيب في السياقات المختلفة.
وبدل أن يجتهدوا في دراسة السياق انطلاقا من طبيعة النصوص انشغلوا بتعديد دلالات الصور البلاغية. وهذا طريق عقيم ينتج الحفظة والمرددين الذي لا يستطيعون مغادرة الأمثلة التي ذكرها من قبلهم. وهذا سر جمود هذا العلم بالإضافة إلى غياب البعد المقاصدي، كما سبق.
ومن مظاهر هذا الجمود ما نرى عليه حاليا بعض مدرسي الأصول في الجامعة حيث تراهم ــ على الشبكة وليس في الخيال ـــ يعددون حالات خروج التراكيب (الأمر والاستفهام...الخ) عن دلالة ظاهر لفظها بشكل نهائي محصنين كلامهم بمنظومات يطلب من الطلبة حفظها والاستشهاد بها لا بالنصوص الحية والواقع الحي.
وختاما، لا يفوتنا، ونحن نتحدث عن الخطاب التشريعي لا العقدي ولا الوعظي، أن ننبه إلى أن القفزة النوعية التي حققها القرآن الكريم للغة العربية ليست في المستوى البديعي الشعري الذي انشغل به دارسو الإعجاز (مثل الرماني والخطابي والباقلاني والجرجاني، في الأسرار) قبل أن يميل بهم عبد القاهر الجرجاني ــ في أعقاب القاضي عبد الجبار ــ نحو النظم في كتاب الدلائل، بل توجد هذه القفزة في تطويع اللغة العربية الشعرية (الجاهلية) لتصبح حاملة لمضامين تشريعية تتطلب التفصيل والتدقيق. أي خلق نظام لغوي داخل العربية، ومن ضمن هذه التشريعات ما يتعلق بالتنظيم المالي (الميراث والصدقات...)، وغير ذلك من الموضوعات التي لا تتطلب صورا مجازية، ولا تتسع للموازنات الصوتية إلا في حدود، بل تتطلب دقة في غير إطناب.
[1] ـ يتحدث الشيخ بنحمزة عن الخطاب الشرعي الأول والثاني، أي القرآن والحديث باعتبارهما وحيا وخطابا إلهيا، (لا تعليق)، ثم يُلحق بهما خطابا ثالثا يعتبره من "قبيل الخطاب الإلهي"، وهو خطاب الفقهاء! وهذا نص كلامه، فلا تستغرب:
"ثم يلحق به أيضا ما هو من قبيل الخطاب الإلهي: ما انتهى إليه الفقهاء المجتهدون...وهو خطاب آخر غير مباشر...هؤلاء الذين يجتهدون وفق الضوابط الشرعية هم ينبئون عن مراد الله. ولذلك هم يسمون موقعين عن الله... والمجتهد ليس منشئا للحكم، وإنما هو كاشف له...يقول [أي المجتهد]: إن هذا هو الذي أظنه مراد الله وحكمه في هذه النازلة" (الدرس 14 من دروس الكراسي العلمية. درس الأصول). وربما أحس بخطورة هذا الكلام فعاد للتوسع في تبرير الاختلاف في الدرس 54.
[2] ـ نظرا لأن نبتة التعصب واللاعقلانية تنتمي إلى فصيلة الخشخاش و"الحشيش"؛ تورق وتخضر بقوة وسرعة متى وجدت بيئتها المثالية، فإن الزارع الذي يتوخى الستر يُصدم حين يجد البذور التي دفنها في الأرض قد ارتفعت فوق السياج، أمام أنظار الفضوليين. هذا ما وقع للأستاذ أحمد الريسوني في الدروس العشرة التي ألقاها أمام "طلبة العلم الشرعي" في الدوحة، فما إن وصل إلى الدرس العاشر الذي تحدث فيه عن العلمانيين الأتراك والتونسيين والمغاربة الذين اتخذوا المقاصد مدخلا (حسب زعمه) لتمرير عقلانيتهم، حتى فهم الطلبة أمرين: أولهما أن العقلانية داء وبائي ينبغي التصدي له والشفاء منه، والثاني أن المقاصد (التي جاء الأستاذ مبشرا بها) هي فرس طروادة الذي ينبغي تحطيمه! "خسارة فيك غرامي"!
ولهذا أهذر الأستاذ الريسوني الدرس العاشر المخصص (بحلقتيه، رقم 19 و20) للمناقشة والتعميق في كبح جِماح طلبته، وتسكين حساسيتهم ضد العقل، وتنبيههم إلى أن "إشهار" معاداة العقل سيوقعهم في الفخ. ثم دعاهم، بعد ذلك، إلى ملء الفراغ، "واحتلال الشارع كما تحتله قوة الأمن للسيطرة على المظاهرات"!! هذه ألفاظه. ولكنه زاد الطين بلة حين اعتبر المقاصد التي يتحدث عنها الحداثيون والليبراليون والاشتراكيون، ومن إليهم من دعاة العقلانية، "مقاصدَ استعمارية"، "لأسباب متعددة وفوائد يرجونها"! ثم قال "هذه هي المفارقة ونقطة التمييز بين والسمين، والحق والباطل". عفا الله عنا وعنه، لقد ظل طوال ساعتين يصب الماء على نار طلبته ثم يؤججها بصب الزيت.
[3] ــ لم ينفع التقارب المدعى بين المذاهب، على مستوى المقاصد، في التقريب بين الأصوليين، لأن صياغتها كانت غامضة، ومختزلة: لا يصل تشعيبها إلى الطرق والوسائل. فالكل يدعي الوصول إليها بالطريق الذي يختاره، فتحكمت الطرق في النتائج.
[4] ـ اعترض الباقلاني على استعمال كلمة علم في مبحث لا يوفي شروط العلمية، لغلبة الظن عليه.
[5] ـ يخطئ بعض طلبة البلاغة الحجاجية حين يعتقدون أن احتمالية الخطاب التداولي مشروطة باحتمالية كل حججه، والواقع هو أنه لا أحد يحظر على الخطيب استعمال الحجج القطعية البرهانية والتجريبية متى وفرها له موضوع مرافعته، وستأتيه الاحتمالية من تأويل مُحاوره لتلك الحجج ومن توجيهه لها ومنازعته فيها. فما دام الموضوع مفتوحا للتداول فهو مفتوح للاحتمال. ومن هنا فإن خلط الشاطبي في الموافقات بين الأصول بمعنى المصادر الأولى، والأصول بمعنى قواعد الاستنباط، وتدعيم الثانية بقطعية الأولى (إن سلمنا بقطعية بعضها، ونحن لا نسلم به في الواقع)، لا يدفع طابع الظنية عن الأحكام الفقهية. وقد أبدى ابن تيمية وأعاد في دفع الظنية واعتبرها تهمة من تلفيق علماء الكلام، ولكنه لم يصل إلى نفيها قطعيا. (.......).
[6] ـ الدينسية كلمةٌ محايدة: مركبة من الدين والسياسة. وهي الكلمة التي تؤدي بدقة المعنى المقابل للعلمانية في معناها الأول الذي يقف عند الفصل بين الدين والسياسة دون اتخاذ موقف معاد للدين. فالدينسية تعني عندنا الاعتقاد بأن الدين يقدم نظاما سياسيا كافيا لتدبير شؤون الدولة. وفي الدينسية متطرفون كما في العلمانية، لا يرون صيغة للتعايش مع غير المسلمين غير نظام الذمة وحد الردة.
[7] ـ وهذا ينسجم في مستوى أدنى، مع ما ذهب إليه الشاطبي من أن "الفروع" خاضعة كلها للاجتهاد. وقد أشرنا سابقا إلى عدم جدوى ما ذهب إليه من محاولة سحب قطعية المصادر على الأحكام. وللطوفي في هذا المجال اقتراحٌ بلبل النصيين، وجرأ عليهم التأويليين، حين قال بتقديم المصلحة على النص والإجماع. انظر عرضا لوجهة نظره في مقالين على هذا الرابطين:
http://fahmaldin.com/index.php?id=494
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-10614.html
[8] ــ هذا هو المنحى الذي سار فيه الفقيه بن حمزة في محاضراته في كرسي أصول الفقه بالقرويين. وهو منحى انتقده الأستاذ أحمد الريسوني دون تعيين المعني به، في محاضرة عن تجديد الأصول (موجودة على الشابكة). وكان بعض الميالين إلى المقاصد المتحمسين لحفظ البعد العملي التداولي للفقه قد تضجروا من هذا المنحى غير العملي الذي أثقل الأصول بالمسائل الكلامية واللغوية وبكل فضول من القول وهذا هو الموقف الذي عبر عنه بن عاشور في كتابه داعيا للتخلي عن الأصول القديم وبناء مفاهيم إجرائية جديدة.
[9] ـ الدرس 13. من الكراسي العلمية. كرسي الأصول.
[10] ـ ومن أملثه المتكررة: "أمر سيد خادمه"، فالخادم الذي يتحدث عنه لم يعد موجودا، ومنها: "تزوج فاطمة أو أختها" مثالا "للتخيير"! فالزواج يرتب اليوم بين طرفين، لا محل فيه لتخيير تقترحه طرف ثالث.
[11] ــ G. Goldman. Marxisme et sciences humain.
[12] ـ تناقل الأصوليون تركيبة من المقاصد غير منسجمة، يضيفون إليها ويحذفون منها. فبعدما رتبوا ما يصلح حال الناس في سلم من ثلاث درجات: إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات، أرجعوا الضروريات إلى خمس مقاصد: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل. وهذه اجتهادات في حاجة إلى قراءة جديدة في ضوء حاجيات العصر الحديث، لا تتسع لها هذه الخطاطة. وأقل ما يقال فيها أن القول بأن قصد الدين هو حفظ الدين جملة فارغة، في حاجة إلى محتوى. وحفظ النسل حشو يغني عنه حفظ النفوس والعقول...الخ.
[13] ــ "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي، هذا أَكْبَرُ [أكبر من القمر]، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ! إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ". (الأنعام 78).
[14] ـ "إيتاء ذي القربى": بيانٌ لما قبله، وليس مقصدا مستقلا عن العدل والإحسان. مجرد تفصيل تطبيقي. وفي قمة ذوي القربى يوجد المحسنان الأكبران: الأبوان. ولذلك جاء الإحسان إليهما تاليا لعبادة الله، ومرتبطا بها: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " (الإسراء 23).
[15] ـ تحدثنا في مناسبة سابقة عن حاجيات حفظ الكرامة الإنسانية، فأرجعناها إلى حاجيات طبيعية (مثل الأكل)، وحاجيات اجتماعية (التعليم والسكن والشغل)، وحاجيات فكرية (حرية الرأي)، وحاجيات وجدانية روحية (حرية المعتقد والمتخيل). وتسعى الأمم المتحضرة لضمان هذه الحاجيات في دساتيرها باعتبارها حقوقا للإنسان. (انظر بقية الكلام ومناسبته في موقعنا على الشابكة).
ونحن نسعى، بتقليب النظر بين المفاهيم القرآنية والمفاهيم الحقوقية الإنسانية، الى الاقتراب من قوله ص: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" )رواه أحمد)، وفي رواية أخرى: "مكارم الأخلاق". وكذا الحديث الآخر الذي مَثَّل فيه الرسول ص إضافتَه إلى من تقدمه من الأنبياء بحال لبنة في بناء "أحسنه صاحبه وأجمله" إلا موضع لبنةً في زاوية ظل فارغا، أو على غير ما يرام، فكان الرسول ص تلك اللبنة التي كملت البناء وجملته قال ص: "أنا تلك اللبنة". (رواه البخاري).
[16] ـ يَعتز المعتزلة بلقبهم : "أهل التوحيد والعدل". والتوحيد والعدل هما المبدآن الأول والثاني من مبادئهم الخمسة التي تلتقي عندها فرقهم المختلفة. وهم يتناولون التوحيد والعدل في "المنشأ"، حسب لغة التجارة، أي في مستوى ذات الله وصفاته، ونحن نتناولهما في المستوى التداولي أي بين البشر. وكان المعتزلة يقاومون التجسيم المفضي للتعدد، في مستوى التوحيد، والجبر المفضي إلى الاستبداد باسم الله، في مستوى العدل. وبهذا الاعتبار يمتد خيط بين الاعتقاد والتداول.
[17] رسائل أبي علي 1/237. (تحقيق فاطمة خليل. نشر دار الثقافة. الدار البيضاء).
واليوسي من العلماء العاملين بالتزام قوي، والمتصوفة السنيين، من تلاميذ مدرسته النجباء محمد الإفراني. (انظر خبر هذه المدرسة وتفاعلنا معها في كتابنا الإفراني وقضايا الثقافة والأدب. طبع الدار العالمية. الدار البيضاء).
[18] ـ وليت حكومتنا التي يقودها حزب دينسي تقتدي بالخليفة العادل عمر بن الخطاب فتوقف الامتيازات التي منحت في ظروف غير صحية للمؤلفة بطونهم وأصواتهم وتصفيقاتهم بعد أن صاروا عبْـأً، بل عارا على بلدهم: يكنزون ملايين الدراهم على حساب آلام أبناء وطنهم، خاصة المرتزقين منهم بالفن والرياضة، والدين أيضا.
[19] ـ يظهر تضايق الأصوليين السلفيين والدينسيين من الحديث عن "أسباب النزول" من ردود فعلهم إزاء كتب ذ محمد عابد الجابري المخصصة لقراءة القرآن الكريم (محمد عمارة نموذجا). ولذلك تراهم يقومون بإحصاء الآيات المعروفة الأسباب ويقارنونها بالآيات التي لم تحدد أسباب نزولها، ثم يشككون في تلك الأسباب نفسها. (م. بنحمزة. دروس الأصول. الكراسي العلمية). ومن المعلوم أن الإحصاء يخضع لشروط، فهو علم، وإلا صار مضللا، فالنسبة المذكورة قد تكون حاكمة حتى وإن لم تتجاوز 14 في المائة.
[20] ــ كما وقع في الدستور المغربي لسنة 2014 الذي شَبهَهُ البعضُ بقصيدة شعرية، أي أنه مفتوح للتأويل والاجتهاد حسَبَ موازين القوى المنتظرة.
[21] ــ من حديثه عن الإرث. موجود على الشابكة.
[22] ــ أبو النعيم: خطيب مغربي مغمور استغل دعوة أحد رؤساء الأحزاب لإعادة فتح النقاش في قضايا تتعلق بتحقيق المساواة بين الرجال والنساء تفعيلا للدستور المغربي الجديد (2011) فكفر عددا من الزعماء والمفكرين الحداثيين، وقذف الحقوقيات بالعهارة. وقد أدانته محكمة الدار البيضاء.
[23] ـ كيف يجهلون ذلك وقد تحدث عنه مرجُعهم الأول، أي ابن تيمية بتوسع.
[24] ــ في إطار هذا المنطق يحاول الإخوان المسلمون تدبير الوضع "الجاهلي" (حسب تصورهم) الذي وجدوا عليه البلاد العربية التي ساقهم الربيع العربي لحكمها، فهم ينتظرون توفر الأسباب لتطبيق الشريعة، ولكن فئات أخرى من السلفيين الجهاديين تستعجلهم فتحرجهم معتبرة موقفهم تخاذلا. وقد دفعتهم إلى الهلاك في مصر، في حين تصدوا لها في تونس بالحديد والنار، ونظروا إليها شزرا في المغرب فخنست.
[25] ـ هذا المسلسل لم يمر منه تحريم لحم الخنزير بل نزل مرة واحدة باللفظ الصريح مع التحريمات العارضة للمُحلَّلات: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ..." الآية. وعُلِّـل التحريمُ، إجمالا، بأنه "رجس".
[26] ـ أو يعود ببعض عقله فيكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (رسائل اليوسي. الرسالة الكبرى).
[27] ــ ورد في طبقات الشعراء لابن سلام.